حرب أكتوبر... الدروس والعبر

بقلم: 

 

في خضم الجدل السياسي العاصف الذي يدور في واشنطن حول مشروع رفع سقف مديونية الميزانية الفيدرالية لصالح تمويل قانون الرعاية الصحية "أوباماكير"، لم يتنبّه أحد من المتجادلين لمناسبة حلول الذكرى الأربعين لحرب أكتوبر 1973 بين العرب والإسرائيليين. وهي التي كانت لها تداعيات هائلة على اقتصاد الشرق الأوسط والعالم أجمع ما زلنا نعيش تحت تأثيرها حتى الآن.

ففي السادس من أكتوبر من عام 1973، شنّت مصر وسوريا هجوماً مفاجئاً ناجحاً على القوات الإسرائيلية التي كانت تحتل صحراء سيناء والضفة الشرقية لقناة السويس ومرتفعات الجولان. وفي السادس من شهر أكتوبر، تمكنت القوات المسلحة المصرية من عبور القناة باستخدام تقنيات جديدة مثيرة للإعجاب من ابتكار المهندسين المصريين أنفسهم، ونجحت في اقتحام خط بارليف وتابعت اندفاعها باتجاه وسط سيناء. واقتربت القوات السورية من تحقيق انتصار حاسم عندما فاجأت بهجومها الشامل القوات الإسرائيلية التي تحتل مرتفعات الجولان وباستخدام قوّة جرارة، وكادت تنجح في طردهم منها. وبرز في البدايات الأولى لتلك الحرب الاستخدام الفعّال "للقنابل الموجهة بدقة" PGM المضادة للطائرات والدبابات والتي أرسلها السوفييت لدعم القوات المصرية والسورية، وكانت وراء التفكير بابتداع وسائل تدمير بعيدة المدى، وهكذا بدأ عصر استخدام الصواريخ.

وكانت الولايات المتحدة هي الداعم الأول لإسرائيل، فيما كان الاتحاد السوفييتي يدعم مصر وسوريا. وساد الخوف كلاً من واشنطن وموسكو من أن تؤدي هذه الأزمة إلى اشتباك القوتين العظميين في حرب كبرى لا يعلم أحد مداها وأخطارها على العالم أجمع. وبلغت الأوضاع من الخطورة ما دفع إدارة نيكسون الذي كان غارقاً حتى أذنيه في فضيحة "ووترجيت"، أن توجه الأوامر لقواتها المسلحة باتخاذ وضعية "الحالة الدفاعية 3" التي تمثل المستوى الأعلى من الخطورة منذ أزمة الصواريخ الكوبية لعام 1962 أو (أزمة خليج الخنازير) عندما تم رفع درجة التأهب العسكري إلى وضعية "الحالة الدفاعية 2". وكان السبب الأساسي وراء هذا التوتر الأميركي- السوفييتي الكبير هو القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة بإنشاء جسر جوي لا سابق له في التاريخ لنقل الأسلحة وقطع الغيار والعتاد العسكري إلى إسرائيل لمساعدتها على التصدي لأعدائها عندما اقتربت قواتها من حافة الانهيار والهزيمة وحتى تتمكن من استعادة زمام المبادرة على الأرض.

وكان ردّ العرب على هذا الدعم العسكري الهائل لإسرائيل، أن عمدت الدول العربية المنتجة للنفط إلى فرض حظر على تصديره إلى الولايات المتحدة ما أدى إلى حدوث نقص هائل في مخزون البنزين في عموم الولايات المتحدة منذ البدايات الأولى لظهور منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبيك". وبرزت من خلال هذه الأزمة حمّى البحث عن مصادر للطاقات البديلة للنفط، وعن تعديل الخصائص والمواصفات الأساسية للتجهيزات والأدوات التكنولوجية (كالسيارات والطائرات وغيرها من الآلات) من أجل رفع كفاءتها في استهلاك مصادر الطاقة المتوافرة. وكان من بين نتائج هذا الإجراء، تسريع العمل في توسيع مشاريع التنقيب والإنتاج من حقول النفط في آلاسكا في أميركا وبحر الشمال في أوروبا.

وأدى الدعم العسكري الأميركي الكبير إلى استعادة القوات الإسرائيلية لزمام المبادرة وتمكنت من السيطرة على سيناء ومرتفعات الجولان وأحكمت حصارها على مواقع الجيش المصري الثالث على الجبهة الغربية. وفي الجبهة الشمالية، نجحت القوات الإسرائيلية في دفع القوات السورية إلى ما وراء خط الهدنة لعام 1967 وباتت تهدد دمشق ذاتها. وتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار بناء على مبادرة أطلقها وزير الخارجية الأميركي الشهير هنري كيسنجر.

وعقب وقف إطلاق النار مباشرة بدأت رحلة التفاوض بين المصريين والإسرائيليين والتي انتهت إلى توقيع معاهدة السلام لعام 1979. وهي المعاهدة التي لا زالت سارية المفعول حتى اليوم، تُعدّ حجر الزاوية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، والقاعدة الأساسية لتحقيق الاستقرار والأمن ذي الأهمية الكبيرة بالنسبة لإسرائيل ومصر بالرغم من استمرار الخلافات حول قضايا أخرى تتعلق بالمنطقة وخاصة ما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية. والآن، وبالرغم من الفوضى والمآسي التي تشهدها سوريا ولبنان، بقيت الحدود الإسرائيلية- السورية هادئة نسبياً، إلا أن هذا الوضع قد يتغير لو تم إسقاط نظام الأسد.

وهناك الكثير من العِبَر والدروس التي يمكن استقاؤها من حرب 1973. فبالنسبة للاستراتيجيين العسكريين، تمثل نموذجاً فريداً لإيضاح الطرق والأساليب التكتيكية التي تضمن نجاح الهجمات المباغتة. فلقد كانت دوائر المخابرات الإسرائيلية على علم بتحركات وأماكن انتشار كافة الوحدات العسكرية المصرية والسورية قبل اندلاع الحرب يوم 6 أكتوبر، إلا أنها كانت واقعة تحت تأثير القناعة التامة من استحالة وقوع هجوم عليها لأنه لن ينجح، وأن مصر وسوريا لا يمكن أن تعمدا إلى إطلاق أوار حرب نتيجتها معروفة سلفاً.

وأما في مصر، فكانت استعادة القوات المصرية لهيبتها بعد هزيمة عام 1967، الدافع الأساسي في قرار الرئيس الراحل أنور السادات بالتفاوض مع إسرائيل من موقع الندّ للندّ. وكانت حرب تحرير سيناء ضرورية لتحقيق هذا الهدف.

وتعلّم الدبلوماسيون من رحلات كيسنجر الشاقّة والتي لم تكن تتوقف بين دمشق والقاهرة والقدس، بأن "الدبلوماسية المكوكية" shuttle diplomacy تتطلب الكثير من الصبر والعمل الشاق. وما لبثت أن أصبحت أسلوباً وطريقة عمل بالنسبة لوزراء الخارجية الأميركيين الذين لا يتوقفون عن السفر والترحال لحل المشاكل العالقة.

وبالنسبة للاقتصاديين، قدمت هذه الحرب درساً مهماً عندما أوحى لهم الحظر النفطي بضرورة البحث عن بدائل جديدة للنفط كمصدر للطاقة، ولكنها أوضحت مدى خطورة النقص الطارئ للإمداد بالنفط على المدى القصير وتداعياته الكارثية على المستهلكين والاقتصاد برمته.

وفيما يتعلق بالتوازن العالمي للقوى، مثلت حرب أكتوبر 1973 أخطر تحدّ بعد الحرب العالمية الثانية عندما وجدت الولايات المتحدة نفسها لأول مرة في مواجهة جدية مع دول من خارج الكتلة الشيوعية لحلف "وارسو" والصين، وهي الدول التي فرضت عليها الحظر النفطي.