طهران وتل أبيب تتصارعان على عقل البيت الأبيض

بقلم: 

يحل رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اليوم ضيفاً على البيت الأبيض، حيث يلتقي الرئيس الأميركي باراك أوباما لأول مرة منذ سنة ونصف سنة. قد يكون الخبر عادياً للوهلة الأولى، فالروابط التي تجمع أميركا وإسرائيل تجعل من حصول هذا اللقاء أمراً طبيعياً ومفهوماً. الجديد في الخبر هذه المرة أنه يأتي بعد الهجوم الديبلوماسي الإيراني في الأمم المتحدة الذي قاده الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني، والمكالمة الهاتفية التي أجراها مع أوباما قبل أيام قليلة. يعرف العالم من الآن أن إيران ستكون محور النقاش الأساسي بين الطرفين اليوم. وفي حين يريد نتنياهو، بكل قوة، تخريب بوادر التفاهم الناشئ بين واشنطن وطهران، يبتغي أوباما الوصول إلى حلول لأزمات مستعصية في الشرق الأوسط محورها إيران. والأخيرة بدورها برعت في الفصل بين ما يبدو توأماً سيامياً في المنطقة، فاستهدفت العلاقات مع واشنطن بمعزل عن علاقاتها بتل أبيب. على هذه الخلفية تبدو امرا مهماً معرفة العوائق والتحديات التي تقف في وجه الغريمين الإقليميين طهران وتل أبيب في الطريق إلى عقل البيت الأبيض.

 

حسابات روحاني

 

استثمر الرئيس الإيراني حسن روحاني حصة معتبرة من رأسماله السياسي في الانفتاح على الولايات المتحدة الأميركية، وأبلى حتى الآن بلاء حسناً في تغيير صورة إيران في الغرب، وبالتالي في تهيئة أرضية مناسبة لتقارب إيراني ـ أميركي. كان مشوار روحاني صعباً وطويلاً، فبعد مرور سبعة أسابيع على تسلمه الرئاسة، زار الأمم المتحدة وألقى كلمته فيها. قبلها تلقى روحاني بركة المرشد، الذي طالبه بإبداء «مرونة بطولية» في المفاوضات النووية؛ في إشارة لا تخطئ بأنه مفوض لإبرام صفقات وليس لالتقاط صور تذكارية مثلما كان الحال مع الرئيس الأسبق محمد خاتمي. انتزع روحاني ملف التفاوض النووي من المؤسسة الأمنية الإيرانية، قبل أن يضعه بيد وزير خارجيته جواد ظريف. تبادل روحاني الرسائل مع أوباما، وأطلق سراح تسعين سجينا قبيل سفره إلى نيويورك. وتوجت الزيارة بمكالمة هاتفية بين أوباما وروحاني، وبجلوس ظريف مع كيري للنقاش حول الملف النووي الإيراني ضمن مجموعة الدول الست الكبرى، في أرفع محادثات مباشرة بين واشنطن وطهران منذ قيام جمهورية إيران الإسلامية عام 1979.

ينتظر روحاني في المقابل أن يخفف الرئيس الأميركي باراك أوباما بعض العقوبات المفروضة على إيران، حتى يستطيع الاستمرار في انفتاحه والبقاء محصناً ضد التيار المتشدد في الداخل. يعرف أوباما أن الوقت المتاح أمام روحاني قليل، وأنه بحاجة إلى مردود لرحلته، حتى يستطيع إبقاء نافذة الفرصة مفتوحة أمام المزيد من الديبلوماسية. يتخوف روحاني من تكرار تجربته الخاصة العام 2003، وقتذاك ترأس روحاني فريق التفاوض الإيراني مع الترويكا الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وانكلترا)، وتوصل إلى اتفاق يقضي بتوقف إيران عن التخصيب طوعاً والتوقيع على البروتوكول الإضافي لوكالة الطاقة الدولية الذي يسمح بالتفتيش المفاجئ على المنشآت النووية، في مقابل مزايا تكنولوجية وتجارية من الغرب والامتناع عن تحويل الملف إلى مجلس الأمن. وعندما أخفقت هذه الإجراءات الإيرانية في انتزاع تنازلات غربية مقابلة، دمغ التيار المتشدد روحاني وخاتمي بـ«التفريط» وعاد الرئيس السابق أحمدي نجاد إلى التخصيب، وبالمقابل زاد الغرب من عقوباته على إيران، فدخل الملف إلى دوامة من التصعيد استمرت حتى الأسبوع الماضي. لم يلتق روحاني أوباما بالرغم من عرض البيت الأبيض، لأن تحويل الهجوم الديبلوماسي الإيراني إلى «شهر عسل» مع واشنطن، أمر لا يناسب طهران وحساباتها. ساعتها سيكون روحاني قد حصل على «الثمن المقابل» بلقاء رئاسي من دون رفع العقوبات، وستعود الكرة إلى ملعبه من جديد، وهو الذي يعرف بخبرة أي متزوج في العالم، أن شهور العسل لا تدوم. ينتظر روحاني الآن ثمناً رمزياً مثل رفع رئاسي أميركي للحظر على التبادل الرياضي بين أميركا وإيران وعن المساعدات الإنسانية (منها مثلاً إلغاء القيود المفروضة على تأشيرات الدخول للطلبة الإيرانيين)؛ وكلها إجراءات لا تتطلب موافقة الكونغرس عليها. لا يمثل ذلك الهدف النهائي لروحاني بالطبع، لكنه سيضمن مساراً مطمئناً لديبلوماسية كرة الطاولة التي يتبعها مع أوباما، المطلوب منه بعدها اتخاذ إجراءات إضافية ومتتالية لرفع المزيد من العقوبات.

 

حسابات نتنياهو

 

يذهب بنيامين اليوم إلى البيت الأبيض مشغول الأفكار بالتقارب الناشئ بين واشنطن وطهران، بعدما سارع إلى وصف الرئيس الإيراني بأنه «ذئب في ثياب الحمل». يرفض نتنياهو احتفاظ إيران بأي عملية تخصيب لليورانيوم على أراضيها، ويطالب بإغلاق منشآتها النووية، وهو ما يعني بوضوح الحرب لأن إيران لن توافق على الاستسلام. وبالمقابل يعرف أوباما أن النخبة الأمنية الإسرائيلية تتبنى تقديرات موقف تتفق فيها بالعمق مع نظيراتها الأميركية، وتسير في اتجاه مغاير لما يريده نتنياهو، إذ لا ترى الحل حصرياً في ضربات عسكرية غير مضمونة، والأرجح أن تؤدي في حال حدوثها إلى تأخير البرنامج النووي الإيراني لعدة سنوات، لكن مع جنوح إيراني نحو عسكرة برنامجها النووي لتردع ضربات مستقبلية.

يعد الرئيسان السابقان للموساد مائير داغان وإفرايم هاليفي، والرئيس السابق لجهاز شين بيت يوفال ديسكين المثال الأبرز في هذا الاتجاه، إذ يعتقد ثلاثتهم أن المخاطر المتولدة عن الملف النووي الإيراني يمكن إدارتها بوسائل مختلفة وليست عسكرية حصراً. يستمر نتنياهو في العمل بوسائله القديمة ضد إيران، إذ فبركت السفارة الإسرائيلية في واشنطن حساباً مزوراً لروحاني على شبكة «لينكد إن»، يظهر فيه بصفته خبيراً في أسلحة الدمار الشامل. وأعلنت إسرائيل عشية سفر نتنياهو إلى البيت الأبيض عن القبض على المواطن البلجيكي من أصل إيراني علي منصوري، الذي اتهمته بالتجسس لحساب طهران. يعرف نتنياهو أن مهمته ستكون صعبة في إقناع أوباما، لأن مضمون أي اتفاق أميركي - إيراني يتضمن حكماً منع إيران من امتلاك السلاح النووي الذي تخشى منه إسرائيل. تعود الخشية الإسرائيلية الحقيقية من أي اتفاق أميركي - إيراني، إلى اعتبارات تتعلق بالترتيبات والأدوار الإقليمية المستقبلية لإسرائيل. حتى الآن لا توجد منطقة في العالم تشبه الشرق الأوسط، يستطيع فيها لاعب واحد (إسرائيل) أن يقصف متى شاء وأن يفعل ما يرغب به في تحديد أولويات الأمن الإقليمي. ومن شأن التفاهم بين واشنطن وطهران، أن تكتسب الأخيرة قوة معنوية على قوتها على الأرض، بحيث تتعدل موازين القوى في الإقليم لغير مصلحة إسرائيل وعلى حساب احتكارها للقوة في المنطقة.

سيتفانى نتنياهو مخلصاً لقناعاته الأيديولوجية في تدمير أي فرصة للتقارب بين واشنطن وطهران، بالرغم من صعوبة موقفه. وبالرغم من تلك الصعوبة فلن يكون نتنياهو وحيداً في معركته على البيت الأبيض؛ وإنما سيواكبه الصقور في الكونغرس وخارجه، والمحافظون الجدد، وبعض الديموقراطيين الموالين لإسرائيل. سيرفع هؤلاء من سقف التهديدات ضد إيران، وسيحاولون تمديد العقوبات وعرقلة أي اتفاق سلمي حول الملف النووي الإيراني. في هذا السياق يبدو لافتاً أن السيناتورين الجمهوريين، ترنت فرانكس وليندسي غراهام، يعدان بالفعل تقريرا لمشروع قرار يقضي بالحرب على إيران، والأرجح أنه سيقدم إلى الكونغرس خلال الأيام القليلة القادمة للتصويت عليه. وإذ تقول السيناتور الجمهورية إليانا روس ليتينين أنها «تفتقد أحمدي نجاد بشدة»، يعني ذلك شهادة نجاح لروحاني وهجومه الديبلوماسي، وبالرغم من ذلك فإن هامشاً كبيراً من الحركة ما زال متاحاً أمام الكونغرس ونوابه المؤيدين لإسرائيل كي يعرقلوا التقارب الأميركي - الإيراني، وذلك عبر تشديد العقوبات والتهديد بالحرب.

 

أوباما في موقف صعب

 

ركز الرئيس الأميركي باراك أوباما في كلمته أمام الأمم المتحدة الأسبوع الماضي على إيران وما أسماه الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وكلا الموضوعان يمس نتنياهو مباشرة. الأرجح أن نتنياهو سيحاول وضع متلازمة شرطية أمام أوباما ليثنيه عن المضي في التقارب الإيراني ـ الأميركي، عبر استثمار مسار التفاوض مع السلطة الفلسطينية كعنصر ضاغط على إيران التي تتبنى دعم المقاومة من جهة، وليحاول من جهة ثانية تقديم شيء ما إلى أوباما؛ الذي أخفق سابقاً في منع نتنياهو من توسيع المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. بمعنى أخر سيعمد نتنياهو إلى تخيير أوباما بين «السلام» مع الفلسطينيين أو التقارب مع طهران. ومع ذلك سيستمر الكونغرس في تلقي مشاريع قرارات من اللوبي المؤيد لإسرائيل، لتشديد الخناق على طهران. بدوره سيحاول أوباما أن يسير في الطريقين معاً، أي إيران وتسوية الملف الفلسطيني، على الأقل لأن مؤتمر «جنيف ـ 2» لتسوية الأزمة السورية المقرر انعقاده خلال أسابيع قليلة يتطلب تعاون طهران، مثلما تتطلب ملفات إقليمية متعددة ذلك التعاون. أصبحت حسابات المثلث الأميركي ـ الإيراني ـ الإسرائيلي واضحة، ولا يحتاج الأمر إلى خيال جامح لتقدير أن روحاني ينتظر بفارغ الصبر نقلة أوباما القادمة ليبني عليها المزيد من خطواته الانفتاحية التي ستحاصر إسرائيل أكثر فأكثر؛ فالمثل الإيراني يقول: شيئان لا يمكن إخفاؤهما.. العشق والسعال. قلب أميركا محسوم لإسرائيل، أما عقلها فما زال يوازن خياراته.

سيذهب الأسبوع الجاري مؤشراً مهماً على المدى الذي يستطيع أوباما بلوغه في سياسته حيال إيران، خصوصاً مع التصاعد المرتقب لهجوم مؤسساتي خشن تقوده إسرائيل في الكونغرس لعرقلة التقارب الأميركي ـ الإيراني.