مات الحاخام وبقي إرثه العنصري

بقلم: 

قلائل هم الذين لم يسمعوا باسم الزعيم الروحي لحركة “شاس” الممثلة الرئيسية لليهود الشرقيين في “إسرائيل” الحاخام عوفاديا يوسيف الذي حظيت جنازته، قبل أيام، باهتمام شعبي ورسمي “إسرائيلي” استثنائي، ومشاركة واسعة من المتدينين الشرقيين والغربيين، وأبناء المستوطنات، والمدارس الإعدادية العسكرية الدينية، ذلك أن الرجل الذي عاش تسعة عقود ونيَف، ويعتبر الأشهر بين الزعماء الروحيين اليهود الذي شكَل رحيله مناسبة لقياس منسوب الانزياح المجتمعي الصهيوني نحو اليمين، ولعودة الروح إلى الجدل المتعلق بدور المؤسسة الحاخامية في تنمية التطرف العنصري الديني و”القومي”، مع ملاحظة أن المحكمة العليا الصهيونية أقرَت، مؤخراً، أنه لا يوجد برهان على وجود قومية “إسرائيلية”، وتشريع هذا التطرف وقوننته في كيان الأبرتهايد الصهيوني، فضلاً عن تسليط الضوء على مسألة التمييز العرقي الذي يعاني منه اليهود الشرقيين، كان الأشد وقاحة وكراهية وغوغائية وعنصرية في تصريحاته ضد العرب والفلسطينيين، ولا سيما أبناء مناطق 1948 الذين يتعرضون لقمع مركَب وتمييز عنصري غير مسبوق .

عوفاديا هذا، هو من أقام حكومات وأسقط أخرى، بصفته زعيم “شاس” الروحي، وهو من بنى جيلاً من الصهاينة الشرقيين المتدينين العاطلين عن العمل الذين يعتاشون من المخصصات والتبرعات، والمعفيين من أداء الخدمة العسكرية تحت شعار يوسيف “توراته عمله”، كما أنه لعب دوراً بارزاً في تكريس الاستقطاب والانشقاق في التجمع الصهيوني، وبالأخص ما بين العلمانيين والمتدينين، وجال طويلاً في دهاليز الفتاوى الدينية التي تعزز هذا المنحى . ففي رأيه أن العرب “نمل وعقارب”، والمعلمين العلمانيين “حمير”، وقضاة المحاكم (الصهيونية) “ليسوا جديرين بمحاكمة اليهود”، أما قضاة المحكمة العليا فهم “فارغون وشريرون” . فيما النساء اللواتي سبق وأن شنَت حملة حريدية واسعة لإبعادهن عن الجيش، ومنعهن من تمثيل الجمهور، فلم تكن مواقف يوسيف حيالهن أخف وطأة مما سبق، إذ ليس عليهن، فقط، وفق الحاخام الراحل، الجلوس في المقاعد الخلفية للحافلات، وإنما كذلك الامتناع عن زيارة “حائط المبكى” (البراق) كونهن “دنسات” . أما “الأغيار” أو “الغوييم” أو “النفايات البشرية” من غير اليهود، فهم، بنظر عوفاديا، ولدوا فقط “كي يخدمونا، وقيد استخدامنا . وإلا فليس لهم مكان في العالم” .

في مقابل ذلك، كان ليوسيف الذي كسر احتكار حزب “أغودات يسرائيل” الأشكنازي للحريدية المقدسية، وأرغمه على ترك حيَز لحركة اليهود الشرقيين في أوائل ثمانينات القرن الماضي، وأنشأ حركة “شاس” التي حصلت على أربعة مقاعد كنيست في العام ،1984 ومن ثم رفعت مقاعدها إلى 17 (الآن 11) . كان له، في السياسة، دور فاعل ومؤثر في هندسة الحكومات الائتلافية الصهيونية، وفي العديد من القرارات الحكومية المصيرية، كما في قضية تمرير اتفاقية أوسلو، كما أنه الوحيد بين حاخامات “إسرائيل” الذي أفتى بجواز إعادة أراض محتلة، إن كان هذا يحقن الدماء أو فيه “فداء للنفس” حسب التعبير التوراتي .

غير أن كل ذلك، وبخلاف المزاعم المطرزة بمديح الحاخام السليط اللسان، حول دوره في إعلاء شأن اليهود الشرقيين، ودفعهم نحو احتلال مكانة موازية لنظرائهم الغربيين، لا يحجب حقيقة أن جوهر ما قام به عوفاديا يوسيف، خلال العقود الماضية، ليس أكثر من تحويل أبناء الطوائف الشرقية إلى الأشكنازية وإلحاقهم بها بطريقة مختلفة، حيث ما زالت المدارس الدينية الفخمة والحلقات المميزة للبنات أشكنازية كلها إلى الآن . وكمعظم أبناء مسؤولي حركة “شاس”، يريد أحفاد الحاخام الراحل أن يتعلموا فيها، لا في المؤسسات الشرقية التي بقيت في المكان الثاني .

أما بخصوص مشهد التمييز الأوسع ضد الشرقيين، من قبل الأشكناز الذين يسيطرون على الإعلام والقضاء والاقتصاد والسياسة، فيشير الصحافي أمنون ليفي إلى أن هذا التمييز يشمل طيفاً واسعاً من المجالات، بما في ذلك السلك الأكاديمي في الجامعات والكليات، والإعلام، والاقتصاد، والمناصب الحكومية العليا، وأذرع الاستخبارات المختلفة .

في كل الأحوال، وبخلاف المفترض والمنطقي من مؤسسات وشخصيات سياسية وإعلامية تعتبر نفسها ديمقراطية تتناقض ورؤى عوفاديا يوسيف وفتاويه الفجة، ثمة من حاول إضفاء صبغة “أخلاقية” و”قومية” على ما اعتبر الجنازة الأضخم في تاريخ الكيان، تؤشر على “وحدة وتماسك” المكوَن الرئيس للدولة العبرية، أي اليهود، في مواجهة المخاطر و”سيناريوهات الرعب” المفترضة في منطقة الشرق الأوسط “عديمة الاستقرار” . إلا أن هذه المحاولة يدحضها المنطق والوقائع التي تفيد بأن حجم الجنازة الضخم، ليس أكثر من تعبير تراجيدي عن هواجس الخوف التي تلف التجمع الصهيوني، وتدفعه نحو التعلق بأستار الرموز الدينية المتطرفة، من دون أن يكون لذلك أية ترجمة سياسية على أرض الواقع، بدليل أن “شاس” التي أنشأها يوسيف ورعاها لتكون ممثل اليهود الشرقيين الحصري، مرشحة للضعف والتراجع وانخفاض منسوب تأثيرها، ولا سيما في ظل ترجيح احتدام الصراع في أوساطها بين مؤيدي الحاخام عمار، الرجل الثاني الديني، ومؤيدي أرييه درعي الزعيم السياسي السابق، ومؤيدي إيلي يشاي الزعيم السياسي الحالي .

المصدر: 
الخليج