مخاطر الاستيطان الكولونيالي على المشروع الوطني الفلسطيني

بقلم: 

بعد مرور ما يقارب "46 عاماً" على احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة ومدينة القدس، يتعين علينا إعادة قراءة ما جرى على الأرض من تغييرات جوهرية بات بمقتضاها من الضروري مراجعة التوجهات السياسية الفلسطينية، فما صلح قبل توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 ربما لايصلح بالضرورة اليوم. 
لقد نجح الاحتلال الإسرائيلي بنقل أكثر من "300000" مستوطن للإستيطان في الضفة الغربية، وأكثر من "20000" مستوطن آخر في القدس الموسّعة، وبذلك يصل مجموع عدد المستوطنين لأكثر من نصف مليون.
ويستوطن الاسرائيليون في "121" مستعمرة منتشرة في معظم مساحة الضفة الغربية، بحيث لا نكاد نعثر على عشرة كيلومترات متواصلة، في أي بقعة من بقاع الضفة الغربية من دون وجود مستعمرة، وعلاوة على انتشار المستعمرات، سواء صغيرة أم كبيرة ، فإن هناك أكثر من "100" نواة أو بؤرة قابلة للنمو والتوسع، ويرتبط توسعها بقرارات إسرائيلية متعلقة بالتوازنات الحزبية الداخلية من جهة، وبطبيعة العلاقات مع الإدارة الأميركية من جهة ثانية، وبالضغط على السلطة الفلسطينية من جهة ثالثة، وهذه العناصر الثلاثة خضعت لتلك التجاذبات كافة خلال الأعوام الأخيرة. 
أما في القدس فيبلغ عدد المستعمرات "12" مستعمرة كبيرة، فضلاً عن عدد كبير من المستعمرات الصغيرة وعشرات البؤر الاستيطانية المتناثرة في أماكن متفرقة من الأحياء الفلسطينية.
ووفق التقديرات المتعددة فإن إسرائيل، عبر المستعمرات وطرقها الإلتفافية وجدار الفصل العنصري والأراضي المغلقة، تسيطر على نحو 45% من أراضي الضفة الغربية، في حين لا تتجاوز المساحة المخصصة للمباني والفراغات الواقعة بينها داخل المستعمرات أكثر من 10% من مجموع مساحة الضفة الغربية.
من الجدير بالذكر أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة طبقت منذ عام 1948 قانون حق عودة اليهود إلى "أملاكهم في القدس وباقي أنحاء الضفة الغربية" حسب مزاعمهم الصهيونية، فقد أقرت السلطات الإسرائيلية وجهازها القضائي بالحق المشروع لليهود بالعودة إلى تلك الأملاك التي "تركوها جراء حرب 1948".. وتمت فعلاً السيطرة على معظمها عبر أذرع عسكرية، أو الجمعيات والمنظمات الإستيطانية المتعددة، في حين لم ينجح أي فلسطيني، وبغض النظر عن مكان إقامته من استعادة منزله أو أرضه التي تقع في الأراضي المحتلة منذ عام 1948. وأشهر النماذج التي يمكن طرحها تقع في القدس حيث يعيش الكثير من الفلسطينيين الذين اقتُلِعوا من بيوتهم عام 1948، والتي أصبحت ضمن ما يسمى "القدس الغربية". ففي الوقت الذي سُمِحَ لليهود باستعادة أملاكهم المزعومة في "القدس الشرقية"، مُنَع الفلسطينيون في القدس الغربية من استعادة أي من أملاكهم، علماً بأن "القانون الإسرائيلي" هو نفسه الذي يطبق على الفلسطينيين الإسرائيليين - نظرياً على الأقل في القدس. وقد شكّلت هذه الأملاك نواة لبعض المستعمرات كما هو الحال في عطريت و"نفي يعقوب" في منطقة القدس، أو في "غوش عتسيون" في منطقة بيت لحم، وتوسعت هذه المستعمرات عبر الوسائل المذكورة أعلاه. 
كما هو معروف تقرر ضمن "اتفاق أوسلو" تأجيل مصير المستعمرات إلى مفاوضات الوضع النهائي التي يبدو أنها لن تنتهي.. لقد طُرِح موضوع الاستيطان عشرات المرات على طاولة المفاوضات الثنائية، ووافق الفلسطينيون على مبدأ مبادلة الأراضي بـ" الكم والكيف"، وكان المبرر الاسرائيلي أن لاعودة إلى حدود الرابع من حزيران 1967 بحجة عدم قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها ضمن تلك الحدود، وبحجة عدم قدرتها على سحب جميع المستوطنين وتفكيك المستعمرات كلها، وأن مستعمرات القدس هي أحياء لا مستعمرات، وأنها على استعداد للقيام بتعديلات حدودية، وبعد كثير من المجادلات جددت الإدارة الأميركة الحالية ما سمي "معايير الرئيس كلينتون" وما ورد فيها بشأن الإستيطان، خصوصاً الكتل الاستيطانية، وهي مبادلة الأراضي "1=1"، أما في ما يتعلق بمستعمرات القدس فقد تبنت الولايات المتحدة الموقف الاسرائيلي واعتبرتها أحياء، وطرحت مقولة: "ما هو عربي في القدس يصبح جزءاً من فلسطين، وما هو يهودي في القدس يصبح جزءاً من إسرائيل.. "!
وفي مراحل لاحقة، تم طرح نسب مئوية للتبادل، فقد عرض الجانب الفلسطيني في أقصى عروضه مبادلة 2% من الأراضي، بحيث تقوم إسرائيل بضم أغلبية الكتل الاستيطانية والتي تحتوي 75% من المستوطنين في الضفة الغربية، بينما أصرت إسرائيل على مبادلة ما بين 4-6% من الأراضي.
إن النظرة المتفحصة للاستيطان الكولونيالي للضفة الغربية توضّح أبعاد هذا المشروع وتأثيره على السكان والأرض والاقتصاد ومستقبل الدولة المستقلة، ويمكن للبعض القول: إن من فكك مستعمرات قطاع غزة يستطيع أيضاً تفكيك مستعمرات الضفة الغربية، وبالتالي فإن "حل الدولتين" لم ينته، وهناك وجاهة أيضاً في القول إن المجتمع الاسرائيلي ذهب مجتمعاً نحو التطرف اليميني، وبالتالي فإن تجربة قطاع غزة لن تتكرر، وعليه لم يبق ما يمكن التفاوض بشأنه، إلا إذا كان هدف المفاوضات تحقيق "حكم ذاتي محدود" على التجمعات السكانية الفلسطينية، أي فقط على المناطق المسماة بناء على اتفاق أوسلو مناطق "أ " ومناطق "ب" أي على أقل من 55% من مساحة الضفة الغربية. وقد ينتقل البعض في قراءتهم وتحليلهم بناءً على الاستيطان وفهم المشروع الصهيوني منذ بداياته إلى القول: "إن حل الدولتين" وصل إلى طريق مسدود، وفشل تماماً وبالتالي يجب العودة إلى مشروع "الدولة الديمقراطية الواحدة" في فلسطين التاريخية. وبغض النظر عن النتيجة السياسية التي يمكن التوصل إليها، فإن الاستيطان يبقى الهم الأساسي للفلسطينيين في الضفة الغربية عامة، وفي مدينة القدس خاصة، وسيؤدي دوراً أساسياً في تحديد شكل الحل السياسي، هذا إذا لم تطرأ تغييرات سياسية تؤدي إلى قلب المعادلات المطروحة كافة.

المصدر: 
المستقبل