آفاق غير مرئية لمستقبل عادل لفلسطين - اسرائيل

بقلم: 

 

أمضيت الأسبوع الماضي في الأمم المتحدة باجراء الممقابلات مع سفراء دول الشرق الأوسط، وقدمت التقريري النهائي الى اللجنة الثالثة للجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد أن أوشكت المدة المحددة لي كمقرر خاص للأراضي الفلسطينية على الانتهاء. وركز تقريري على القضايا المرتبطة بمسؤولية الشركات والبنوك المنخرطة في العلاقات التجارية مع المستوطنات. وعلى ما يبدو أن هذا التركيز أثار الملاحظات من قبل الكثير من الوفود كطريق ملموس للتعبير عن الإستياء جراء مواصلة خرق اسرائيل لتعهداتها بموجب القانون الدولي، وبخاصة فيما يتعلق بالمستوطنات غير القانونية التي يتم توسيعها بطريقة استفزازية في الضفة الغربية والقدس الشرقية في كل لحظة يتم فيها الاستبشار باستئناف المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية وحكومة اسرائيل، على أنه تطور واعد.

وهناك سببان لاعتبار قضية مسؤولية الشركات تكتيكا هاما لرفع الوعي وتطبيق القواعد والمعايير في هذه المرحلة: (١) فهي تشكل بدء المنحدر المنزلق للتطبيق بعد عقود من مبادرات الأمم المتحدة التي تبدو أسيرة التأكيدات الخطابية العبثية لتعهدات اسرائيل أمام القانون الدولي، والمصاحبة للأمل بزخم التطبيق مع دعم الحاصل للأمم المتحدة. (٢) وهو تعبير عن الدعم الضمني للحركة العالمية النامية للتضامن مع نضال الشعب الفلسطيني للتوصل لإتفاق سلام عادل ودائم، وعلى وجه التحديد فهو يعزز مطالب الحملة القوية لمقاطعة اسرائيل الإقتصادية والإستثمارية والتي حققت بذاتها العديد من الانتصارات المشهودة في الأشهر الأخيرة.

وبنيتي من هذا العرض تجنب طرح هذه القضايا ورفع تقريري المتعلق بإحساسي للمزاج الدبلوماسي في الأمم المتحدة فيما يتعلق بمستقبل علاقات اسرائيل / فلسطين. وهناك انفصال حاد بين الدعم المهني للجمهور لاستئناف المفاوضات كتطور ايجابي مع الإدراك السري للتشكيك بما يتوقع. وفي هذا المجال، هناك ادراك عارم بأن الظروف غير ناضجة للدبلوماسية المثمرة، وذلك للأسباب التالية: الرفض الواضح للقيادة السياسية الإسرائيلية لتبني نتاج سياسي قادر على تلبية حتى أدنى الطموحات الفلسطينية، فظاهرة الاستيطان تقرر مصير أي شكل قابل للحياة من حل الدولتين، كما أن غياب الوحدة الفلسطينية بين السلطة الفلسطينية وحماس من شأنه إعاقة موقفها التمثيلي والشرعي.

وأخطر ما يقلق في الجانب الفلسطيني هو ما اذا كان يمكن حماية مصالح وحقوق عموم الشعب الفلسطيني في عملية سلام ويمكن تحقيقه في الاطار الدبلوماسي الراهن. وعلينا التذكر دائما بأن الشعب الفلسطيني لا ينحصر فقط بأولئك الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي. فهناك اللاجئون في دول الجوار واللاجئون في فلسطين المحتلة والمطالبة بعودتهم الى أماكن سكناهن التي هجروا منها. وهناك الأقلية الفلسطينية القاطنة في اسرائيل، وما بين ٤ الى ٥ ملايين فلسطيني يشكلون الشتات الفلسطيني وحقيقة التهجير القسري.

ومن الواضح ايضا أن السلطة الفلسطينية تواجه مأزقا خطيرا، إما الرضوخ للعروض غير المقبولة التي تطرحا اسرائيل والولايات المتحدة، أو رفضها والتعرض للوم مرة اخرى من قبل تل ابيب وواشنطن لرفضها عرض السلام. ويوجد القليل من القلق الإسرائيلي بأن يقبل الفلسطينيون فعلا المقترحات الأميركية‘ مما قد يدفع اسرائيل من جانبها الى رفض ما تقترحه واشنطن، وتجنيب الفلسطينيين الاحراج الذي تفرضه معضلة البلع او البصق. أي انه عندما تجبر اسرائيل على اظهار يدها، قد تبدو فعليا غير راغبة بالسماح لأي حل للنزاع على قاعدة تقرير المصير للفلسطينيين، حتى وإن كان لدرجة كبيرة في صالح اسرائيل.

وفي الواقع، فضمن الاطار الدبلوماسي توجد الكثير من الشكوك حول ما اذا كانت القيادة الإسرائيلية الراهنة تقبل بدويلة فلسطينية، حتى وان منحت سيادة اسمية. وفي الواقع، فمن الوجهة الفلسطينية، يبدو انه من غير المتصور بأن شيئا ايجابيا قد ينجم عن المفاوضات المباشرة الراهنة، وهناك تقدير واسع بأن السلطة الفلسطينية وافقت على المشاركة فقط بعد أن تعرضت لضغوط قاسية من البيت الأبيض والوزير كيري. وفي هذا المغزى، فأكثر ما يمكن ان تأمله رام الله هو ضبط الضرر.

وهناك ثلاثة مواقف حاضرة وسط اكثر الدبلوماسيين المفكرين في الأمم المتحدة ممن تعاملوا مع الحالة الفلسطينية لسنين طويلة ان لم يكن لعقود.

الموقف الأول يؤمن بامكان حدوث معجزات في السياسة، وبأن حل الدولتين ما زال ممكنا. وعادة ما تتجنب هذه الرؤية منزل الشيطان، اي المكان الذي تستوطن فيه التفاصيل، التي حتى وإن ضغطت لا يمكن ان تطرح سيناريو يفسر كيف يمكن تقليص المستوطنات الى درجة كافية تسمح بظهور حل حقيقي للدولتين من هذه الجولة من المحادثات.

والموقف الثاني يختار دعم استئناف المحادثات المباشرة كونها تفعل شيئا، والذي يبدو مفضلا من عدم فعل شيء. ويدعم وجهة النظر البايخة هذه الشعور على الأقل بأنهم يفعلون شيئا.

والموقف الثالث الأكثر خصوصية وسرية يوهم ذاته بأنه صوت الواقعية في عالم السياسة، والذي يزدري الدفاع عن الحقوق والعدالة الخاصة بفلسطين. واستنتج هذا الرأي بأن اسرائيل سيطرت وانتصرت وبأن كل ما بوسع الفلسطينيين فعله هو التأقلم مع النتيجة المعاكسة والاعتراف بالهزيمة والأمل بأن الإسرائيليين لن يدفعونهم الى جولة ثالثة من التهجير (الأولى عام 1948 والثانية عام 1967 ) على شكل نقل للسكان في اطار التعاطي مع ما تبقى مما يساورهم من قلق خطير بسبب فجوة الإخصاب التي تتسبب بالتوتر الذي يخشى منه بين ممارسة الديمقراطية والابقاء على الحلم الصهيوني الأولي بالدولة اليهودية، وهو ما يطلق عليه بالقنبلة الديموغرافية.

وفي الوقت الذي ارفض فيه هذه المواقف الثلاثة، لن أترك موقعي كمقرر خاص بالشعور أن الدبلوماسية بين الحكومات وآفاقها التخيلية لديها الكثير مما تعرضه على الشعب الفلسطيني، حتى عن طريق تفهم التوجهات الناشئة في الصراع، والإقرار اقل بحقوقهم، وفوق كل ذلك حق تقرير المصير. وفي الوقت ذاته، وعلاوة على ذلك، زدت من اعتقادي بأن للأمم المتحدة دورا هاما للقيام به في ما يتعلق بالمستقبل الإيجابي للشعب الفلسطيني وتعزيز شرعية السعي للحل الذي يرتكز الى الحقوق، بدلا من التوصل لنتيجة ترتكز الى القوة والتي تسمى سلاما يتم تفصيله في حفل دولي من الخداع، وعلى الأرجح في حديقة البيت الأبيض، في هذه المرحلة التي تلعب فيها الأمم المتحدة دورا هاما في تشريع الظلم الفلسطيني، من خلال الاشارة المتواصلة الى القانون الدولي وحقوق الانسان والأخلاقية الدولية.

يشير الإسرائيليون (والرسميون في الولايات المتحدة) الى إدراكهم لدور الأمم المتحدة، من خلال تكرار التشديد على رفضهم غير المشروط لما يصنف على أنه "مشروع نزع الشرعية،" والذي يعتبر نقل الدعائية المخادعة من الطلب الحقيقي في دعم الحقوق الفلسطينية، الى الادعاء المضلل بأن منتقدي اسرائيل يحاولون تحدي حق اسرائيل في الوجود كدولة ذات سيادة. وللتأكيد، فان الفلسطينيين يقودون بنجاح حرب شرعية ضد اسرائيل للسيطرة على الأرض القانونية والأخلاقية المرتفعة، لكنهم في هذه المرحلة لا يشككون في الدولة الإسرائيلية، وانما في رفضها احترام القانون الدولي بخصوص الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني.

ودعونا نعترف بحقيقة مزدوجة. الأمم المتحدة لاعب جيوسياسي يتم التلاعب بسلوكه من خلال المال والقوة في العديد من القضايا الأساسية، وبضمنها فلسطين / اسرائيل. وهذا الإقرار المطلق يقيد بشدة فاعلية الأمم المتحدة فيما يتعلق بقضايا العدالة. ولحسن الحظ، فهذه ليست كامل القصة. فالأمم المتحدة ايضا هي لاعب معياري يتفوه بمظالم الشعوب والحكومات ويؤثر في النقاش العام المتعلق بأجندة السياسة العالمية. ولها رافعة رمزية كبيرة في اضفاء الشرعية على المطالب. وبكلمات اخرى، يمكن للأمم المتحدة قول ما هو حق، بدون ان تكون بالضرورة قادرة على عمل ما هو صحيح. وهذا التمييز يلخص قصص التفوه بالمطالب الفلسطينية وعدالة النضال الفلسطيني، بدون التغلب على العوائق السلوكية في المجال الجيوسياسي التي تعيق تحقيقها.

وما تركز عليه هذه الفجوة، يتمثل في أن المناخ السياسي غير صالح بعد لاجراء المفاوضات الحكومية التي قد تتطلب من اسرائيل والولايات المتحدة إعادة حساب اولوياتهما والتأمل في السيناريوهات المستقبلية البديلة، بطريقة تكون متطابقة اكثر في دعم درع الحقوق الفلسطينية. ومثل هذه التغيرات في المناخ السياسي جارية حاليا، ولم تعد المسألة تغيير الرأي العام، وإنما حشد الدعم الشعبي الاقليمي والدولي في تاكتيكات اللاعنف في رفض ومقاومة الوضع الراهن القائم. وفي عام 2011، اثار الربيع العربي التوقعات بأن مثل هذا الحشد قد يندفع، غير ان التطورات غير الثورية، وانعدام الإستقرار السياسي والذعر الإقتصادي قادوا مؤقتا، او على الأقل بددوا تلك الآفاق، وقللوا من مشهد النضال الفلسطيني.

وعلى الرغم من تلك التطورات المعاكسة في الشرق الأوسط من وجهة فلسطينية، يبقى من الممكن في الأمم المتحدة اطلاق حملة واسعة للترويج لمسؤولية الشركات فيما يتعلق بالمستوطنات، والتي بالتدريج يمكن أن تمتد الى الأنشطة الإسرائيلية غير القانونية الأخرى (مثل الجدار العازل وحصار غزة والسجن والانتهاكات الاعتقالية وهدم المنازل). ومن شأن هكذا عمل ربط الجهود داخل الأمم المتحدة لتطبيق القانون الدولي مع الفاعلية المقامة اصلا في المجتمع المدني الدولي التي يقودها مهندسو المقاومة غير العنيفة للقرن الحادي والعشرين. وفي الحقيقة، أن الوهمين (المقاومة المسلحة والدبلوماسية الدولية) المتزاوجين مع استراتيجية مراجعة لما بعد اوسلو يعطيان النضال الفلسطيني هوية جديدة (مقاومة اللا عنف وحملة التضامن الدولية والحرب المشروعة) مع طاقة تحررية متزايدة.

ومثل هذا التركيز يعكس رؤية الواقعية الفائقة التي ذكرت أعلاه بأن النضال هو بالضرورة انتهى، وبأن ما تبقى للفلسطينيين هو الاعتراف بالهزيمة وبأن على الإسرائيليين إملاء شروط "معاهدة السلام." وبينما نقر بأن مثل هذه الرؤية العالمية قد تستند الى تفكير مأمول، الا أنه من الملائم ايضا الإشارة بأن معظم الصراعات السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عكست نتاج الحروب المشروعة اكثر من ميزان القوة القاسي. فالتفوق العسكري والرافعة الجيوسياسية فشلا في حقبة الحرب الاستعمارية في ستينات وسبعينات القرن الماضي.

وفي هذا الإطار يتعين الفهم بأن المشروع الإستيطاني الإستعماري الذي تنتهجه اسرائيل هو في الجانب الخاطىء من التاريخ، ولهذا فهو يتناقض مع المظاهر، وهناك منطق في الأمل بالمستقبل الفلسطيني والأسس التاريخية بأن لا يخضعا للتصورات الكئيبة لأولئك الذين ينادون بعباءة الواقعية.

 

* مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية