حال نجحت أو فشلت المفاوضات مع إسرائيل
في يوم 14 اب/أغسطس انطلقت من جديد المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، بدون أي نوع من المراسم الصاخبة. هذه ليست الجولة الأولى ولكن هنالك من يعتقد ويأمل أن تكون الفاصلة. الغالبية العظمى تجهل أبسط التفاصيل الجوهرية التي بدأت على اساسها هذه الجولة، مثلها مثل حال الجولات السابقة. يبدو أن هنالك اتفاقا بين مختلف الأطراف يقضي بعدم الكشف عن فحوى ما يتم التحاور عليه حالياً، ما يتم التوصل له من تقدم، أو ما يبدو من عراقيل، وما يمكن أن يصل له من نتائج.
هذا التصرف منبثق من تمسك الجميع بأحد أهم مبادئ الدبلوماسية الكلاسيكية، الذي يقر بضرورة الحفاظ على أعلى درجة من السرية حتى اللحظة الأخيرة، بحكم ان هذه المرحلة الأكثر صعوبة وتعقيداً، وبالتالي أن أي تصريح أو تسريب يمكن أن يؤثر سلباً على مسارها. إن لم يكن هنالك ما يحول دون ذلك، من المنتظر أن تنتهي المرحلة التفاوضية في ايار/مايو، أي بعد تسعة شهور من بدايتها. اياً كانت سمات هذه المفاوضات، الأهم أن يكون لها مردود فعلي على مجتمع عانى من عدوانية وعنجهية الاحتلال. الجميع يتمنى أن يستيقظ يوماً ولا يرى جنديا إسرائيليا على حدود المدن، أو مستوطنا على سفوح الجبال، أكان ذلك عن طريق النضال، أو من خلال الجلوس الى طاولة الحوار. الشعب الفلسطيني فعلاً شعب مميز، لا يخضع، لا يهادن ولا ينهار، لكنه كذلك يعي أنه لم يخلق فقط من أجل أن يحيا ويموت حاملاً للسلاح. هذا ليس قدره الوحيد، إنما كذلك من أجل ان ينعم بالسلام ورغد الحياة. فقط بهذا الشكل يمكن أن يتطور ويتقدم مثل باقي المجتمعات. مثل هذا الوضع يصب في موقفة ويقوي من صلابة عزيمته وإرادته.
رغم أن معظم الجولات السابقة كانت عقيمة ومحبطة، الا ان ما لا يمكن انكاره هو أن هنالك من يأمل، بشيء من الخجل وكثير من الشك، بعض الامل هذه المرة، ويتمنى أن تكلل هذه المسيرة بالنجاح وأن تلبي كل ما يستحق الشعب الفلسطيني من عدالة وحرية. وهذا حلم مشروع.
إن كان ذلك، فهذا شيء جيد ومرض، لأن كل الصراعات، شئنا أم أبينا، تحسم بعد مسيرة نضال بالتوقيع على طاولة المفاوضات. من منطلق وطني قائم على مبدأ ‘ناصر أخاك ظالماً أو مظلوماً’ وبحكم أن الغاية في النهاية واحده، هنالك من يدعون الله سراً وعلانية أن يقوي ويوفق الوفد الفلسطيني المفاوض، وبدلاً من أن يخرج ويصرح بفشل مساعية نهائياً، أن يعلن خبر جدواها. خاصة أنه على يقين بأن ليست هنالك مبررات يقدمها بعد ذلك لشعبه، وأن ما سوف يقوله ابتداء من حينه سيدخل ضمن قائمة الاستخفاف الزائد بعقول الناس.
إن أعطت المفاوضات ثمارها، وهذا ما يرجى، يحق لمن يريد الاحتفاء أن يفعل ذلك. ومن لا يريد، أن يعبر عن تحفظاته عليها وعلى ما رافقها من تأثير سلبي على الوضع العام. المردود الإيجابي، بعد المشوار الطويل والمرهق الذي انطلق من مدريد وتوج فى أوسلو، هو أولاً وأخيراً نجاح للمواطن الذي ناضل، عانى وصبر، كما أن الفشل يقع فقط على عاتق السلطة، علماً بأن العواقب مردودة على كافة أبناء الشعب. يحق لكل مواطن أن يأخذ الموقف الذي يعتبره مناسبا، حال نجحت أو فشلت المفاوضات، بدون أن يطالبه أحد بتقديم التبريرات أو محاسبته على موقفه، خاصة أن الهدف واحد رغم اختلاف طرق الوصول اليه. أبناء هذا الشعب خلقوا من أجل أن يكونوا مترابطين في السراء والضراء، بل في الحالة الأخيرة يجب أن يكون التماسك بينهم أمتن وأقوى.
السلطة الوطنية، التي لا يتفق على جدارتها اثنان، بسبب تدني مستوى قسم من القائمين عليها، اعلنت تكراراً أنها ملتزمة بكافة المرجعيات المتفق عليها وطنياً وعربياً، والمعترف بها دولياً، وأهمها الانسحاب الإسرائيلي حتى حدود 1967، كون القدس الشرقية عاصمة فلسطين، الاعتراف بحق العودة وبإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة، وبكل ما تراكم وانبثق عن ذلك من حقوق أخرى. الكل يعلم أن المفاوضات التي لا تلبي كل هذه المطالب غير مجدية. هذه المطالب تشكل النواة الصلبة لقضية الصراع القائم. سقف هذه المطالب هو الحد الأقصى الذي لن يرضى أحد التنازل عنه. الجميع متفق على ذلك ويرصد أي تحرك في هذا الاتجاه أو ذاك. من هو على دراية بأهميتها، بمن فيهم الطرف الإسرائيلي، يعلم بأن هامش المناورة مقبول بالجوانب التكتيكية، وليس في الغاية الاستراتيجية. من المؤكد أن المفاوض الفلسطيني يعمل حسب ذلك ويبذل كل جهده ليكون عند حسن ظن شعبه به، تحديداً بعد أن تلقى من النقد اللاذع ما تلقى، نتيجة ندرة النتائج، غياب القناعة وعدم الثقة بالعدو. أشد نقداً سيقع على هذا المفاوض إذا تجاوز حدوده أو تصرف وقرر، بدون أن يضع فب الاعتبار ما يجول بالخاطر العام.
هو، مثل إسرائيل وباقي العالم، على علم بأنه يتحرك في الوقت الضائع، وانه في حال فشلت المفاوضات القائمة لن تكون هنالك ولسنوات طويلة عودة لها. بل وليس من المستغرب أن يدرج في خانة من يخون الأمانة كل من يحاول أحياءها من جديد وعلى نفس أسس وأساليب الماضي.
نجاح المفاوضات هو أفضل الخيارات، لأنه يصب في الصالح العام وينهي نزاعا يتمني كل العالم أن ينتهي ليتفرغ لحل مشاكل أخرى عالقة. على إسرائيل أن تعي أهمية ذلك. كما على الطاقم المفاوض الفلسطيني أن يكون صادقا مع شعبه، خاصة أن مهمته والدعم الذي يتلقاه على المحك. عليه، حال لاحظ أن الأمور لا تسير حسب ما يرام، أن يعلن عن فشلها نهائياً وبدون تلعثم أو لف ودوران. ما قيمة الاستمرار فيها إن لم تأت بالنتائج المنشودة. بعد ذلك، أفضل ما يمكن أن يفعله هذا الطاقم، وعلى رأسه ‘كبيرهم’، هو الانسحاب من الحياة العامة وتكريس وقتهم لكتابة المذكرات والعناية بالأبناء والأحفاد، الذي فعلاً سوف يقدرون لهم عودتهم بعد الوقت الطويل والمجهود الهائل الذي بذلوه في محاورة المحتل بدون جدوى. لن يخولهم أحد مرة أخرى التحدث باسمه، مع العلم أنهم لم يحصلوا على ذلك سابقاً وما تحركوا على اساسه تم بعدم رضى وعدم قناعة، وإنما عن مضض ونتيجة الضغوطات الممارسة من قبل القاصي والداني. لقد أرهق الشعب الفلسطيني من الدوران الدائم في حلقة مفرغة، لدرجة ان هنالك من يعتقد أن البعض لهم مصلحة شخصية في استمرار هذه المفاوضات، رغم عدم جدواها، مصلحة تتجاوز المصلحة الوطنية البحتة. هذا أمر في غاية الخطورة ويمكن أن تكون له تداعيات.
حال فشلت المفاوضات نهائياً، وهذا ما لا يتمناه الكثير، على رئيس السلطة أن يعلن انتهاء مرحلة معينة، مرحلته هو، وأن يسلم الحكم للمجلس الوطني الفلسطيني ليقوم بدورة في تأسيس حكومة وحده وطنية قادرة على استشراف البدائل ورسم ملامح الاستراتيجية القادمة. إن كان ذلك، أول ما يجب أن يفعله المجلس والحكومة المنبثقة عنه، هو عملية تطهير وإعادة هيكلة المؤسسات الرسمية في الداخل والخارج، وتفعيل الروح الوطنية التي شابها كثير من الركود نتيجة سنوات طويلة من اللقاءات العبثية.
الفلسطينيون شعب يعشق الحرية والحياة الكريمة. شعب يبحث دائماً عن أفاق جديدة. على هذا الأساس ناضل وعلى هذا الاساس سوف يستمر في مشواره حتى يصل لكافة أهدافه. الكل يعلم، بما في ذلك إسرائيل، بأنه شعب مرابط على أرضه وعلى استعداد أن يضاعف الثمن إن كان ذلك هو البديل الوحيد من أجل نيل كافة تطلعاته. هنالك جيل بدأت تتبلور عنده هذه الفكرة، وهو على استعداد لتجسيدها على أرض الواقع. هذا الجيل يملك من الامكانيات والمقدرة ما لم يملكه جيل سابق. من المؤكد أن إسرائيل رصدت بدقة كافة التحولات النفسية الجارية في المنطقة. أجيال متتالية وصاعدة وصلت لأقصى حدود الاشمئزاز نتيجة تزايد وتيرة العربدة والابتزاز. فقط تحتاج لمن يقنن ويرسم لها بذكاء ودقة مسار المرحلة القادمة، لتقوم هي بدورها. يجدر بخبرائها من السياسيين والعسكريين قراءة اختلاف الأمور بشكل دقيق وبعيد عن كافة معطيات الماضي. أفضل ما يمكن أن تفعله إسرائيل، من أجل تجنيب نفسها والآخرين ما يخفي الزمن من كوابيس وهواجس، هو تلبية كافة المطالب الشرعية الفلسطينية وأن تجسد ذلك فعلاً لا قولاً على طاولة المفاوضات القائمة. حقب الكذب والمراوغة القائمة على فكرة التفاوض من أجل التفاوض وليس من أجل التوصل لسلام فشلت وانتهت فاعليتها. قليل جداً يملكون المقدرة على التنبؤ بأحداث المستقبل من خلال تأمل حركة النجوم، لكن الكثير يدركون، من خلال تحليل المعطيات القائمة، أن المنطقة والعالم على موعد جديد مع التاريخ. كيف ستكون مميزات ما سيأتي، ذلك سيعتمد على نوعية الإعلان النهائي لنتائج المفاوضات الجارية.
*كاتب فلسطيني – إسبانيا