المشكلة فينا.. ما لم تكن هناك ثورة في القيم والمفاهيم!

بقلم: 

أمس احتفلنا ، وكما في كل عام، بذكرى وعد بلفور وتبارينا في التصريحات والخطب والبيانات ، ولربما بدأ البعض منذ الآن يفكر في الأعداد لما سيقوله في العام القادم في هذه المناسبة.

كنت في أواسط القرن الماضي طالبا في المرحلة الاعدادية حين وقفنا في طابور الصباح بمدرسة سلوان الاعدادية فتحدث إلينا مدير المدرسة آنذاك المرحوم عبد الرؤوف حمزة ( وأظنه كان من بلدة عنبتا ) عن هذه المناسبة ولم تكن قد مضت على حرب 1948 والهجرة بضع سنوات ، ثم طلب منا أن نصفها بعبارة واحدة فتسابقنا في كيل الشتائم لبريطانيا واللورد بلفور ولم نتوقف عن المسابقة إلا عندما قال أحد الطلاب إن وعد بلفور هو ..." وصمة عار في جبين الأمة العربية " ..عندها توقفت المسابقة وطلب منا المدير أن نصفق لذلك الطالب !

عشرات السنين مضت ونحن نحيي هذه الذكرى الأليمة بالخطب والبيانات نشتم بريطانيا ونردد العبارة التقليدية ..." وعد من لا يملك لمن لا يستحق "... ووضعنا يتردى من سيء إلى أسوأ...ومع ذلك فإن أحدا لا يستطيع وقف عجلة الأدانة والشجب لأنها أصبحت جزءا من ثقافتنا وأسلوبا نضاليا ً امتهنه البعض منا لأنه أقل وسائل النضال كلفة وأسرعها إثارة للحماس الغوغائي واجتذاب التصفيق !

حين نراجع تاريخنا نجد أن هذه الأمة أنجبت الآلاف من المتعلمين والمثقفين والمتميزين الذي تعدت شهرة البعض منهم وآثارهم حدود الاقليم ووصلت إلى المستوى الدولي ومع ذلك فإنهم لم ينجحوا في تغيير واقع هذه الأمة وتغيير اتجاهها في مسار التاريخ.

الذي يقرأ تاريخنا منذ مطلع القرن الماضي ومن قبل وعد بلفور يجد أن هذا الشعب لم يُصب يوما بالعقم ولكنه مصاب بداء مزمن وهو داء أنانية الحكام والصراع على الكراسي والاقتتال على السلطة من قبل أن تكون له كراسٍ أو أن تكون له سلطة.

وقد كان هذا هو الحال في عشرينيات القرن الماضي وفي ثورة عام 1936 وفي المواجهات خلال حرب 1948 التي أدت إلى ضياع فلسطين ، وفي كل ما أعقب ذلك من محاولات استنهاض أو تجميع للقوى وعلى جميع المستويات. وكانت هذه الظاهرة تختفي لبعض الوقت ثم تطل برأسها كلما سنحت لها الفرصة.

لقد شهدت فترة ما بعد هزيمة 1967 ولادة المقاومة الفلسطينية بانطلاقة حركة فتح وما تبعها من حركات وجبهات فلسطينية أو عربية بوجوه فلسطينية ، ولكن المقاومة لم تنجح في توحيد صفوفها وظلت هي الأخرى تمارس مهنة الصراع على السلطة وعلى الكراسي.

ويسجل هنا للرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات قدرته الفذة في الحفاظ على قاسم مشترك يحتوي الجميع ، وقدرته على استيعاب الخصوم قبل الأصدقاء مهما قيل في الوسائل أو الاغراءات التي كان يتبعها لتحقيق ذلك الغرض .

فقد كان يرى في قادة الفصائل الأخرى شركاء ، فاختلفوا معه ولكنهم لم يختلفوا عليه. وها نحن اليوم ما زلنا نعيش الانقسام والصراع على سلطة اللاسلطة ، ونحتفل في نفس الوقت بكيل الشتائم لبريطانيا وبلفور...ونعفي أنفسنا من المسؤولية.

أذكر اجتماعا في غزة ، ارتفعت وتيرة النقاش فيه حد الصراخ واستشاط الشهيد أبو علي مصطفى غضبا وهاجم الرئيس الراحل أبو عمار بعبارات قاسية غاضبة وغادر القاعة والشرر يتطاير من عينيه. ولقد ظن بعضنا أنها القطيعة ، وفوجيء البعض حين رأوا أبو عمار يحضر للاجتماع في اليوم التالي ويده تتشابك بيد أبو علي مصطفى والابتسامة تعلو وجهيهما . وأذكر أيضا ، تلك الصورة الرائعة للرئيس الخالد أبو عمار وهو يحمل كأس الماء بيده يعين الشيخ الشهيد احمد ياسين على الشرب وهو على فراش المرض بعمان بعد أن قامت إسرائيل مكرهة باطلاق سراحه ونقله إلى عمان إثر فضيحة محاولة اغتيال خالد مشعل المشهورة.

كان ذلك هو زمن العمالقة ، زمن الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي ربما كان حالة نادرة من العمل التوحيدي ، وبرحيله عدنا إلى مربع الانقسامات والصراع على الكراسي.

ومع اقتراب ذكرى رحيل الشهيد القائد أبو عمار فإننا لا نملك إلا أن نترحم على أيامه ، ونذكر محاسنه ، فلكل إمرىء ما له وما عليه.

ونظرة للوراء نقارن بها حالنا مع الطرف الآخر تكشف لنا كيف استطاعوا أن يخلقوا أمة من العدم ودولة من اللاشيء وقوة دولية من حالة ضعف وهوان ، وكيف أننا نهدم أمة ونضيّع وطنا ونستسلم للضعف والانهزام.

لقد كانت اليهودية ديانة فحولتها الحركة الصهيونية إلى قومية ، وكان اليهود معروفين بالاشتغال بالمال فاستطاعت الحركة الصهيونية أن تحول اهتمامهم نحو الأرض واستغلت الأساطير والترهات التي عززت الانطباع بارتباطهم بالأرض والزراعة والمحاصيل وفصول السنة ، وكانوا مشتتين منقسمين فاستطاعت أن تصهرهم في بوتقة اللغة الواحدة ، والحلم الواحد ، ومواجهة الخطر الواحد، وصاروا شعبا وأمة ودولة بل وقوة على مستوى العالم !

أما نحن ، فإننا نسير في الاتجاه المعاكس تماما. فقد تخلينا عن الأرض والزراعة ، وتحولنا إلى المدنية الزائفة ، وانقسمنا شيعا وقبائل ، وتنازلنا عمليا عن حق العودة ، ونادينا بالدولة في الضفة والقدس والقطاع ، ثم رفعنا شعار السلطة ، ثم قبلنا بمبدأ تبادل الأراضي وتنازلنا من خلال القبول بذلك المبدأ عن المطالبة بالانسحاب إلى خطوط عام 1967 وما زلنا نمارس لعبة القفز على الحبال ، ولربما بدأ البعض اليوم يدرك وبعد فوات الأوان بأن السفينة تغرق ، فبدأ يبحث عن قوارب النجاة ليقفز منها محاولا تبرئة نفسه من وزر غرقها.

المشكلة كما يبدو هي بنيتنا الثقافية والمجتمعية ، وما لم نعد النظر في أساس هذه المشكلة فإننا سنظل نعاني منها مهما اختلفت الظروف والأوضاع. فنحن أحوج ما نكون إليه هو المصارحة مع الذات والبحث عن أسباب هذا الداء الذي ابتلينا به منذ عشرات السنين بل ولربما أكثر من ذلك. فهناك خلل في تربيتنا الاجتماعية ونظمنا التعليمية وقيمنا الثقافية.

نحن بحاجة إلى ثورة في المفاهيم والقيم تقود إلى ثورة في الأداء ، وما لم تتحقق تلك الثورة فسنظل وللأسف الشديد نمشي القهقرى إلى الوراء.

المصدر: 
القدس