مقبرة البحر المتوسّط

بقلم: 

هربوا من الموت تحت ركام القصف . . نجوا من التشظي بانفجار سيارة مفخخة . . أنقذهم الرحيل من إعدام ميداني . . أفلتوا من الموت ذبحاً بالسكاكين . . في النهاية ماتوا غرقاً في مياه المتوسّط . مئات من اللاجئين العرب، أغلبيتهم من الفلسطينيين والسوريين، ابتلعتهم مياه البحر بين مالطا وجزيرة لامبيدوزا الإيطالية . آخر قارب قدّم قرابين فلسطينية وسورية للبحر، غادر السواحل الليبية يحمل الهاربين من الموت فلحقهم في البحر محمولاً مع نيران أطلقها مسلّحون ليبيون، أو خفر سواحل .

يحار المرء كيف أخفق هذا الخفر في رصد القوات الخاصة الأمريكية حين سرحت ومرحت وخطفت أحد “مطلوبيها” من عمق الأراضي الليبية، ونجح في رصد الأفواه الجائعة في عرض البحر . هل يصبح الأمن العاجز عن حماية رئيس الوزراء من الاختطاف، ناجحاً حين يتعلّق الامر بلاجئين يبحثون عن بضعة أيام إضافية يعيشونها بلا قذائف أو مفخّخات؟ . إن كان الاعتبار أمنياً، يحار المرء أكثر كيف تطلق النيران على قارب مغادر، فلو كانت ثمّة أخطار مفترضة فإنها تأتي مع القادمين وليس مع المغادرين .

ليس معلوماً بعد عدد الغارقين، أو إن كانت بينهم جنسيات أخرى غير فلسطينية أو سورية، بل لا تهمّ جنسيات الضحايا إن كانوا عرباً أو غير عرب . لكن ما هو مؤكد ويقيني، أن هناك بشراً يموتون وهم هاربون من الموت قصفاً أو ذبحاً أو جوعاً أو قهراً، وأن هناك من أطلق النار عليهم من الجانب الليبي .

قبل ثمانية أيام غرق قارب كان يحمل قرابة خمسمئة راكب قبالة جزيرة لامبيدوزا جنوب إيطاليا، ولم ينج سوى مئة وخمسة وخمسين من أسوأ حادث في التاريخ الأوروبي الحديث .

شهادة أحد الناجين من الكارثة الأخيرة تقول إن المهرّبين على الشاطئ الليبي اختلفوا على ما يبدو في ما بينهم على حصصهم من الأموال، ما انتهى ببعضهم إلى محاولة إفساد الصفقة بإغراق المركب . هكذا الأمر بهذه البساطة في زمن الموت السهل والفوضى “الخنّاقة” والربيع الدموي، زمن مليونيات اللجوء والتشرّد، ولتشبع عدادات الأرقام ومزادات المآسي وإحصاءات الأمم المتحدة .

الموت هو الموت يا سادة . ما الفرق بين أن يموت المرء بقذيفة من النظام أو برصاصة معارض أتى من خلف المحيطات ل “يلعب” في ساحة اللاعقاب واللاقانون واللاشيء . هذه الأرض التي شهدت أعظم حنجرة شعرية وعليها ما يستحق الحياة، لماذا أصبح من عليها لا يستحقون سوى الموت؟ . إنهم يبحثون عن الحرية، لكن ليست الحرية في البقاء بين تراشق النيران أو الرحيل . يبحثون عن الديمقراطية، لكن ليست ديمقراطية الاختيار بين عشرة مصائر أهونها الموت غرقاً .

الموتى لا يسمعون، فمن يسأل القتلة عن أسباب هذا التلهي بأرواح الناس، وعن موعد الفصل الأخير لهذه التراجيديا المتأرجحة بين أحمرار الدماء واسوداد الرداء، وانعدام الاخضرار سوى في لغة لم تعد تتسع سوى للكذب والرياء؟ .

يا موتى البحر، لماذا تخليتم عن حقكم في قبور تحمل عناوين إقامتكم لتمنحوا أحباءكم حق الزيارة والبكاء؟ كان عليكم أن تموتوا بين زخات الرصاص، فليس بوسعنا أن نزور قبوراً في مقبرة البحر المتوسّط بين جزيرتين .

المصدر: 
الخليج