يهود إسرائيل وتحديات الهجرة المعاكسة

بقلم: 

لم يحل السجال المحتدم الذي ترتفع نبرته باطراد في الأوساط السياسية والدبلوماسية والإعلامية الصهيونية، على إيقاع مواقف وتصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو حيال ما يسميه “الخديعة” التي يسوقها الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني، و”المخاطر” التي يمكن أن تترتب على تقارب طهران مع عواصم الغرب، ولاسيما واشنطن التي يبدو أنها بصدد “الانقلاب” على سياستها التقليدية المتعلقة بملف إيران النووي، وربما العديد من الملفات الأخرى في الشرق الأوسط، لم يحل دون انفجار سجال آخر له صلة بإحدى أهم الركائز التي حملت المشروع الصهيوني منذ انطلاقته السياسية في العام ،1897 وزودته بالأوكسجين الضروري للتحقق على أرض الواقع في العام ،1948 والاستمرار في الحياة حتى وقتنا الحاضر . والمقصود هنا، قضية الهجرة اليهودية التي باتت تأخذ منحى معاكساً في السنوات الأخيرة، وبخاصة بين أصحاب الكفاءات من الشبان الذين ضاقوا ذرعا بتداعيات الأزمة الاقتصادية المستدامة، وخاب أملهم في إمكانية الوصول إلى بر الأمن والاستقرار والسلام .

وعلى رغم أن هذا النمط من السجال ليس الأول من نوعه في كيان الاحتلال الذي شهد موجات مد وجزر على صعيد الهجرة إلى ومن فلسطين المحتلة، خلال العقود الماضية، غير أن ما يدور اليوم يبدو مثقلاً بالهواجس والتحديات والمخاطر المختلفة عن كل ما سبق . والأمر هنا يتجاوز المعطيات الرقمية التي تشير إلى أن من يغادر فلسطين المحتلة سنوياً، لفترات طويلة، هو حوالي 22 ألف شخص، في حين يعود إليها نحو 11 إلى 12 ألف شخص، بعد غياب سنوات، وهو ما بدا جلياً في سجل أصحاب حق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية التي جرت في كانون الثاني/ يناير الماضي حيث تبيَن أن نحو 620 ألف شخص، أي حوالي 11% من أصحاب حق الاقتراع، هم في تعداد المهاجرين . الأمر يتجاوز هذا المعطى الرقمي إلى رزمة من المستجدات المتعلقة بهذه القضية الحيوية للدولة العبرية، والتي تحرك مكامن القلق في أوصال التجمع الصهيوني اليهودي .

ويبدو أن الأبرز في هذه المستجدات، ذات الطابع النوعي، والتي تترجمها حقيقة إصرار اليهود في العالم الذين يتمتع نحو 90% منهم بمستوى معيشة أعلى من المتاح في “إسرائيل”، على البقاء في بلدانهم الأصلية، مع حدوث تبدل جوهري على وظيفة “الوكالة اليهودية” المعنية اليوم بتوجيه مبعوثيها للعمل في التعليم في أماكن تواجد اليهود خارج فلسطين المحتلة، لا يتعلق فقط برغبة أجيال الشباب اليهودي، المتصل بالواقع العولمي والممتلك لناصية لغته، في مغادرة مربع الخوف الوجودي الذي ترسمه التطورات السياسية والميدانية الوازنة في المنطقة، أو حلمه في إحداث قطيعة مع الواقع الاقتصادي في الدولة العبرية الذي تتعمق فيه الهوة الطبقية باستمرار، وإنما يتصل كذلك بنضوب المادة البشرية “اليهودية” القابلة للاستجلاب إلى “أرض اللبن والعسل”، بعد الهجرة الكبرى من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق أوائل تسعينات القرن الماضي، لاسيما أن أبناء الديانة اليهودية هم الوحيدون الذين تتقلص أعدادهم باطراد بسبب الزواج المختلط (58% من يهود أمريكا يتزوجون زواجاً مختلطاً) والخلاف التاريخي على تعريف “اليهودي”، وميل الأجيال الشابة إلى الاندماج في مجتمعاتهم من دون إيلاء أدنى اهتمام بالأيديولوجيا أو ما يسمونه في الكيان “الحلم الصهيوني”، وهو ما يفسر استجلاب الفلاشا إلى الكيان من إفريقيا قبل سنوات، ومحاولة تهجير مجموعة من الهنود الحمر الذين يقطنون على ضفاف الأمازون، في المقطع الذي يخترق جمهورية بيرو في أمريكا اللاتينية، بزعم أنهم “جزء من جالية يهودية “فريدة” يعود أصلها إلى أواخر القرن التاسع عشر” .

بناء لى ما سبق، وتحت وطأة هرولة الكفاءات واللامعين في العلوم والتكنولوجيا ورجال الأعمال نحو مغادرة الكيان، وتوجه أغلبيتهم إلى ألمانيا التي تعتبر الأكثر ازدهاراً في أوروبا، في مفارقة تعبر عن السخرية من المبالغة في دور الهولوكوست (المحرقة) والنازية في إقامة دولة “إسرائيل”، يرتفع منسوب الخشية الصهيونية من احتمال حدوث هجرة معاكسة لليهود الروس في حال وصول الاقتصاد الروسي إلى المستوى اللائق، وما يمكن أن يجره ذلك من خلل في ميزان الديمغرافيا بين الفلسطينيين واليهود، وخاصة في ظل تزايد المؤشرات على جنوح قطاعات واسعة من يهود الكيان نحو التفكير في الهجرة . وحسب استطلاع للرأي نشرته صحيفة “هآرتس” أوائل أغسطس/آب الماضي، فإن 37% من “الإسرائيليين” يفكرون في الهجرة والعيش في دول أخرى، فيما اظهر استطلاع آخر بأن 78% من العائلات “الإسرائيلية” تدعم سفر أبنائها إلى الخارج، محملة الحكومة أسباب ذلك .

ومع ذلك، وبالتضاد مع كل الحقائق التي يكشفها واقع تفاقم الهجرة المعاكسة التي يعتبرها القادة الصهاينة “اخطر من التهديد الإيراني وحزب الله” على الدولة العبرية، سواء ما تعلق منها بزيف المزاعم الصهيونية حول ارتباط اليهود بما يسمونه “أرض الميعاد”، واغتراب أغلبية الشبيبة اليهودية عن “إسرائيل” والأطر اليهودية والصهيونية، وانتفاء الحاجة إلى سرقة المزيد من الأرض الفلسطينية، تواصل حكومة نتنياهو تصعيد أعمال الاستيطان التي ازدادت بنسبة 70% في النصف الأول من هذا العام بالمقارنة مع العام الماضي، حسب تقرير منظمة “السلام الآن”، تحت عباءة ذات المزاعم والأكاذيب المتعلقة ب “حق الشعب اليهودي في البناء على أرضه التاريخية”، و الاستجابة للنمو السكاني الذي يجري تضخيمه، وفقاً للاعتبارات الأيديولوجية والسياسية والمالية التي تتناسب ومصالح وتوجهات أصحاب رأس المال وقوى الائتلاف الحاكم .

المصدر: 
الخليج