الهوية والوعي

بقلم: 

كان الوعي الفلسطيني بعد النكبة مشطوراً وناقصاً لأنه تشكل بلا أرض؛ بل على أرض «غريبة» كانت تنبذه أحياناً، وتعزله دائماً في معازل مهينة تدعى «مخيمات»، وتتهمه أحياناً أخرى بأنه فرّ من موطنه أو باع أرضه. وهذا الفلسطيني الذي لجأ إلى أبناء عمومته في البلدان العربية المجاورة جرى الترحيب به بقوة في بداية الأمر، ثم لم يلبث أن بات غريباً ومرفوضاً كما ترفض المغتصبة في المجتمعات الذكورية المتخلفة، على الرغم من الظلم الذي لحق بها وحاق بجسدها.
كان الشعور بالظلم لدى الفلسطيني اللاجئ يغذي إرادة تحدي الظلم. ومن هذه البدايات ظهر التحول الجديد في وعي الهوية الوطنية، وتمثل في انبثاق بعض المنظمات الشعبية والاتحادات النقابية، والتي كانت علامات أولى ومهمة جداً على طريق تشكيل هذه الهوية. لقد ألزم هذا التحول في وعي الهوية بعد النكبة النخب الوطنية الفلسطينية التفتيش عن تعبير عملي عن هذه الهوية الجديدة. وفي هذا السياق بالتحديد ظهرت «رابطة الطلبة الفلسطينيين» في القاهرة في سنة 1951، وحركة القوميين العرب في سنة 1956، ثم حركة فتح في سنة 1959، وكانت خواتيم هذا المسار قيام منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1964. وفي هذا الشوط التاريخي صارت منظمة التحرير الفلسطينية وطن الفلسطينيين في المنفى. والمنظمة بهذا المعنى ليست مجرد ائتلاف جبهوي يضم في إطاره منظمات متعددة الغايات والأفكار على غرار حركات التحرر الوطني في الدول المستعمرة، أو الجبهات المتحدة كالحركة الوطنية اللبنانية مثلاً، بل هي ترتيب تعاقدي ذو محتوى دستوري قام في مقام الوطن الرمزي للفلسطينيين، أو حل في محل الدولة الغائبة. لذلك انضمت الفصائل الفدائية إلى منظمة التحرير الفلسطينية طوعاً، وانضمت معها الاتحادات الشعبية والنقابات التي كانت موجودة قبل تأسيس المنظمة، فضلاً عن النخب الفلسطينية الفاعلة آنذاك. وبهذا المعنى، فإن المساس بمكانة المنظمة كان ولا يزال يعادل التجديف على قضية فلسطين.

واقع الحال

سأستعين بالتجربة الفلسطينية في لبنان لأقول إن الفلسطينيين، على الرغم من جروح النكبة ومرارة الاقتلاع وضياع الوطن وفقدان الأساس الاجتماعي لوحدة الشعب والأرض، تمكنوا، من خلال فترة قصيرة بعد النكبة، من تأسيس أول شركة لتوزيع المطبوعات في لبنان (شركة فرج الله)، وأسسوا أول فرقة للرقص الشعبي (وديعة حداد ومروان جرار)، وأول شركة للتأمين (باسم فارس وبدر الفاهوم)، وامتلكوا ثلاثة مصارف هي بنك انترا والبنك العربي وبنك بيروت للتجارة، وعلاوة على شركة التأمين العربية واتحاد المقاولين (CCC) وشركة خطيب وعلمي، وأنشأوا مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومركز الأبحاث ومركز التخطيط، وكان لهم تأثير قوي في العمل الاذاعي (كامل قسطندي وغانم الدجاني وناهدة فضلي الدجاني وسميرة عزام)، وفي المسرح (صبري الشريف)، وفي العمل المعجمي (أحمد شفيق الخطيب وقسطنطين تيودوري)، وفي الفن التشكيلي (بول غيراغوسيان وجوليانا سيرافيم) وفي الصحافة (غسان كنفاني وشفيق الحوت ونبيل خوري وفاروق نصار وفواز ناجيا ونجيب عزام)، وكانوا مؤثرين جداً في الصحافة اللبنانية من خلال جريدة «اليوم» التي أصدرها الصحافي الفلسطيني الأصل عفيف الطيبي، ومن خلال ملحق «فلسطين» في جريدة «المحرر». أما اليوم فنكاد لا نلمس أي تأثير فلسطيني في الرأي العام اللبناني مباشرة، ووجود صحافيين وكتّاب فلسطينيين في الاعلام اللبناني قليل جداً، وهم متناثرون هنا وهناك، بينما الصحف الفلسطينية التي تصدر في لبنان هي صحف تابعة لمنظمات، وذات محتوى محلي جداً، ولا يقرأها أحد إلا في النطاق الفلسطيني، واندثر مركز الأبحاث والتخطيط، وها هي مؤسسة الدراسات الفلسطينية تشيخ، وفوق ذلك لا توجد صحيفة فلسطينية مهمة في الشتات كله باستثناء «القدس العربي»، ولا مجلة ذات حضور لافت عدا مجلة الدراسات الفلسطينية، ولا فضائية مهمة، ولا مستشفى له قيمة استشفائية.

 

وحدها تتكلم

لماذا انقلبت الأحوال إلى هذا المنقلب؟ لأن منظمة التحرير الفلسطينية بعد أوسلو ما عادت هي البيت الفلسطيني الجامع والوطن الرمزي للفلسطينيين كلهم في شتاتهم. فالاتحادات النقابية والمنظمات الشعبية باتت منقسمة على نفسها، وقليلة الفاعلية، وهي لا تمثل قطاعاتها، وتابعة للفصائل التي شاخت منذ زمن طويل. لقد كانت الاتحادات والمنظمات شديدة التفاعل في إطار منظمة التحرير في زمن صعود الحركة الوطنية الفلسطينية. وأي جهد، هنا أو هناك، كان يصب في مجرى واحد هو منظمة التحرير. أما اليوم فالجهد متناثر ومتشعب، وهو ما برح يتطاير هباء لأنه يسيح في الأرض الرملية، ولا يتدفق إلى مجراه الطبيعي. والمؤسسات الجديدة التي نشأت خلال العشرين سنة الماضية، وكانت تعبر، حقاً، عن حاجة ضرورية لمثل هذه المؤسسات، ما فتئت متنافسة واتجاهاتها السياسية متنافرة.
لنتخذ حركة العودة مثالاً لذلك. فهذه الحركة، على أهميتها القصوى، وما قدمته في ميدان العمل المباشر وإشاعة ثقافة العودة، ما زالت غير قادرة على التأثير في القرار السياسي الفلسطيني جراء تشرذمها وتنافر مكوناتها. وقد فشلت محاولات شتى لتوحيد الجهد المتراكم، أو تنسيق فاعليتها المتناثرة في دول العالم المختلفة، ولم تفلح المؤتمرات المتعددة التي عقدت في هذا السياق. فالاسلاميون لا يستطيعون العمل مع العلمانيين، ويفضلون العمل وحدهم أو بالمشاركة مع ممن هم أقرب إليهم سياسيا وايديولوجيا. والتيار الوطني الديموقراطي يرتاب بالاسلاميين وبمؤسساتهم الجديدة... وهكذا.
حين تبين أن اتفاق أوسلو همّش قضية اللاجئين، بدأت بعض المجموعات التي تعنى بحق العودة تظهر في الاوساط الفلسطينية بالتدريج. وكانت الغاية هي إيجاد تيار شعبي فلسطيني يستطيع أن يقف في وجه القيادة الفلسطينية في ما لو أهملت قضية اللاجئين، ويرغمها على سلوك المسلك السياسي الصحيح، او ان يشدّ أزرها في المفاوضات ما دامت تتخذ الموقف الوطني المطلوب. ومن خلال خبرات متراكمة طوال نحو عشرين سنة، يمكن القول إن حركة العودة نجحت باقتدار في إعادة الاعتبار لحق العودة، وحفّزت اللاجئين في كل مكان على التعبير عن مصالحهم، وأطلقت في سياقها عشرات المجموعات التي اتخذت من حق العودة معيناً لها على النضال. لكنها فشلت فشلا ذريعاً في نقل هذه الحركة من حالة التشرذم إلى حالة الوحدة، وبالتالي عجزت عن إيجاد تيار شعبي له قوة الاعتراض على السياسات العامة، الأمر الذي يعني ان إمكانية التأثير في القرار السياسي كانت محدودة إلى حد كبير.

أفكار أولية

كانت مصر (وسوريا أيضاً) حاضنة القضية الفلسطينية في المرحلة التأسيسية الأولى، وكانت فلسطين جزءاً من مفهوم الأمن القومي لكل من مصر وسوريا معاً. أما اليوم فقد صارت القضية الفلسطينية عبئاً على بعض الدول العربية، ولا سيما الدول الريعية. وهذه الدول لا يعول عليها، فهي باتت جزءاً من منظومة الأمن القومي الأميركي على النطاق العالمي. ومن المحال أن تحضن هذه الدول النضال الفلسطيني، وكل ما يمكنها ان تفعله هو التبرع بالمال. فهي، بهذا المعنى، متبرعة وليست شريكة. وقد «تشقلب» العالم العربي أيما «شقلبة» في الثلاثين سنة الأخيرة بحيث التبست هوية النضال الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو، وتشققت منظمة التحرير الفلسطينية في سياق هذه المتغيرات التي تدحرجت وقائعها بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 كالتالي: اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، هزيمة أميركا في فيتنام، توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، انتصار الثورة الاسلامية في إيران، احتلال الاتحاد السوفياتي أفغانستان، اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية، خروج منظمة التحرير في لبنان في سنة 1982، سقوط الاتحاد السوفياتي في سنة 1989، اتفاق أوسلو في سنة 1993، احتلال العراق في سنة 2003، اندلاع الثورات العربية في سنة 2010 فصاعداً.
في هذا الميدان المضطرب والمتلاطم خضعت القضية الفلسطينية والهوية الفلسطينية للاضطراب العميم، وللهزائم في بعض المراحل. فالهوية الوطنية كانت دائماً هوية عربية نضالية، وهي اليوم باتت شبه ملتبسة، ومتسربلة بألوان شتى: وطنية وإسلامية وليبرالية ومعادية للعروبة أحياناً. ومن دون إعادة صوغ هذه الهوية، ومن دون إعادة بناء إطار وطني شامل (أي منظمة التحرير الفلسطينية) على أساس هذه الهوية، ومن غير الاتفاق على برنامج سياسي موحد، فلن يكون في الإمكان التقدم في الشأن السياسي، أكان ذلك في فلسطين، أو في مخيمات اللجوء، أو في دول العالم المختلفة.

المصدر: 
السفير