القضية الفلسطينية: الرؤية واستراتيجيات الحل

بقلم: 

 

عندما كنت طفلا صغيرا ظللت أستمع دائما في حفلات الأعراس في السودان إلى أغنية عن فلسطين، وكانت كلمات الأغنية تقول ‘يا فلسطين حربك متين’ وكانت القضية الفلسطينية في ذلك الوقت حية في الوجدان السوداني ، وكان معظم الناس يعتقدون أن ما حدث للشعب الفلسطيني هو أكبر مأساة واجهها شعب في العصر الحديث، ذلك أن شعبا بأكمله قد شرد من أرضه من أجل ان تعطى لشعب مهاجر تحت ذرائع دينية وتاريخية.

ولم يكن الموقف في العالم العربي يختلف عنه في السودان، ذلك أن معظم الدول العربية كانت تعتبر المأساة الفلسطينية قضية تهم العالم العربي كله ولن يتحقق الأمن العربي في مجمله إلا بعد أن تحل هذه القضية، وقد تصدت مصر بصفة خاصة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر إلى هذه القضية ووجد عبد الناصر شعبية كبيرة بسبب رفعه شعارات تحرير فلسطين، لكن عبد الناصر كان يعمل في إطار واقع عالمي يفرض قيودا على الحركة في هذا الاتجاه، فمن ناحية كانت الولايات المتحدة تعارض أي عمل معاد لإسرائيل – وذلك بسبب ضغط اللوبي الصهيوني على الإدارة الأمريكية – وكان العالم العربي يؤمل كثيرا على المساعدات التي تأتيه من جانب الاتحاد السوفيتي، وصدق كثير من العرب أن الاتحاد السوفيتي يساند القضايا العربية وفي مقدمها قضية فلسطين، لكن الاتحاد السوفيتي لم يكن يهدف إلى شيء سوى تسويق أسلحته في العالم العربي، ولم تكن أسلحة الإتحاد السوفيتي هجومية بل كانت في معظمها دفاعية وهي من نوع رديء، ولم تصمد في كثير من الأحيان أمام السلاح الأمريكي الذي زودت به إسرائيل، ولم تكتف الولايات المتحدة بتزويد إسرائيل بالسلاح بل حولتها إلى واحدة من أكبر الدول النووية في العالم، إذ يرجح أنها تمتلك ما لا يقل عن مئتي رأس نووي.

وعلى الرغم من ذلك فقد حاول الرئيس عبد الناصر الدخول في مواجهة مع إسرائيل انتهت بحرب الأيام الستة التي دمر فيها سلاح الجو المصري بكامله وهو قابع في المطارات المصرية، وكانت هزيمة حرب الأيام الستة ذات وقع أليم على كل الدول العربية، وعلى الرغم من أن الشعوب العربية رفضت تنحي عبد الناصر عن قيادته فهي ظلت تشعر بألم شديد تجاه هذه الهزيمة التي جعلت إسرائيل تفرض احتلالها على كامل شبه جزيرة سيناء وتقلص الدور المصري الذي ظل يمثل تحديا أمام دولة إسرائيل. لكن مصر لم تستكن لهذه الهزيمة وصمم الرئيس أنور السادات على أن يلحق هزيمة بإسرائيل تعيد التوازن المصري من جديد وقد تحقق ذلك من خلال تمكن قواته من عبور قناة السويس في عام 1973 وهو العبور الذي جعل الدول الغربية تعيد حساباتها في المنطقة، وتسعى من أجل أن توجد نوعا من التصالح بين مصر وإسرائيل، وعلى الرغم من أن هذا التصالح أعاد شبه جزيرة سيناء إلى السيادة المصرية من جديد فهو قد فرض قيودا على تحرك القوات المصرية داخل سيناء ما يجعل السيادة على شبه جزيرة سيناء غير مكتملة. ولدى هذا التحول الكبير في العلاقات المصرية الإسرائيلية بدأ العالم العربي يتخذ خطوات بدت في أول أمرها سرية بين الإسرائيليين والفلسطينيين ثم خرجت بعد ذلك إلى العلن بعد اتفاقات ‘أوسلو’ التي رأت أن الحل للقضية الفلسطينية يكمن في حل الدولتين المتجاورتين بناء على قرار مجلس الأمن رقم 242، ويبدو هذا الحل منطقيا من الناحية النظرية، ذلك أن إسرائيل امتلكت قدرات عسكرية جعلت من الصعب إخراجها من الأراضي التي احتلتها، وقد أعلنت إسرائيل ما سمته الخيار ‘شمشون’ الذي يقوم على نظرية علي وعلى أعدائي، ذلك أنه إذا تعرضت إسرائيل إلى الخطر فهي قادرة على جعل إنهاء وجودها مكلفا ومستحيلا مع توافر السلاح النووي لديها، وبالطبع فإن إسرائيل ترفض حل الدولة الديموقراطية الواحدة لأنها تعتقد أن ذلك لن يكون في صالحها في المستقبل بسبب الكثافة السكانية الفلسطينية، وهي لذلك تطالب الفلسطينيين في الوقت الحاضر أن يعترفوا بها كدولة يهودية وذلك أول طلب لدولة في العالم تريد أن تعرف نفسها على أساس ديني.

وعلى الرغم من قبول الفلسطينيين حل الدولتين فإن إسرائيل مازالت تماطل في إنهاء المشكلة عن هذا الطريق، وهي مازالت تمارس بناء المستوطنات في المناطق الفلسطينية دون أن يكون هناك تحرك من جانب المجتمع الدولي يلزم إسرائيل بحل الدولتين في ظل وجود صمت عربي كامل بعد أن تراجعت القضية الفلسطينية في سلم الأولويات وبدأت كثير من الدول العربية تستعد لمرحلة جديدة من تاريخها خاصة بعد ثورات الربيع العربي. وتبدو إسرائيل مرتاحة لهذا الواقع لأنه أزاح كثيرا من الأعباء عن كاهلها في هذه المرحلة، ولكن إسرائيل تخطىء خطأ كبيرا إذا ظنت أنها يمكن أن تستمر تحت نظرية ‘الكبار يموتون والصغار ينسون’، ذلك أن القضية التي تواجهها هي قضية شعب أخرج من أرضه، وهو يعيش في معسكرات اللجوء وفي مناطق الهجرة، والذين يعيشون في المناطق الفلسطينية يشعرون أنهم لا يمارسون حياتهم بصورة طبيعية أمام العسف والتعنت الإسرائيلي.

وإذا نظرنا إلى هذا الواقع في مجمله، وجدنا أن إسرائيل تخطىء خطأ كبيرا إذا ظنت أنها يمكن أن تستمر دون أن توجد حلا للقضية الفلسطينية، ذلك أن هناك شعبا يتزايد في عدد سكانه وهو ينتظر حلا لقضيته، ولن يكون هذا الحل بالتهجير إلى مناطق عربية أخرى، بل لا بد أن يكون في داخل الأراضي الفلسطينة ذاتها. وعلى الرغم من ذلك فنحن لا نعتقد أن الحل يكمن فقط في أيدي الإسرائيليين بل لا بد أن يكون هناك دور عربي فاعل ويجب أن تعود القضية الفلسطينية إلى الاهتمام العربي كما كانت سابقا، لأنه بدون ذلك فلن يتأكد السلام في المنطقة العربية كلها، ومن جانب آخر يجب ألا يظهر الشعب الفلسطيني نفسه بأنه يعيش حياة طبيعية في أراضي الضفة الغربية لأن ذلك يخدم المصالح الإسرائيلية، والمفروض أن يتجه الشعب الفلسطيني نحو المقاومة الحقيقية، وبالتالي يجب ألا يكون هناك انقسام بين ‘فتح’ و’حماس′، لأنه إذا كانت تريد المنظمة أن تحقق أهدافها عن طريق التفاهم والمباحثات فإن ذلك لا يلغي ما تدعو إليه ‘حماس′ من ضرورة أن تكون هناك مقاومة مسلحة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، ولا شك أن وجود المقاومة المسلحة هو الذي يجعل إسرائيل تفكر بجدية من أجل التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين بإعطائهم مطالبهم، وهنا لن تفكر إسرائيل في سلاحها النووي لأنه لا يوجد هناك ما يدعو إلى استخدامه إذ هي تواجه فقط مقاومة تسبب لها كثيرا من الإزعاج، ولا يمكن وقفها إلا بعد أن تستجيب إلى المطالب الفلسطينية. وكنت دائما أعتقد أن أكبر خطأ ترتكبه إسرائيل هو عدم التوقف للتفكير في المطالب الفلسطينية العادلة والاستجابة لها، خاصة أن غالبية الشعب الفلسطيني تسكن في مناطق محيطة بها، فماذا تستطيع إسرائيل أن تفعل، إذا قرر الشعب الفلسطيني السير على الأقدام من أجل استعادة أرضه وبلاده، يجب هنا أن تفكر إسرائيل بأسلوب حديث كما يجب أن يفكر الجانب الفلسطيني بطريقة تستفيد من التجارب العالمية في التعايش خاصة إذا كانت هناك عقبات حقيقية تقف أمام تحقيق انتصار حاسم من جانب واحد، ولكني لا أعتقد أن القضية قد وصلت الآن إلى هذا المستوى من التفكير لأننا مازلنا ندور في الحلقة القديمة دون أن يكون هناك اختراق يجعل الطرفين يتوصلان إلى الحل الذي ينهي القضية بالطريقة التي تحقق للفلسطينيين مطالبهم وتجعل الإسرائيليين يشعرون أنه من الضروري تطوير رؤيتهم في قضية هذا الصراع المستمر.

المصدر: 
القدس العربي