فلسطين تضيع بين التهويد والمفاوضات

بقلم: 

ليس هناك في السياسة ما هو أخطر على الوعي الجمعي من تحميل المواقف والأمور والاتفاقيات أكثر من مضمونها وتبرير ذلك بأنه محمولها، لا سيما حين تكون نُصوصاً، إذ لا يجوز للتفسير أو التأويل أو الاجتهاد الابتعاد التام عن مضمون النص . لم ينص اتفاق أوسلو لا على دولة فلسطينية ولا على خلع المستوطنات ولا على استعادة القدس “الشرقية”، بل هناك نصوص في الاتفاق تُقر “بحق” المستوطنات في التوسع الطبيعي أي الناجم عن النمو الطبيعي للمستوطنين، في حين لا يوجد نص لمصلحة القرى والمدن الفلسطينية، كما أن الريف جميعه بقي بيد الاحتلال وهو60 في المئة من الأرض (منطقة ج) . ولم ينص الاتفاق على انسحاب الجيش الصهيوني بل على إعادة انتشاره أو تموضعه داخل الضفة الغربية نفسها .

هنا نلاحظ الفارق بين النص الذي تم التوقيع عليه وبين القراءات الرغائبية أو ذات قصد التضليل . لقد تُركت جميع هذه القضايا مفتوحة لما بعد الفترة الانتقالية وهي خمس سنوات والتي امتدت (حتى الآن) إلى عشرين سنة! بانتظار الحل النهائي . وهكذا، فلا يزال التفاوض جارياً، بل ويتم تشغيل ماكينته بحرارة في الذكرى العشرين للاتفاق من دون أية ملامح لاسترجاع شيء يُذكر من الكيان! وهذا ما يعزز اعتقاد كثرة متكاثرة من الفلسطينيين والعرب أن هذا الاتفاق يتم استخدامه من قبل الكيان الصهيوني كمرحلة إنتقالية باتجاه يهودية الدولة (أي تهويد كامل فلسطين) وليس إقامة دولة فلسطينية . والمستوطنات هي التعبير الفعلي عن الصراع لأنها تعني استلاب الأرض التي هي جوهر الصراع . وليس بيت القصيد في عدد المستوطنات الذي يتوالد دوماً فهي أكثر من 120 في الضفة، و12 كسوار حول القدس الشرقية، عوضاً عن أكثر من مئة نقطة استيطانية (تزعم الحكومة الصهيونية أنها -في نظرها غير شرعية- ولكنها تتلقى الدعم وكل التسهيلات والقروض) . إن بيت القصيد كامن في أمرين معاً: أن الاتفاق طبقاً لنصوصه، وفر فرصة حرية قضم الأرض بالتوسع الذي لا يحده سوى طاقة الكيان المالية، وتراكم أكبر عدد ممكن من المستوطنين فيها . إن منطقة (ج) أي 60 في المئة من الضفة هي مفتوحة للاستيطان بلا حدود، ويزيد عدد المستوطنين فيها على 350 ألفاً، إضافة إلى 300 ألف في المستوطنات التي تحاصر القدس . ومن بين 600 موقع في فلسطين المحتلة جميعها قررت الحكومة الصهيونية دعمها وإقراضها، هناك 91 موقعاً هي المستوطنات في الضفة الغربية، وكانت في العام الماضي 85 . وبالمقارنة، فإن سدس المساعدات والقروض تذهب للمستوطنات، مع أن نسبة المستوطنين لا تزيد على 1 مقابل 14 من سكان الكيان، ما يبين الأولوية للاستيطان . ويزداد عدد المستوطنين ب 15،000 شخص سنوياً، وتصل نسبة النمو السكاني فيها إلى 5 .4 في المئة، وهو رقم لا تصل إليه أية بقعة في العالم، ما يؤكد طابعه الاستيطاني الموجه سياسياً بكل شدة .

وتتوقع المصادر الصهيونية أن يصل عدد المستوطنين إلى مليون بعد أربع سنوات . وكان يمكن لهذا العدد أن يكون أكبر لولا تغيرات بنيوية في الاقتصاد الروسي، ما أقنع كثيراً من اليهود بعدم الهجرة، واقتنع بعضهم بالعودة إلى روسيا . إن مليون مستوطن في الضفة الغربية مقابل مليونين ونصف المليون فلسطيني ليس نسبة بسيطة . وهذا ما قد تجادل بشأنه سلطة الكيان بمعنى أن هؤلاء المستوطنين وحدهم (وجود اجتماعي قومي) وليس مجرد وجود طارئ، لاسيما أن اتفاق أوسلو لم ينص على إخراجهم من الضفة الغربية؟ فكيف يمكن تفريغ المستوطنات ومن سيدفع التكاليف؟ بل حتى إذا ما أُقيمت دولة فلسطينية كيف ستعالج وجود هذا العدد الضخم؟

وفي شتى الأحوال، هناك سؤال آخر: من الذي سوف يأكل الآخر؟ بنية استيطانية ذات صناعات متعددة ومتطورة أم بنية اقتصادية تعتمد على الريع، وتهمل مواقع الإنتاج وتعاني من الفساد ويزداد اعتمادها على المال الأجنبي، ما يؤكد أن المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية مصيدة؟ رغم أن الكيان يُبدي تركيزاً على القدس، إلا أنه لا يهمل أي شبر يمكن اقتناصه في مختلف أنحاء الضفة الغربية . لقد جرى إهمال فلسطيني وعربي للقدس، بل وحتى التغاضي عن سياسات الاحتلال التي هي غير مخفية . ولعل السياسة الأخطر هي منع الفلسطينيين من كامل الضفة الغربية من دخول القدس مما قوّضَ اقتصادها . فهي قبل عشرين سنة كانت تستقبل يومياً 110 آلاف شخص من الضفة الغربية . ولذا أدى المنع إلى خِواء اقتصادي فيها على المستويين التجاري والصناعي لأن اعتمادها كان على الزائرين اليوميين وليس على سكانها . كما يقوم الاحتلال بتوظيف فلسطينيين من الأراضي المحتلة 1948 في وظائف في القدس كي يتحول أهلها إلى عاطلين عن العمل . وكل هذه ضمن سياسة الاحتلال في إزاحة المقدسيين كي يقرروا الذهاب إلى الإنزياح الذاتي، أي الهجرة التي تبدو شكلياً طوعية، إما إلى الضفة أو إلى الخارج، لأن أول هدف للاحتلال هو تفريغ القدس من أهلها، وهذه ليست الطريقة الوحيدة . إلى جانب هجمة الاحتلال لقضم الأرض وتركيز المستوطنين وتفريغ القدس، حيث يتم قضم الأرض من تحت المسجد الأقصى، إذ وصلت الأنفاق إلى ما يشبه مدينة تحت القدس، هذا إلى جانب اقتحام المسجد بالمستوطنين وبحراسة الجيش الصهيوني وهي مقدمات لأمرين أولهما اقتسام المسجد مع اليهود، ما يعني تهويده وثانيها هدم الأقصى نفسه، وهو الأمر الذي يجب ألا يُؤخذ كمجرد صراخ واستغاثة أو دعاية .

ولعل آخر هجمات الكيان في القدس هو اختراقه للنظام التعليمي حيث تمكنت بلدية القدس الصهيونية من تطبيق المنهج الصهيوني (البجروت) في خمس مدارس . وكما يقول المقدسيون تكمن وراء ذلك مكاسب قدمتها البلدية المذكورة لبعض الوجهاء الذين سهلوا إغواء بعض الطلبة لتقديم “البجروت” . وهذا يكشف عن تقصير كبير فلسطينياً وعربياً في توفير المساعدات الإدارية والتنموية لمجتمع المدينة المقدسة . كل هذه الهجمات تتم بينما يغرق الوطن العربي في إشكالات تتوالد داخلياً من دون أفق لتجاوز قريب لها .

وبما أن السلطة الفلسطينية لا تجرؤ على إيلاء رعاية خاصة للقدس خارج السياسات التي يضعها الاحتلال، فإن القدس تعاني: منع الحضور الشعبي من بقية الضفة وهو الذي ينعش اقتصادها، وعجز السلطة عن تجاوز الحدود التي يفرضها الاحتلال .

لقد تحدث الأمريكيون منذ ست عشرة سنة عن دعم اقتصاد الحكم الذاتي وكانت بداية ذلك ثلاث أوراق من (يو .اس إيد) عن دعم الاقتصاد وحتى عن فرص الاستثمارات الأمريكية في الحكم الذاتي (انظر مجلة كنعان العدد 85 نيسان 1997 ص 98-120)، والأوراق تتحدث عن عدة مئات من ملايين الدولارات . ماذا حصل؟ عملياً لا شيء . واليوم يفاوض نائب رئيس وزراء الحكم الذاتي د . محمد مصطفى ويطالب ب 550 مليون دولار لسداد ديون القطاع الخاص على السلطة . أما مجموع الديون فهي : 4،2 بليون دولار، منها 2 .1 ديون للمصارف، وبليون ديون خارجية، وبليون ديون لصندوق التقاعد، والباقي ديون للقطاع الخاص . كيف تراكمت هذه الديون دون استثمارات تدر دخلاً؟ هذا مع العلم أن بداية السلطة كانت بلا ديون . هذه الصورة التي يحملها د . مصطفى مع أنه هو نفسه الذي كتب عام 1997 مستبشراً بأن “السلام” سوف يفتح طريق تدفق استثمارات المغتربين الفلسطينيين . وماذا حصل لا شيء . وها هي النتيجة، مصادرة الأرض وتزايد عدد المستوطنين، وتصحر اقتصادي في القدس، وتراجع قطاعات الإنتاج في الضفة الغربية جميعها وتدافع قطعان المستوطنين إلى الأقصى يواجههم الناس بأيدٍ عارية .

من هنا الخشية أن تكون وعود كيري الاقتصادية خُلَّباً تستغل أزمة مديونية السلطة لتمرير مفاوضات سياسية عبثية . ما يلاحظه المرء في الأرض المحتلة وفي القدس أن هناك استنتاجاً إيجابياً لدى الجيل الشاب مفاده وجوب الاعتماد على الذات بغض النظر عن الإمكانات . ففي القدس تنشط اللجان القاعدية ضد تهويد التعليم وحماية المنازل المهددة بالمصادرة، بينما في بقية الضفة الغربية يتم التحرك ضد الاحتلال في أكثر من صعيد .