«إسرائيل النووية» في وثيقة جديدة لـ «سي. آي. إيه

بقلم: 

في 21 فبراير عام 1955، حرر «ريتشارد بيسيل»، أحد كبار المسؤولين في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية صكاً قيمته 1.25 مليون دولار، وأرسله بالبريد إلى «كيلي جونسون»، كبير مهندسي مصنع «بوربانك - كاليفورنيا» ، التابع لمؤسسة «لوكهيد» لصناعة الطائرات، كي يبدأ العمل، سراً، على تصنيع أول طائرة تجسس أميركية عرفت باسم U2، مزودة بكاميرات وعدسات وأفلام ومعدات خاصة، قادرة على الطيران لمدة 11 ساعة متصلة، قاطعة مسافة أكثر من 5 آلاف ميل، وعلى ارتفاعات تتجاوز 65 ألف قدم. في الخامس عشر من أغسطس الماضي 2013، وإعمالاً لقانون حرية المعلومات لعام 2005، وبطلب من باحثي «أرشيف الأمن القومي» في واشنطن، رفعت السرية عن وثيقة، يبلغ عدد صفحاتها 355 صفحة عن التاريخ السري لطائرة الاستطلاع الجوي U2 وبرنامجها من عام 1954 إلى 1974.
هذه الوثيقة، التي في حجم كتاب، أعدت في الأصل كدراسة، محظورة التداول، عمل عليها مؤرخ الـ CIA «جريجوري بيدلو» وزميله «دونالد ويلزينباك»، لعرضها في مؤتمر داخلي حول الطائرة عقد عام 1992، للعاملين في وكالة الاستخبارات الأميركية. في عام 1998، رفعت السرية بشكل جزئي عن الوثيقة، لكن حجم الطمس والحذف والإخفاء كان كبيراً.
ويأتي رفع السرية الأخير في الشهر الماضي ليكشف الكثير من المعلومات عن عمليات طائرة التجسس، في نسخة لم تخلو، على أية حال، من حذف لسطور أو لمحتوى صفحات بعينها تركت بيضاء ولا تزال سرية للغاية. المطلع على الوثيقة يلحظ أن بعض الحذف، المحظور إلى اليوم، يتعلق بما كشفت عنه رحلات الاستطلاع الجوي، والتصوير، في منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً من فوق الأراضي الخاضعة للإحتلال الإسرائيلي، ما بين «أزمة السويس» في صيف عام 1956، و«التدخل العسكري الأميركي في لبنان» صيف عام 1958. واللافت أن يخلو التاريخ السري لطائرة التجسس الأميركية U2 من ذكر، ولو بإشارة عابرة، لصور بعينها التقطتها الطائرة وحللها خبراء «CIA»، لصحراء النقب ولقطات الإنشاءات الإسمنتية «المريبة» التي تبين بشكل قاطع أنها إنشاءات نووية»، تقيمها دولة إسرائيل في مدينة «ديمونة» بالقرب من بير سبع في فلسطين المحتلة.

كيف بدأ الرصد؟
جاء تحرير «ريتشارد بيسيل» لصك الـ 1.25 مليون دولار، في فبراير عام 1995 في إطار صفقة بعقد قيمته 22.5 مليون دولار، بين الـ «CIA»، وشركة صناعة الطائرات، لبناء 20 طائرة من النوع نفسه، لكن «لوكهيد» احتاجت إلى سيولة نقدية فورية للبدء في هذا المشروع. ويتبين من الوثيقة أن لوكهيد، وفي سابقة تعد اليوم معجزة في عالم المقاولات العسكرية، أنتجت 20 طائرة بقيمة إجمالية تقل عن 19 مليون دولار.
ارتبط السعي إلى تنفيذ مشروع طائرة الـ«U2»، وبشكل رئيسي، بالحرب الباردة، وبالرغبة في القيام بطلعات استكشافية فوق ما كان يعرف بالكتلة الشرقية، وحول الاتحاد السوفييتي سابقاً. ومع اكتمال بناء أول طائرة، تم تحديد موقع لتجريبها في بقعة في صحراء نيفادا الأميركية، تحيط ببحيرة «جروم» Groom Lake . تكشف الوثيقة التاريخية، ولأول مرة، عن هذا الموقع الذي وافق على اختياره وتحديده «دوايت إيزنهاور»، الرئيس الأميركي الأسبق، نظراً لقربه من منشآت نووية. وقتها قامت الـ «CIA»، والقوات الجوية بعملية مسح جوي للمنطقة، وبعد أن بدأت طائرة التجسس تجارب التحليق على ارتفاعات أعلى بكثير من ارتفاعات الطائرات التجارية، وأيضاً الحربية، سرت في المنطقة شائعات، وبدأت تظهر التقارير، عن الأطباق والصحون الطائرة الغريبة، التي شاهدها الأهالي على ارتفاعات شاهقة.
إضافة إلى الكشف عن موقع التجارب الذي ظل سراً، تضمنت النسخة المفرج عنها منتصف الشهر الماضي إشارات عديدة إلى مسؤولي الاستخبارات والقيادات العسكرية الذين قاموا بزيارات إلى الموقع، مع خرائط للمنطقة. كما تضمنت الوثيقة معلومات عن عدد المهام التي قامت بها الطائرة، نتائج الاستطلاع، والمسارات، وخرائط تلك المسارات والرموز والكلمات المشفرة ومعلومات وخرائط عن مهام U2 خلال الحرب الصينية الهندية ما بين عامي 1962 و 1967، إضافة إلى توظيف طيارين وملاحين من أصول صينية للقيام باستطلاعات جوية على طيران منخفض فوق الصين، وانطلاق U2 من فوق حاملة طائرات قبالة «الباسيفيك»، في مايو عام 1964، لتصوير موقع اختبار نووي فرنسي، وسرد تفصيلي لمهام دعم لعمليات قامت بها الـ «سي آي. إيه» خلال عام 1958، لمساندة متمردي إندونيسيا، وكذلك متمردي التبت ضد الصين، ومهام أخرى في مناطق عديدة حول العالم.
إشراك الحليف البريطاني
في العاشر من يناير عام 1956، وبعد قيام «U2»، بأول رحلة تجريبية في أغسطس 1955، طار «ريتشارد بيسيل» إلى لندن للبحث في إشراك بريطانيا في المشروع. وفي تقديمه للنسخة الجديدة، الأقل طمساً، للتاريخ السري للاستطلاع الجوي لهذه الطائرة، يلاحظ جيفري ريتشلسون، وهو من كبار الباحثين في «أرشيف الأمن القومي» أن الرئيس الأميركي الأسبق، إيزنهاور، وافق على المشاركة البريطانية كوسيلة لإرباك السوفييت، بشكل خاص، إضافة إلى «توزيع مخاطر الفشل». وتضمنت الوثيقة الجديدة 3 صفحات كانت حذفت من نسخة عام 1998، وتبين أن نجاح الطائرة في التحليق على ارتفاعات وصلت إلى 72 ألف قدم، جعلها بعيدة جداً عن مدى كل الأنواع المعروفة للأسلحة المضادة للطائرات والطائرات الاعتراضية، إضافة إلى ما توافر لها من عدسات عالية الجودة. ولأن الهدف الرئيسي للـ«U2» كان ما وراء الستار الحديدي، للاتحاد السوفييتي، بدأ «ريتشارد بيسيل»، وطاقمه، في البحث عن قواعد عمليات في أوروبا. وبدت المملكة المتحدة، أقرب حلفاء الولايات المتحدة، الاختيار المنطقي والأفضل.
في لندن، التقى «بيسيل» مع المسؤولين في القوات الجوية الملكية، والاستخبارات العسكرية البريطانية، وكانت الاستجابة واضحة لكن العرض احتاج إلى موافقة من مستويات أعلى. عاد «بيسيل» إلى واشنطن وأبلغ مديره «آلن دالاس»، الذي سرعان ما رتب لقاء آخر في لندن مع «سلوين لويد» وزير خارجية بريطانيا وقتها، لدراسة إمكانية الحصول على موافقة حكومية بريطانية للمشروع.
قدم «بيسيل» الموضوع إلى الخارجية البريطانية في الثاني من فبراير 1956، ومع بدايات مارس من العام نفسه، وافق «أنطوني إيدن»، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، على تمركز الـ«U2» في قاعدة «لاكينهيث» Lakenheath التابعة لسلاح الجو البريطاني، بمقاطعة «سافوك» شرق إنجلترا، وهي القاعدة نفسها التي تتمركز فيها طائرة القيادة الإستراتيجية الأميركية. وبعد بريطانيا تم اختيار ألمانيا(الغربية سابقاً)، دون إبلاغ السلطات الألمانية، حيث تمركزت الطائرة في القاعدة الأميركية في غربي ألمانيا.
يوم 20 يونيو عام 1956، قامت الـ«U2» بأول مهمة للاستطلاع فوق أوروبا الشرقية. وكان التخطيط لاستخدام تركيا كقاعدة تمركز للطائرة، تتيح التحليق المريح فوق الاتحاد السوفييتي، قد أسفر عن اتصال في الأول من مايو من العام نفسه، أجراه «فوي كوهلر»، الملحق بالسفارة الأميركية في أنقره، مع عدنان مندريس، رئيس الوزراء التركي وقتها، الذي وافق على الفور، وبذلك انضمت تركيا (قاعدة إنجيرلك بالقرب من أضنا)، إلى قاعدتي بريطانيا وألمانيا (الغربية) كقواعد انطلاق لطائرات «U2». وسرعان ما أصبحت أجواء الشرق الأوسط منطقة تحليقات وتصوير لهذه الطائرة.
المحذوف من السويس إلى بيروت
في صيف عام 1956، وعقب تأميم جمال عبدالناصر لشركة قناة السويس البحرية، وإعلانها شركة مساهمة مصرية اعتباراً من 26 يوليو من ذلك العام، تصاعد التوتر ما بين مصر وبريطانيا وفرنسا، وأيضاً بين مصر وإسرائيل، وظهرت لدى واشنطن الحاجة إلى معلومات عن التطورات في الشرق الأوسط، فصدر أول تكليف بتحليق الـ«U2» فوق المنطقة. وفي 29 أغسطس من العام نفسه غادرت طائرتان قاعدة «فايسبادن» في ألمانيا، واتخذتا طريقهما من اليونان إلى مصر، ثم إسرائيل فلبنان وسوريا. ولأن الرحلة كانت دائرية، فقد هبطتا في تركيا للتزود بالوقود، وفي اليوم التالي حلقتا فوق سوريا ولبنان وإسرائيل ومصر واليونان، وعادتا إلى ألمانيا، وقد شملت رحلة عودة التحليق فوق قطاع غزة.
يبدأ الحذف عندما تشير الوثيقة إلى التحليق الثالث للطائرة، يوم 11 سبتمبر، فوق المنطقة نفسها، وتغطيتها المزيد منها باتجاه الغرب، وذلك في مهمة خاصة هدفت إلى (......)، وهنا يقدر الحذف بصفحة كاملة. وأغلب الظن أن السبب هو الحرص على عدم ذكر مناطق، ضمن خط سير الـ«U2» فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنطقة صحراء النقب على وجه التحديد. فقد كانت صحراء النقب، محل متابعة من طائرة التصوير والتجسس الأميركية، وملاحيها بمن فيهم Francis Gary Powers، الذي اسقط فيما بعد أثناء مهمة تصوير فوق قاعدة سوفييتية وحوكم في موسكو في السابع عشر من أغسطس 1960 وسجن 10 سنوات. وكان سر الاهتمام يكمن في إنشاءات ذات طبيعة خاصة، مثيرة للريبة الأميركية تقوم بها «إسرائيل» وبمعاونة سرية فرنسية. وقد تبين في وقت لاحق أنها إنشاءات نووية.
بعد الفراغات البيضاء، تمضي الوثيقة في كشف النقاب عن مدى الاهتمام الذي أبدته إدارة إيزنهاور بتطورات الأزمة وطبيعة الصور التي التقطت للحشود الإسرائيلية في المنطقة، والبريطانية في موانئ وقواعد بريطانيا في مالطا. وفي سياق التفاصيل ورد في الوثيقة أن إيزنهاور قرر الإفراج عن مجموعة من تلك الصور وأرسلها إلى بريطانيا مع مندوبين خاصين، و«كانت تلك أول وآخر مرة يصدق فيها البيت الأبيض على إرسال صور إلى البريطانيين في أزمة السويس». وتشير الوثيقة أيضاً إلى لجنة (بارامونت) الاستخباراتية العسكرية المشتركة، آلية المستوى التي شكلت وكانت تجتمع بشكل يومي، وأحياناً عدة مرات كل يوم، لإعداد تقارير تتضمن تحليلات للصور التي داومت طائرات الـ«U2» على التقاطها.
كانت أزمة السويس نقطة تحول رئيسية في استخدام الطائرة التي كانت معنية قبل الأزمة بتجميع معلومات إستراتيجية لكن، وفي أزمة السويس كان المطلوب أن تعمل الطائرات كوحدة استطلاع تكتيكي تُحمض وتظهر الصور في الحال، وتقوم وفور هبوطها بتحليلها حتى لا يحدث تأخير في تقديم المعلومات الاستخباراتية عن التطورات التكتيكية حول السويس. وساعد ذلك لجنة «بارامونت» على توقع الهجوم الإسرائيلي البريطاني الفرنسي على مصر قبل 3 أيام من بدء هذا العدوان الثلاثي، ظهيرة 29 أكتوبر، بإسقاط مظلي إسرائيلي على سيناء متبوعاً بهجوم مدرعات، ثم الهجوم البريطاني الفرنسي على منطقة القناة واحتلال مدينة بورسعيد.
انتهت أزمة السويس، لكن المهام التكتيكية أصبحت ضرورية، ولذلك استمر الاحتفاظ داخل القاعدة الأميركية في تركيا بالتسهيلات المعملية وأطقم تحليل الصور، خاصة وأن U2 اسُتخدمت (فوق الشرق الأوسط) مرتين في ديسمبر 1956، و11مرة في النصف الأول من عام 1957. لا تفصح الوثيقة عن أسباب أو نتائج تلك التحليقات، لكنها تشير إلى أن الطائرة «وضعت في حالة انتباه تحسباً للطوارئ». ولم تطل حالة الانتظار. فمع مجيء عام 1958، توسعت مهام طائرة التجسس الأميركية في أجواء الشرق الأوسط بفعل مجموعة من التطورات والأحداث التي تطلبت من واشنطن مراقبة شديدة: الوحدة المصرية السورية، وقيام الجمهورية العربية المتحدة في فبراير من ذلك العام. تراجعت مهام جمع المعلومات الإستراتيجية عن الكتلة السوفييتية، وزادت حاجة صانع القرار في واشنطن إلى معلومات تكتيكية عن مواقف الأزمات حول العالم. وعادت الوحدة B لطائرات الـ«U2» إلى النشاط والتحليق الدوري لرصد الموقف المضطرب في الشرق الأوسط... ومع حلول شهر يوليو رأى إيزنهاور أن هذا الموقف أصبح أكثر تهديداً ... ومع سقوط الملكية في العراق وإغتيال العائلة المالكة، وتأزم الموقف في لبنان قررت واشنطن أن التدخل الأميركي أصبح ضرورياً. وقد تم التدخل بطلب من الرئيس اللبناني الأسبق، كميل شمعون، وتم نشر قوات «المارينز» في بيروت، وبالتنسيق مع بريطانيا أرسلت قوات مظلات بريطانية إلى الأردن للمساندة.
لا شيء عن إسرائيل
مع الإنزال العسكري الأميركي في لبنان، أصبحت القيادات الأميركية في واشنطن في حاجة ملحة إلى معلومات تكتيكية بناء على استطلاعات جوية وتحليل للمشاهد على الأرض، وصدرت التعليمات إلى الوحدة B لطائرات الـ«U2» للقيام بتحليقات نشطة ومستمرة، وتم تدعيم وحدة إظهار الأفلام، التابعة لها، بالفنيين والمعامل والمصورين. ويتبين من الوثيقة أن التحليقات، وعلى مدار صيف عام 1958، قامت بتصوير المعسكرات الحربية، والمطارات والموانئ في كل الدول الشرق أوسطية، وخاصة «التي تتلقى أسلحة سوفييتية وتمثل تهديداً للأسطول السادس الأميركي». يتجاهل هذا الجزء من الوثيقة، دون وجود فراغات تشير إلى حذف، ما كان فوق أرضٍ تحتلها إسرائيل، ومن المؤكد أن الطائرات عبرت فوقها ضمن عبورها فوق الأراضي المصرية والسورية واللبنانية. ويبدو واضحاً أن لهذا التجاهل علاقة بالصفحات البيضاء التي لم ترفع السرية عن محتوياتها إلى اليوم، في الجزء الخاص بأزمة السويس عام 1956، والثابت في وثائق أميركية ضمن ملفات متعددة، أن التجاهل، شأنه شأن الحذف، يتعلق بما كان يجري في صحراء النقب.
والثابت أيضاً، في مصادر موثقة، أن مفسري الصور التي التقطتها طائرات «U2»، على مدار صيف عام 1958 كان بإمكانهم مشاهدة الكثير من النشاطات في منطقة تدريب على القصف للقوات الجوية الإسرائيلية إلى الجنوب من «بئر السبع»، حيث يوجد مركز تجاري للبدو. وفي كتابه «خيار شمشون»، يقول الصحفي الأميركي «سيمور هيرش» إن محللي الصور، في وكالة الاستخبارات المركزية، لاحظوا وجود سياج حول منطقة كبيرة قاحلة على مسافة 12 ميلاً خارج بلدة «ديمونة» الصحراوية الصغيرة. ولوحظ أيضاً وجود طريق جديد من «بئر السبع» بطول 25 ميلاً إلى الشمال، تؤدي مباشرة إلى المنطقة المسيجة.
مع استمرار تدفق الصور على «سي آي إيه»، لوحظ أن الحفر تحت الأرض قد بدأ، وبدأ الإسمنت ينصب في الأساسات الكثيفة. ولم يكن صعباً على خبراء مفاعلات الأسلحة النووية في الولايات المتحدة معرفة ما الذي يجري في وسط صحراء النقب، وأن صب القواعد الإسمنتية هو لبناء قبة المفاعل المستديرة. يدرك المطلعون على الوثائق الأميركية أن الأنباء عن مفاعل ديمونة كانت تنقل بسرعة إلى البيت الأبيض. ومع استمرار تحليق«U2»، وتدفق الصور، بدأ المشهد أكثر وضوحاً: إنهم يعملون في بناء موقعين. موقع للمفاعل، والموقع الثاني، تحت الأرض، هو لمصنع إعادة المعالجة الكيميائية الضرورية لصنع السلاح والقنبلة.
يوم قبة «ديمونة»
المعروف تاريخياً أن إدارة أيزنهاور كانت تشعر بالتعاطف مع ما يوصف أميركياً بـ«الوضع الدولي الدقيق لإسرائيل» سنة 1958، و«التهديد الكبير لها من الجمهورية العربية المتحدة»، والخوف من أن عبد الناصر قد يتحد مع العالم العربي ضد إسرائيل. الإيمان بحق «إسرائيل» في الوجود قائم وبقوة، لكن الاقتناع الذي ساد، وبقوة أيضاً، أن القنبلة النووية الإسرائيلية تزعزع الشرق الأوسط. كان لإدارة الرئيس أيزنهاور، ومستشاريه، اتصالات سرية مع تل أبيب بشأن المنشأة النووية في النقب وقلق إسرائيل من الوحدة العربية الناصرية والتوسع السوفييتي. وفي بعض المصادر أن أيزنهاور أراد معالجة القلق الإسرائيلي بتأكيد اهتمام الولايات المتحدة بسلامة واستقلال إسرائيل، وأنه أثار قضية «ديمونة» بشكل مباشر وصريح مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، ديفيد بن جوريون، وبأسلوب أراد به أن يدفع الأخير إلى أن يطلب من واشنطن أن توسع الولايات المتحدة مظلتها النووية لتشمل إسرائيل.
مع نهاية أغسطس، هدأت أزمة «الشرق الأوسط». وبمجيء الأسبوع الأخير من أكتوبر 1958، أكملت واشنطن سحب قواتها من المنطقة. تشير النسخة الجديدة للتاريخ السري لطائر التجسس «U2»، إلى أن المشاركة البريطانية في عمليات الاستطلاع الجوي التجسسي لم تبدأ إلا في نوفمبر من العام نفسه عندما التحق 4 من ضباط سلاح الجو الملكي البريطاني بالوحدة B المتمركزة في أضنا التركية. كانت بريطانيا قد أنشأتها، ومع تلقيها مجموعة الصور الأولى إبان أزمة السويس، نظام سيطرة جديد، لتحليل الصور الملتقطة من ارتفاعات شاهقة، اندمج في وقت لاحق، مع نظام السيطرة الأميركي النظير، حيث اتسع التعاون بين الجهات الاستخباراتية المعنية بالتحليل في البلدين.
في ديسمبر من العام نفسه 1958 كان العمل في ديمونة قد بلغ نقطة أصبحت معها قبة المفاعل مرئية من الطرق المجاورة في النقب. كان الملحقون العسكريون الأميركيون قد كلفوا أيضاً بإختلاق الأسباب الوجيهة للسفر إلى الصحراء والتقاط الصور. لم يعد لدى الطاقم المسؤول عن هذا الملف داخل « CIA» شك في أن إسرائيل تعمل على إنتاج قنبلة نووية. «أحياناً كان آلن دالاس، مدير «سي آي إيه» وقتها يسأل بروجيوني المسؤول عن الملف عن الجديد في «المعلومات اليهودية»، وكان يقصد تقارير الصور عن «مفاعل ديمونة». بعدها يتصل مكتبه بالمسؤول عن الملف ويقول لبرجيوني أن ينسى الموضوع . وفي النهاية رأى الفريق «أن لا يثير أية أسئلة عن ديمونة لشعوره أن الدوائر العليا قررت أن تكون هادئة متساهلة». كان المفاعل النووي الإسرائيلي قد أصبح حقيقة تؤكدها الصور المتدفقة على الـ«سي آي إيه» من طائرة التجسس الأميركية «U2». وكانت هذه الحقيقة محل مشاورات مستمرة ما بين الحكومات المتعاقبة في كل من واشنطن وتل أبيب.
واشنطن و «غض البصر»
يمكن للمطلع على ملفات وثائق هذه المسألة الإسرائيلية النووية، في الأرشيف الوطني الأميركي، أن يختزل موقف واشنطن في 3 محطات أساسية:
محطة تصاعد فيها التوتر ما بين إدارة الرئيس جون كينيدي وتل أبيب، بداية الستينيات، لرفض الأخيرة السماح بالتفتيش على مفاعل ديمونة من قبل لجان أميركية. وهنا نشير إلى ملامح صورة مختلفة بدأت تتشكل في واشنطن، في عهد الرئيس جون كنيدي، ويبدو أنها أزعجت طموحات تل أبيب النووية. ويتبين من وثائق أميركية أن أول اقتراب من قضية إسرائيل النووية، تم عندما تلقى كينيدي- وبعد 10 أيام من دخوله إلى البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة- مذكرة من صفحتين من وزير خارجيته «دين رسك» كان موضوعها «نشاطات مفاعل إسرائيل النووي». وقد جرت محاولات أميركية ملحوظة للتفتيش على مفاعل ديمونة، لكنها محاولات كانت تواجه بتمويهات شديدة من الجانب الإسرائيلي، وانتهت بوقف التفتيش مع نهاية الستينيات وبداية عهد الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، والدكتور هنري كيسينجر.
المحطة الثانية تمكن فيها كيسينجر وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأسبق في نهاية الستينيات، من صياغة قاعدة غريبة تسمح لواشنطن أن تتجاهل امتلاك إسرائيل لسلاح نووي، طالما أن الأخيرة لا تعلن عن هذا الامتلاك. في صيف عام 1969، وداخل مكتبه في مجلس الأمن القومي، كان كيسينجر على رأس اجتماع لما يسمى بـ «مجموعة المراجعة»، وهي واحدة من المجموعات- الاستشارية- التي سعى كيسينجر إلى تكوينها قبل أن يصبح في وقت لاحق وزيراً للخارجية. كان موضوع الاجتماع هو التشاور حول قدرات إسرائيل النووية، وبدأ كيسينجر الحوار باستبعاد قيام الرئيس نيكسون بإثارة الموضوع النووي الإسرائيلي مع جولدا مائير رئيسة وزارء إسرائيل وقتها، وكانت على وشك القيام بزيارة إلى واشنطن وأضاف: إن المهمة المطروحة على عاتقنا الآن هي تحديد ما نريده من الإسرائيليين نسبة إلى الضغوط التي يمكننا ممارستها، ثم وضع مسار للتحرك. وانتهى الاجتماع أيضاً بأن قال كيسينجر إن على الولايات المتحدة «تجنب المواجهة المباشرة مع إسرائيل، وكذلك تجنب النشر العلني لأنشطة إسرائيل النووية. كما أن علينا أن نقرر ما إذا كنا سنطلب هدم النظام بالكامل أم مجرد إخفائه».
شهد منتصف السبعينيات المحطة الثالثة التي تختزل موقف واشنطن من المسألة النووية الإسرائيلية، حيث قررت التعامل مع المسألة النووية الإسرائيلية باعتبارها غير موجودة رغم تأكدها من امتلاك إسرائيل لترسانة نووية. ففي صيف ذلك العام، جاء قي تقييم رسمي شامل لــ «سي. آي. إيه»، عن آفاق الانتشار النووي أن إسرائيل أنتجت بالفعل أسلحة نووية. وقد قام التقييم على أساس اقتناء «إسرائيل» لكميات كبيرة من اليورانيوم، بعضها بطرق سرية، والطبيعة الملتبسة لجهود إسرائيل في مجال تخصيب اليورانيوم واستثمار إسرائيل الكبير في نظام صاروخي مكلف مصمم لاستيعاب رؤوس نووية. في الصيف نفسه وداخل الكونجرس الأميركي، وفي جلسات استماع اللجنة الفرعية للطاقة والبيئة، وجه النائب «آلان ستيلمان» سؤالاً عما قامت به وزارة الخارجية من دراسة لاحتمالات استخدام إسرائيل لسلاح نووي في الشرق الأوسط، أو أي مكان آخر. في خريف العام نفسه، وبالتحديد يوم 15 أكتوبر، أعدت الخارجية الأميركية ردها على أسئلة النائب ستيلمان،
وفيه جاء «أن إسرائيل، رغم امتلاكها في تقديرنا للقدرة التقنية والعلمية اللازمة لإنتاج أسلحة نووية، إلا أننا لا نملك أدلة عينية على قيامها بهذا». تسجل هذه الوثيقة اعتراض الخارجية على موقف وكالة الاستخبارات، باعتبار أن ما ورد في تقريرها هو مجرد «تقييم» لا يمكن دعمه بالأدلة. ويبدو أن هذا «الاعتراض» كان بمثابة قرار، ربما كان السبب في خلو «التاريخ السري لطائرة الاستطلاع الأميركية «U2»، من أي ذكر للصور التي التقطتها من فوق صحراء النقب الفلسطينية لمفاعل ديمونة النووي الإسرائيلي.
لم تتوقف مهام الاستطلاع الجوي «التكتيكي» لطائرة الـ«U2»، فوق الشرق الأوسط، ومنطقة قناة السويس تحديداً. ولا تذكر الوثيقة الجديدة جديداً عن حرب يونيو عام 1967، تقفز إلى صيف وشتاء عام 1970، مشيرة إلى أن الطائرة قامت ما بين 9 أغسطس إلى 10 نوفمبر، من ذلك العام بـ 29 مهمة فوق منطقة القناة، وأن الهدف كان تقديم معلومات عن جبهة القتال المصرية -الإسرائيلية. كانت الطائرة، في مهام مماثلة عندما اندلعت حرب أكتوبر 1973، واتسعت مهامها فوق المنطقة نفسها، إضافة إلى التحليق فوق منطقة الجولان في سوريا، خلال عمليات فك الاشتباك، الإسرائيلي - المصري، والإسرائيلي- السوري، ومراقبته في ربيع عام 1974.
*باحث وكاتب صحفي مقيم في بريطانيا

المصدر: 
الاتحاد