إدوارد سعيد: "التاريخ ليس لوحاً نمحو ما كُتب فوقه"

بقلم: 

إدوارد سعيد (1935-2003) هو أحد أبرز المفكرين الطليعيين في القرن العشرين. لبث يعمل حتى آخر أيام عمره تحت وطأة المرض، مواصلاً "الكفاح"، وبذل الجهود لأجل تصويب المفاهيم، وجلاء الحقيقة.

ولد إدوارد سعيد في القدس في فلسطين عام 1935، ثم انتقل مع عائلته إلى مصر في عام 1947، إثر صدور قرار تقسيم فلسطين. تلقى دروسه الإبتدائية في المدرسة الأميركية، ومنها انتقل إلى كلية فيكتوريا، التي عُرفت بأنها لأبناء النخبة.

في السادسة عشرة من عمره سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية، وحاز الليسانس في الأدب الإنكليزي، ونال شهادة الدكتوراه من جامعة هارفرد عام 1964. كما حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعات كثيرة في العالم. ونال جوائز عديدة منها جائزة ويلليك التي تقدمها رابطة الأدب الأميركي المقارن . كما منحته جامعة كولومبيا في العام 1992 درجة الأستاذية، وهي أكبر درجة علمية تمنحها الجامعة لأستاذ فيها.

أثارت كتاباته النقاش والجدال، واستحوذت طروحاته عن الامبريالية والاستشراق اهتمامات الكثيرين ومعظمها يدور حول الآليات الحقيقية للقوة والهيمنة والسيطرة. واعتُبر سعيد، في عيون الجالية العربية الأميركية، رمزاً لقوة المعرفة في مواجهة القوة المادية والاضطهاد، واحد الذين تحدثوا عن الفهم والغرض الخاطئين للثقافة والدين.

عانى إدوارد سعيد طويلاً مع مرض السرطان، ودام ذلك نحو 10 سنوات وتوفي في 24/9/2003 في مدينة منهاتن في ولاية نيويورك، ودفن في برمانا لبنان.

أحدث كتابه "الاستشراق (1978) الأثر البعيد في الثقافتين العربية والغربية وفي الفكر الاستعماري، وبدد الكثير من الافكار المسبقة حول العرب والإسلام. وربط فيه الرؤية التاريخية والمعرفية وامتزاج القوة والثقافة والسياسة لأجل الهيمنة على الشرق الاوسط . وظل يذكر هذا الكتاب حتى آخر عمره ويعتبر أنه "ليس في وسع إنسان أن يكتب عن الشرق أو يفكر فيه أو يمارس فعلاً متعلقاً به، أن يقوم بذلك من دون الأخذ بالاعتبار الحدود المعوقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل. بكلمة، فان الشرق بسبب الاستشراق لم يكن (وليس) موضوعاً حراً".

رسخ إدوارد سعيد، في أبحاثه وكتاباته الإحساس القوي بهويته وفي معادلها (المنفى)، وهذا ما جعله واحداً من أبرز المدافعين عن حقوق الانسان والأقليات في العالم.

خاطب إدوارد سعيد الثقافة الغربية في داخلها، وامتلك القدرة على التحدث بطلاقة وعمق عن القضية الفلسطينية. ومع ذلك، لبث على مسافة نقدية في مقاربته للقضايا المسكوت عنها. وكل ذلك بجرأة وصدق ومعرفة. كتابه الآخر الذي ترك الأثر وخاض في السجالات هو "الثقافة والإمبريالية". من خلاله، كشف سعيد، وعبر تحليل وقراءة كتابات الروائيين البريطانيين كيفية توفيرهم للامبريالية شرعيتها للثقافة.

عارض إدوارد سعيد اتفاقيات أوسلو، ودعا إلى قيام دولة ديموقراطية واحدة بثنائية الشعبين، وحث الشعبين الفلسطيني واليهودي على بذل الجهود، وقبول قدرهما المشترك، على غرار ما حدث في جنوب أفريقيا.

والحال، لم تكن كتاباته الأكاديمية وحسب هي التي صنعت شهرته ومكانته الفكرية. بل يكمن سر ذلك في سعيه الدائم إلى إيجاد وخلق جسور التواصل بين الثقافة والسياسة والاجتماع، في سياق واقعي وتاريخي ومتواصل.

عاش إدوارد سعيد غربة المنفى، وطأة المنفى: منفى المكان، منفى اللغة، منفى الهوية، منفى الظلم التاريخي، المنفى الفردي والمنفى الجماعي. حتى أنه وصفه غير مرة بأنه "نوع من المنبوذية الدائمة". وكتب غير مرة يقول " في القرن العشرين تحول المنفى من كونه عقاب فرد إلى عقاب قاسٍ، لفئات من البشر ولشعوب بأسرها".

إن كل ذلك التنظير والكتابة عن المنفى، يعادله الحب الأصيل للوطن، للأرض، لذلك الانتماء الذي لا يريده أن يضيع أو يتناثر في العالم. فهو على غرار عنوان كتابه الشهير ما كان يريد ان يرى نفسه "خارج المكان".

رأى سعيد إن دور المثقف هو نقد السلطة، وبذلك كأنما كان يحاول إحياء الدور الرسالي للمثقف. ومع اتساع الاطروحات حول العولمة وصدام الحضارات، وقف سعيد معترضاً ومنتقداً ما سمي "صراع الحضارات"، لانه اعتبره مدمراً للهويات ولنسق العالم.

في العام 2003 نشر مقالاً في مجلة "لوموند دبلوماتيك" بعنوان "الانسانوية هي السور الأخير في وجه البربرية" وانتقد فيه قادة أميركا بأن "التاريخ ليس لوحاً يمكن أن نمحو ما كتب فوقه. وأن إعادة رسم حدود الشرق الأوسط، المتضمنة مجتمعات عريقة وشعوباً متنوعة، ليست حبات فستق تُرَجّ وتُخلط في وعاء زجاجي".

في العام 2000 زار المنطقة الحدودية في جنوب لبنان بعد الانسحاب الاسرائيلي منها، وتناول حجراً وقذفه في اتجاه موقع للجنود في الجانب الاسرائيلي. هذه الحادثة أثارت المؤيدين لإسرائيل في أميركا، واطلقوا عليه "بروفسور الإرهاب"، وطالبوا جامعة كولومبيا باتخاذ اجراءات ضده. ولكن سعيد رد بان القاء الحجر لم يكن سوى تعبير عن الفرح بجلاء الإحتلال عن جنوب لبنان. وإنه كان يرمي مع حفيده في لعبة منافسة فرحة.

يبقى من الجوانب الفنية في شخصية إدوارد سعيد انه كان عازفاً ماهراً للبيانو، وناقداً موسيقياً، وكانت له كتابات في الشعر والقصة. وأسس مع المايسترو الاسرائيلي دانيال بارنبويم فرقة موسيقية مشتركة لنشر السلام.

كان محباً للموسيقى والفنون، وانعكس ذلك في آرائه وكتاباته. وصفه الشاعر الراحل محمود درويش بانه "ضميرنا وسفيرنا إلى الوعي الانساني". وقال عنه المفكر الفلسطيني رشيد الخالدي "إنه لتحدٍ كبير أن يتكون جيل جديد من المفكرين، تكون لهم العاطفة والقوة ذاتها مثل إدوارد سعيد".

لبث إدوارد سعيد حتى آخر حياته وفياً لمبادئه القائمة على قيم العدل وحقوق الانسان. وجمع في خطابه البعد الزمني النقدي، والبعد الرسولي النبيل المفتوح. وبذلك كان ضميراً معلناً لضحايا التاريخ والذين لا صوت لهم. وقدم حواراً عميقاً مبنياً على المعرفة والمقاربة المختلفة. تلك المعرفة شكلت، فيما بعد، رافعة أساسية اعتمد عليها سعيد في كفاحه الطويل لأجل الحرية والعدل والكرامة الانسانية.

المصدر: 
المستقبل