أزمة جامعة بيرزيت والدروس المستفادة

بقلم: 

لليوم الثالث والعشرين تراوح أزمة جامعة بيرزيت ليس فقط مكانها، بل اتخذت منحى جديداً لأول مرة في تاريخ الجامعة تمثل في محاولة إدارة الجامعة وموظفوها "اقتحام" الأبواب المغلقة للجامعة وما نتج عن ذلك من تدافع أدى إلى رضوض وكسور لبعض الطلبة والعاملين. وخلال 40 عاماً عايشتها لجامعة بيرزيت كطالب واستاذ، لم أشعر يوماً بالإحباط كما أشعر به الآن، ولم أخش على مستقبل الجامعة وطلبتها وموظفيها كما أخشى عليه الآن. حتى في أحلك الأوقات والإغلاقات الطويلة للجامعة من قبل الاحتلال لم ينتبني مثل هذا الشعور. والحقيقة أننا كأعضاء هيئة تدريس أخفقنا في نقل رسالتنا التربوية إلى الطلبة، ولم نفلح في إيصال وتعزيز مفهوم الحوار المتمدن بين الأطراف المتخاصمة للوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف، وعبنا على الطلبة استخدامهم العنف وفرض الأمر الواقع بالقوة - ونحن محقون في ذلك- وفي الوقت نفسه مارسنا مالا يتماشى مع رؤيتنا التربوية كتربويين، ولا أستطيع أن أتصور نفسي كأستاذ اقف أمام صف تدريسي لأحاضر فيهم وبعض من الطلبة الجالسين في الصف كنت أتدافع معهم على بوابة الجامعة وربما تبادلنا بعض الشتائم، وهذا ما يفقدني احترامي لنفسي أولاً واحترامي للمؤسسة التي أعمل فيها ثانياً.
كثرت المبادرات المطروحة للحل، وتدخل القاصي والداني بعضهم بحسن نية والكثير منهم لغاية في نفس يعقوب، وارتدت مؤسسات المجتمع المدني وأطيافه السياسية والسلطة الوطنية إلى الوراء متخذة موقف اللامبالاة والمتفرج من الأحداث في انتظار ما تؤول إليه الأمور ربما لاقتناص الفرصة المناسبة للقفز على ظهر العربة، وتمثلت المبادرات العقلانية في مبادرتين متماثلتين إلى حد ما قدمتهما نقابة العاملين في الجامعة ووزارة التربية والتعليم العالي ترتكزان على فك ربط الدينار بالشيكل على أقساط الطلاب (ما يسمى بالشوقلة)، وزيادة "معقولة" على سعر الساعة المعتمدة للطلبة القدامى والجدد. ويبدو أن إدارة الجامعة قبلت بهاتين المبادرتين على مضض بينما رفضتهما الحركة الطلابية ومجلس الطلبة، وهذا يعيدنا إلى المربع الأول والسؤال الأول؟ هل أزمة الجامعة مالية أم أنها أزمة هوية؟
إذا كانت الأزمة مالية فبحسابات بسيطة يتبين لنا أن الزيادة المقترحة على الطالب القديم تساوي 15 ديناراً في الفصل الدراسي، أي شيكل واحد في اليوم الواحد (الفصل الدراسي 75 يوم تدريس) و2 شيكل على الطالب الجديد، ولا تعادل هذه الزيادة إلا اليسير من ميزانية الجامعة التي تزيد على عشرين مليون دينار سنوياً، ولا يوجد مبرر لإغلاق الجامعة هذه الفترة الطويلة، فالخسارة نتيجة الإغلاق أكبر من ذلك بكثير. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن إدارة الجامعة زادت من مخصصات صندوق الطالب المحتاج وتؤكد مراراً وتكراراً أن التعليم حق للجميع ولا يمكن حرمان أي طالب من هذا الحق بسبب وضعه المالي، وإذا افترضنا أن هذه المقولة حق يمارس وليس فقط شعارا يرفع، فإني أصطف بجانب أولئك الذين يوصّفون المشكلة على أنها أزمة هوية وليست أزمة مالية.
إذن، ما المشكلة في هوية جامعة بيرزيت؟ وهل تختلف عن هوية الجامعات الفلسطينية الأخرى؟ ألم تكن "بيرزيت" السباقة إلى مأسسة العمل الطلابي والنقابي في فلسطين ورعايتهما؟ وهل اختلفت رؤيتنا لماهية الجامعة ودورها بعد أربعة عقود من العطاء؟ هل عجزت "بيرزيت" عن التكيف حسب قانون الانتخاب الطبيعي وبالتالي فهي تسير إلى طريق مجهول؟ أم هل نريد الآن أن نرد لـ "بيرزيت" "الجميل" ونحتضنها كارهةً كما احتضنت أبناء فلسطين راغبة في نهايات القرن الماضي؟؟ أسئلة كثيرة وكبيرة أعترف بعجزي على الإجابة عن أي منها وأتركها لجهابذة الفكر والسياسة وصناع القرار في هذا الوطن.
وعود على بدء، ولنفترض أن الأزمة في حد ذاتها مالية، فإن أحوج ما نكون إليه في مثل هذه الأزمات التفكير بطرق إبداعية أو كما يقال في الأدبيات التفكير خارج الصندوق، خاصة إذا طال أمد الأزمة واتخذت مناحي جديدة. والسؤال المطروح هو ما هي الأولويات التي تريد كل من الحركة الطلابية وإدارة الجامعة تحقيقها من خلال هذه الأزمة؟
لنبدأ بالحركة الطلابية، وفي تصوري أن القضية المالية هي ثانوية على الأجندة الطلابية بل هي وسيلة لتصوير المجلس والحركة الطلابية وإظهارهم بمظهر المنتصر الذي يستطيع أن "يردع" الإدارة ويوقفها عند حدها، آخذين بعين الاعتبار الانتخابات السنوية لمجلس الطلبة وامكانية استغلال أي طرف من الطلبة "تقاعس" أو تهاون الطرف الطلابي الآخر من أجل الهجوم عليه، أما بالنسبة للإدارة فإن هيبتها على المحك، وهذا ما يدفعها في بعض الأحيان إلى اتخاذ قرارات متسرعة تنتج سيناريوهات غير متوقعة، وبالتالي إما أن تندفع إلى الأمام أو ترتد إلى الخلف، ما يفاقم أزمة الهيبة.
التفكير خارج الصندوق في مثل هذه الأزمة يتمثل في زيادة معقولة على الأقساط التعليمية للساعة المعتمدة على الطلبة القادرين على المساهمة بشكل أكبر في رسومهم التعليمية والتي تغطي حالياً 60% من تكلفة تعليمهم حسب إحصائيات الجامعة، وهؤلاء الطلبة لا يقومون بتقديم طلب مساعدة مالية للجامعة، ويشكلون من ثلاثة أرباع إلى ثلثي الطلبة، وبالتالي لا يوجد مبرر أخلاقي لمجلس الطلبة ليمنع زيادة مشاركة هؤلاء في تكلفة تعليمهم. التفكير خارج الصندوق أيضاً يتطلب منا إنشاء صناديق لدعم الطالب المحتاج ومشاركة الجميع في حل الأزمة المالية فهذا مركب إن غرق غرق الجميع معه، وقد يتطلب هذا فرض الزيادة في الرسوم على أبناء العاملين في الجامعة المعفيين من الأقساط – قد لا يعجب هذا الاقتراح الكثير من العاملين في الجامعة- ومشاركة نقابة العاملين والطلبة في دعم صناديق الطالب المحتاج عن طريق التبرع وجلب الأموال لها وليس فقط التشدق بذلك في الأزمات. التفكير خارج الصندوق يتطلب مشاركة فعالة من القطاع الخاص في رفد هذه الصناديق، والذين يحصلون بدورهم على موارد بشرية مهيئة ومدربة من الجامعة دون المساهمة في الإنفاق عليها. التفكير داخل وخارج الصندوق يتطلب من الحكومة الالتزام بما التزمت به تجاه التعليم العالي، فالتعليم العالي هو مسؤولية الحكومة قبل أن تكون مسؤولية الأسر والجمعيات.
التفكير خارج الصندوق أيضاً يتطلب العودة إلى روح "بيرزيت" وإنشاء شراكة حقيقية بين الإدارة والنقابة ومجلس الطلبة على اعتبار أن الجامعة هي جامعة للجميع ما يرفعها يرفع الجميع وما يصيبها يصيب الجميع، والتأكيد على أن الحلول لمشاكل الجامعة تأتي من وتتم في داخل الأسرة الواحدة، وأخيراً فإن التفكير خارج الصندوق يتطلب منا نظرة تأمل ذاتية إلى ما نحن عليه وإلى أين نتجه، وتنظيم بيتنا الداخلي وتحديد أولوياتنا، وعلينا أن نكون شجعاناً ونتخلص من كثير من الكلاشيهات التي ندفع ثمنها دون أن يكون لها قيمة حقيقية على أرض الواقع.

المصدر: 
الأيام