الفلسطيني.. من القضية إلى المشكلة

بقلم: 

تدلل فلسطين ـ منذ ولادتها قضية شعب وحتى الآن ـ على هشاشة النظام السياسي العربي وعجزه وتبعيته واغــترابه عن وجدان العرب. بل لم يشهد التاريــخ المعــاصر واقعة أغرب من واقعة قيام إسرائيل وسلب حق الفلسطيني في وطنه سلباً وصل حد رفض أن يكون له كيان سياسي على ما تبقى من أرضه التي سلبتها الحركة الصهيونية.

ولعمري أن غرائبية ما جرى لفلسطين وما يجري، ستكون واحدة من الوقائع التي سيشكك بحدوثها المؤرخون بعد قرون.

ذلك أن المؤرخ إذا طبق معيار المعقولية في النظر إلى الوقائع التاريخية فإنه لن يصدق أنه يمكن لجماعة أوربية بدأت باستعمار فلسطين منذ نهاية القرن التاسع عشر، ثم قامت بطرد الجزء الأكبر من السكان الذين يفرون إلى دول الجوار، ويشكلون دولة تكسر رأس دول العرب أجمعين، وتحيط بها دول ذات سيادة، عدد سكان عاصمة واحدة من عواصمها أكبر من عدد اليهود في فلسطين ثلاث مرات.

لن يصدق المؤرخ بعد قرون عديدة - إذا ما تأمل المشهد - أن بعضاً من الأنظــمة العـربية قد عقدت تسويات مع العدو واعترفت به، وأن جلها كانت تابعة للولايات المتحدة الأميركية وهي الدولة التي حمت «إسرائيل».

بل إن المعقولية المفقودة في واقعة وجود «إسرائيل» وسلوكها ستكون أحد الأمثلة النادرة في تاريخ البشرية على الشذوذ التاريخي واللامعقولية في التاريخ. وستدرس - أي هذه اللامعقولية - كما يدرس الطب حال مولود بثلاثة رؤوس.

ما زلت أذكر نقاشي مع مشــرفي العــلمي في الاتحاد السوفياتي انتاولي الكسندر روفيش فيدوسييف وكنا نركب القطار معاً متوجهين إلى البحر الأسود. لقد شرحت له تاريخ قضية فلسطين وكان يســتمع بدهـشة، لكن الرجل كاد يفقد صوابه وسألني: أحمد.. ماذا تقول؟ ألا يمكن للعـرب أن يهجموا بليلة واحدة على إسرائيـل ويزيلوها من الوجود؟ كان فيدوسيـيف فيلسوفاً مشهوراً متخصصاً بالفلسفة السياسية بالأصل وبالفلسفة الغربية المعاصرة. ترى ما الذي حمل هذا الفيلسوف على التفكير بهذه الطريقة؟ ببساطة لا معقولية وجود إسرائيل، ولا معقولية القبول بها، ولا معقولية العجز عن إزالتها فالفيلسوف نفسه لم يستطع أن يتحمل لا معقولية كهذه بل إن لا معقولية سلوك النظام العربي الرسمي وبخاصة منذ السبعينيات وحتى الآن، أشد لا معقولية من وجود «إسرائيل» ذاتها.

كيف تحولت فلسطين من قضـية إلى مشكلة؟

الفرق بين دلالة القضية ودلالة المشكلة ـ في هذه النقطة بالذات ـ كبير جداً.

القضية ذات ارتباط بالوجود الإنساني ومعنى الوجود والمصير. والقضية فضلاً عن ذلك قارة في الذات بوصفها هماً كلياً. ولهذا ما إن تحولت فلسطين إلى موضوع تضاد، حتى أخذت معنى القضية في إطار الصيغة الشكسبيرية: نكون أو لا نكون ما إن تحولت فلسطين إلى قضية حتى تعينت بالفدائي والحنين والشوق والحق والبكاء. القضية تعني أن نكبة قد حصلت كما سماها قسطنطين زريق في كتابه الشهير «معنى النكبة».

وأخذت القضية صفتها القومية حين أجمع على أنها قضية العرب الأولى.

منذ احتلال فلسطين وحتى حرب 1967 استمرت فلسطين قضية بالنسبة إلى جميع العرب أنظمة وشعوباً.

فلسطين القضية لجمت كل النظام السياسي العربي من أن يفكر بما دون تحرير فلسطين، القضية إذاً أنتجت مفهوم التحرير وصدر قرار إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية بقرار عربي عام 1964.

ومع انطلاق الثورة الفلسطينية عام 1965 ظهرت على الملأ كل التنظيمات الفلسطينية بأسماء متعددة لم يخل أي اسم منها من كلمة تحرير، حركة التحرير الوطني الفلسطيني - فتح، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، طلائع حرب التحرير الفلسطينية، الجبهة العربية لتحرير فلسطين.

فلسطين القضية، ولدت تحرير فلسطين وخطــاب التـحرير والثـقة بالتــحرير والأمل في التحرير وأدب التحرير وقومية التحرير، بل إن فلسطين قضية أخذت طابع القداسة.

كانت هزيمة حزيران بداية هزيمة القضية لقاء ظهور مفهوم جديد بصيغ مختلفة مشكلة الشرق الأوسط، المشكلة الفلسطينية، مشكلة فلسطين.

المشكلة تعني أن هناك سؤالاً ليس عنه جواب واحد، بل هناك عدة احتمالات إجابة عن السؤال، ولهذا مذ تحولت فلسطين مشكلة مات مفهوم التحرير ونشأ مفهوم الحل.

لم يدخل مفهوم الحل حقل السياسة العربية الرسمية فقط بل وسياسـات تنظيمات التحرير التي شكلت منظـمة التحرير لم يعد لمفهوم التحرير إلا اسم بلا مسمى.

لقد أخذ شكل الوعي صورة «الواقعية» الإيديولوجية إن توطن فهم جديد مفاده استحالة التحرير إذاً إمكانية الحل - التسوية هي المخرج. التحرير مستحيل الحل إمكانية. كانت عدة التحرير واضحة جداً القوة العسكرية وحدها تحرر فلسطين، الجيوش العربية حرب التحرير الشعبية، أما عدة الحل التسوية فمختلف عليها وشبه متفق على أسسها ألا وهي انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967 لقاء الاعتراف بها وإنهاء النزاع إلى الأبد عبر قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وعاصمتها القدس، هذا الحل كثفته على نحو واضح المبادرة العربية.

عدة التسوية - الحل عربياً التفاوض زائداً الضغط الأوربي صحيح أن حرب 73 رتبت من اجل التفاوض لكنها لم تنجز مهمة التسوية، بل أنجزت مهمة قتل مفهوم التحرير، إذا كانت القضية قد جرى التخلي عنها بسبب أن التحرير مستحيل، فإن المشكلة قد أنتجت أكثر من مستحيل، استحالة التسوية، استحالة العودة، استحالة عودة القدس، استحالة إزالة المستوطنات، استحالة قيام الدولة ذات السيادة في الضفة وغزة.

لقد مضى على توقيع أول تسوية تضمنت قولاً في فلسطين المشكلة أكثر من اثنــين وثلاثين عاماً ولم تحل المشكلة. ولعمري أن فلسطين مشكلة غير قابلة للحل، بل مستـحيلة الحل، وإن الثمن الذي يجب أن يدفع لقاء الحل (قيام دولة فلسطــينية) عودة اللاجئين، إزالة المستوطنات، الانسحاب من القدس هو ذاته الثمن الضروري لتحرير فلسطين - أي هو ثمن فلسطــين القــضية. مع فارق مهم ألا وهو أن فلسـطين قضـية تحتاج إلى تحرير تزود الإرادة بقوة روحية هائلة ومتطابقة مع الوعي الشعبي، فيما فلسطين المشكلة لا تزود أبداً العربي بأية قوة روحية.

فمنذ أن رضي العرب والفلسطينيون أن يتعاملوا مع فلسطين مشكلة صار لزاماً عليهم قبول بعض من حلول العدو أي أجوبته عن المشكلة. وكما قلنا لو كانت المشكلة تتضمن حلاً واحداً لما عادت مشكلة. فصار من «حق إسرائيل» أن تطرح حلولها للمشكلة. فواجه الفلسطيني مشكلته بحل واحد تطرحه إسرائيل من دون أن تترك له منفذا لأن يكون شريكاً في الحل.

وهنا نصل إلى بيت القصيد ألا وهو العودة إلى فلسطين قضية في مناخ طرح المستقبل العربي كله بوصفه قضية وفي التعامل مع فلسطين قضية يجري التعامل مع وجود إسرائيل بوصفه مشكلة، إسرائيل هي المشكلة ولا يجوز لها أن تكون طرفاً في حل المشكلة لأن حل مشكلة إسرائيل سيكون تحصيلا حاصلا بتحقيق القضية على الأرض أي تحرير فلسطين.