تركة «أوسلو» الصعبة

بقلم: 

قبل عشرين عاماً، وقع زعيما منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، في البيت الأبيض، إعلان مبادئ لحكم ذاتي انتقالي للفلسطينيين. وعرف هذا باسم اتفاقات أوسلو نظراً للدور الذي لعبته النرويج في الإعداد للمفاوضات السرية بين الإسرائيليين والفلسطينيين واستضافتها.

وجاءت اتفاقات أوسلو تحركها بيئة دولية وإقليمية أعادت فيها مسألة السلام والديمقراطية تشكيل العلاقات الدولية. فقد أسقطت الثورات الديمقراطية التي اكتسحت شرق أوروبا في ثمانينيات القرن الماضي الشيوعية وهددت الأنظمة السلطوية بمصير مماثل.

وعلى امتداد العالم، طُرحت رسالة قوية مفادها أن الناس لا يمكن إبقاؤهم في الأغلال في ظل سلطوية الشيوعية أو استغلال الاحتلال. وفجأة ألقت البيئة الدولية الجديدة والتفاعل بين السلام والديمقراطية الضوء على المفارقة التاريخية لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

وكما لو أنهم ينقلون هذه الرسالة مباشرة إلى المحتل الإسرائيلي، نزل الشبان الفلسطينيون إلى شوارع مدن فلسطين المحتلة في نهاية عام 1987 في انتفاضة عارمة، ولا شيء في أيديهم سوى الحجارة ليتحدوا المحتل وآلته القمعية.

وقصد بالانتفاضة الفلسطينية تلك توجيه رسالة للقيادة الفلسطينية أيضاً، كان فحواها شيء يشبه التالي: لم تتمكنوا من تحرير فلسطين، ومنفاكم القسري في تونس أبعدكم عن خط المواجهة مع إسرائيل والحل العسكري للصراع الفلسطيني أبعد ما يكون.

وقد اجتمع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في نوفمبر عام 1988، وتبنى أعضاؤه قرارات تاريخية بعيدة الأثر تضمنت إعلان فلسطين دولة مستقلة، وشجب العنف في كل صوره واستعداد الفلسطينيين للسعي إلى حل سلمي للصراع.

ومن المهم أن حلاً مثل هذا كان يتعين أن يرتكز على كل قرارات الأمم المتحدة. وحيث إن قرار 242 طالب إسرائيل بأن تنسحب من الأراضي التي احتلتها في حرب 1967 فحسب، فالقيادة الفلسطينية تنازلت في الواقع، قبل أي مفاوضات، عن الأراضي التي احتلت في حربي 1947 و1948. وهذا يعني في جوهره أن الفلسطينيين مستعدون الآن لأن يقيموا دولة مستقلة على أقل من 23 في المئة من مساحة فلسطين تحت الانتداب.

وقبل اتفاقات أوسلو أيضاً وقعت حرب الخليج عام 1991 التي قادت فيها الولايات المتحدة ائتلافاً دولياً وطردت جيش صدام من الكويت. وكي تضمن واشنطن الدعم العربي للحرب وعدت بالدعوة إلى مؤتمر دولي لحل الصراع. وتمت الدعوة إلى مؤتمر مدريد في أغسطس 1991 واضطر بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر إلى أن يهددا بقطع المساعدة المالية لإسرائيل قبل أن يحضر شامير مؤتمر مدريد على مضض.

ولكن موقف شامير شديد السلبية سبقه إلى المؤتمر والمتمثل في: لا للتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولا لاعتراف بالمنظمة، ولا لحق تقرير المصير للفلسطينيين. ولم يتمخض المؤتمر عن شيء ذي قيمة غير اتفاق عام على إطار عمل للسلام.

وفوق هذا التاريخ المرير لم تنج اتفاقات أوسلو أيضاً من تناقضاتها المضمرة، فقد عانت من عيوب لا علاج لها وكان الأمر يحتاج لمعجزة للتغلب على العقبات وتحقيق الأهداف المعلنة للأطراف.

ولتفكروا في التالي: ليس هناك ذكر لإنهاء الاحتلال. فالجيش الإسرائيلي سيعيد انتشاره ولكن لن ينسحب تماماً. وطمست اتفاقات أوسلو ببراعة الحقائق البغيضة للاحتلال من معجم مفردات عملية السلام. واستبدل بهذه الحقائق مصطلح أكثر تهذيباً سمي نقل السلطة والسلطات من الجيش الإسرائيلي وإدارات مدنية إلى السلطة الفلسطينية المنتخبة. وخضعت كل عمليات النقل هذه لاعتبارين أساسيين: الأول والأهم هو الأمن الإسرائيلي، والثاني هو الممارسات الحكومية الجيدة للسلطة الفلسطينية والسلوك الجيد بصفة عامة للزعماء الفلسطينيين.

وظلت إسرائيل بمثابة الحكم الوحيد في كلا الاعتبارين. وكان هذا يعني أن عملية السلام سيتم نبذها جانباً كل مرة يقضي فيها الإسرائيليون أن سلوكاً معيناً من الفلسطينيين يهدد أمنهم وينحرف عما يرضونه من سلوك. ولسوء الحظ قدم الفلسطينيون أكثر مما يكفي من المبررات. وحول الإسرائيليون عملية السلام إلى سلسلة طويلة من العقوبات ضد القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني تتخللها اتفاقات من حين إلى آخر.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأمن الإسرائيلي لا يعني أمن دولة إسرائيل وحدها بل يعني أيضاً أمن المستوطنين كذلك. فقد أعيد نشر الجيش الإسرائيلي ليس لإنهاء الاحتلال ولكن لحماية وتعزيز الاستيطان.

وعكفت حكومات إسرائيلية متعددة على مدار السنوات العشرين الماضية على تعزيز المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وعلى رغم الزعم بأن اتفاقات أوسلو توفر إطار عمل للسلام فإنها سمحت بتعزيز الاحتلال.

ولم توفر أوسلو على أفضل الأحوال إلا كياناً بحكم ذاتي محدود عرضة لتقلبات نوايا إسرائيل. وهذا تقريباً ليس أساساً لسلام عادل ودائم بين دولتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام وأمن. ولكن الزعماء الإسرائيليين ومن بينهم نتنياهو يفضلون بناء مستعمرات على بناء السلام مع الفلسطينيين.

وفي مقابلة شهيرة مع صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية قال «دوف فايسجلاس» المستشار السابق لشارون إن الغرض من خطة فض الاشتباك هو: «تجميد عملية السلام، وعندما تجمد هذه العملية فأنت تمنع إقامة دولة فلسطينية وتمنع مناقشة قضية اللاجئين والحدود والقدس. وفعلياً فالصفقة الكاملة التي يطلق عليها دولة فلسطينية... أزيلت إلى أجل غير مسمى من قائمة أولوياتنا»، حسب تعبيره.

المصدر: 
الخليج