جردة حساب لمفاوضات عبثية

بقلم: 

تتمثل معضلة القيادة الفلسطينية بشأن العملية التفاوضية في المفارقة العجيبة التي نجمت عنها وأصبحت تمثل علامتها المميزة، فمن ناحية فشلت هذه العملية بتمكين الشعب الفلسطيني من استعادة الأراضي والحقوق الوطنية والقومية المشروعة، الأمر الذي يوصل إلى الاستنتاج المنطقي ومفاده ضرورة خروج قيادة "م.ت.ف." من تلك المفاوضات العبثية، لكن من ناحية أخرى وبالرغم من فشل المفاوضات فإن تلك القيادة لم تخرج منها، وبقيت مستمرة تعطي الانطباع بأن "مسيرة التسوية التفاوضية واعدة", مع أن باب هذه التسوية مغلق فعلياً... لأن إسرائيل هي الوحيدة المتحكمة في مساراتها وآليات عملها.
لقد أدت هذه المعضلة إلى الالتباس التالي: عملية تفاوضية لا تعطي نتائج لكنها مستمرة، فيكون الناتج وسيلة تتحول إلى هدف، بينما الهدف المرجو ضائع، ويأتي كل ذلك جراء اعتلال منطلق هذه العملية، وعندما تكشّف طول الأمد عن استفحال المأزق، بدأت تتعالى أصوات شعبية تنتقد وتطالب بمخرج، لكنه ليس باليسير المتوقع، فعملية التفاوض أدت عبر أعوامها الطوال إلى تقديم القيادة الفلسطينية لتنازلات مجانية، وإلى قبولها لتحمُّل التزامات مجحفة، وعدم قدرتها على التراجع... فإسرائيل أصبح معترفاً بها كأمر واقع ويجري التفاوض معها بشأن ما احتلته من أراضٍ إضافية عام 1967, وبما أنه لا يوجد أي مؤشر يدل على وجود قدرة أو حتى رغبة في تغيير ذلك، فإنه لا يبقى أمام قيادة "م.ت.ف." سوى الاختيار بين أحد مسارين:
1- يتلخص المسار الأول: وهو المتبع حالياً باستمرار العملية التفاوضية وفقاً للأسس والنمطية التي سارت عليها منذ البداية لكن مع المطالبة بإدخال تعديلات عليها بما يعني الضغط على إسرائيل ويتيح للمفاوضات الوصول إلى نهايتها بتسوية مرضية تعيد الأرض والحقوق إلى أصحابها الفلسطينيين. والمأخذ الأساس على منهج هذا المسار هو أنه لا ينطلق من مبدأ ضرورة امتلاك زمام المبادرة، ففي هذا المسار تعوّل قيادة "م.ت.ف." على الآخرين بصورة حصرية لإحداث التغيير وبالتحديد على الإدارة الأميركية الحالية، لتقوم الأخيرة بممارسة الضغط على حكومة أقصى اليمين بزعامة حزب الليكود وإجبارها على قبول "حل الدولتين" ووقف عملية التوسع الاستيطاني، وهو أمر لم يتم تحقيقه منذ انطلاق "احتفالية مدريد" عام 1991 وحتى اليوم.
أما على ماذا تعوّل قيادة " م.ت.ف." في مسعاها الحالي لإحداث التغيير فإن ذلك يقتصر على الثقة بنيات الإدارة الأميركية من جهة، وعلى إبراز حسن النيات الفلسطينية تجاه هذه الإدارة عن طريق التذكير الدائم بخيار "السلام الاستراتيجي" المدعم بمبادرة السلام العربية من جهة أخرى، ومن أجل إشاعة أجواء تفاؤلية تعفي الذات من مسؤولية إجراء المراجعة والنقد واستخلاص العبر والدروس من هذا المسار وفتح خيارات أخرى ما زالت مغلقة حتى الآن، يتم التركيز الرسمي فلسطينياً على التقاط وإبراز مؤشرات يتم التمسك بها بفعل الحاجة إليها باعتبارها تشكّل "علامات التغيير المأمول" كإشارات الرئيس الأميركي المتكررة إلى "اهتمامه الشخصي بالملف" وإلى التزام إدارته "بحل الدولتين" وإلى تعيين مبعوث أميركي إلى الشرق الأوسط "مارتن إندك"... إلخ، وباختصار لا تحمّل القيادة الفلسطينية نفسها مسؤولية إحداث التغيير بل توكّل غيرها بذلك، ولهذا فإنها عندما تحاول الضغط تمارسه بحياء شديد، وأقصى ما ينتج عنها في هذا السياق هو الإشارة للذهاب لمؤسسات الأمم المتحدة وهيئاتها لكسب عضويتها والاحتكام إليها.
2- أما المسار الثاني: ومن أجل أن تحسن قيادة "م.ت.ف." مقاربة أسس التسوية مع المطالب التي تريد تحقيقها منها, فإن عليها التخلي عن محاولات "تعديل المسار التفاوضي" واستبدال ذلك باستراتيجية جديدة تقوم على تبني مسارٍ ثانٍ وإحلال الندّية بديلاً للتبعية في إدارة العملية التفاوضية، كي يصبح بالإمكان امتلاك زمام المبادرة وهذا أمر لا يتم إلا عند التخلي عن الشعور بالهزيمة أمام إسرائيل واستعادة الوعي القائم على أن التسوية المتوازنة مصلحة تبادلية للطرفين "الفلسطيني والإسرائيلي" فإسرائيل تريد اكتساب الاعتراف بها وبالتالي تطبيع العلاقات مع البلدان العربية، وهو أمر ينبغي أن لا يتم إلا باستعادة جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، لذلك يتوجب على قيادة المنظمة التوقف التام عن المفاوضات العبثية واستبدالها بمبادرة السلام العربية ووضع سقف زمني لتطبيق إسرائيل لهذه المبادرة وإلا فسحبها من التداول، وفي استباق للرفض المتكرر والمتوقع من جانب إسرائيل لهذه المبادرة على قيادة "م.ت.ف." أن تعلن عن الإجراءات التي ستقوم باتخاذها، والتي يتلخص أهمها: بإلغاء الاتفاقات التي سبق أن وقعتها مع إسرائيل وسحب الاعتراف بها، وممارسة جميع أشكال المقاومة المتاحة من مختلف الجبهات، وإغلاق الباب على "حل الدولتين" والدفع باتجاه "دولة ديمقراطية واحدة" فوق تراب فلسطين التاريخية.
ومن المعلوم أن القيادة الفلسطينية لا تملك الرغبة بالتحول المطلوب وحتى لو رغبت في ظل استمرار أزمة الانقسام التي تعصف بالحالة الفلسطينية، وينبغي أن يكون واضحاً وبديهياً أنه من دون توفر الحد الأدنى من التوافق والاتفاق الفلسطيني على كيفية مواجهة إسرائيل ومتابعة ملف التفاوض معها كفعل مؤثر لا كردّة فعل، لن يتمكن الفلسطينيون من مراكمة عناصر القوة التي يمتلكون وبالتالي لن تتوفر لهم خيارات يمكنها أن تقلق إسرائيل وتجبرها على إنهاء مراوغتها وتسويفها في عملية التسوية السياسية، لكن يجب الانتباه أيضاً إلى أن تغيير المسار يتطلب توظيف الخيارات المتاحة بدقة وذكاء، وذلك وفقاً للوقائع الملائمة والكفاءة والفعالية وحساب التكلفة والجدوى. 
خلاصة القول:
يجب أن يكون مفهوماً ومن دون أي لبس أو تورية أو إيهام، أن المسار الحالي للمفاوضات لا يمكن أن ينتج سوى تنازلات جوهرية في ما يتعلق بقضايا "القدس واللاجئين والحدود والسيادة والسيطرة على الموارد الطبيعية" حتى إذا مارست الإدارة الأميركية الضغط على الحكومة الإسرائيلية للقبول "بحل الدولتين" وفرضت عليها جدولاً زمنياً للتوصل إلى التسوية السياسية, فهذا المسار لا يمكن أن ينتج اتفاقاً يحقق للفلسطينيين دولة مستقلة وسيادية على حدود عام 1967 ويعيد اللاجئين إلى ديارهم التي طردوا منها عام 1948.
إن تعديل موازين القوى مع إسرائيل يتطلب من الفلسطينيين القيام بشكل موحد ومكثف، بجهد كفاحي ودبلوماسي مستمر لكسب المزيد من الأصدقاء وتجنب صناعة الأعداء على الصعيد الدولي, صحيح أن الولايات المتحدة هي الدولة الممسكة بشكل انفرادي بخيوط متابعة ملف التسوية السياسية بالمنطقة, إلا أن ذلك لا يعني على الإطلاق استمرار إهمال تأثير التكتلات ومراكز القوى الأخرى الصاعدة في النظام الدولي الذي يشهد جملة من التحولات حالياً، لذلك على القيادة الفلسطينية إعادة الاهتمام بتعزيز العلاقات واستعادة تأييد الدول والمحافل التي كانت تقليدياً مؤيدة وداعمة للحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة, والتي خفت تأييدها عندما تم إهمالها وجرى التركيز على العلاقات مع الغرب، ولكي يتم استنهاض التأييد الدولي يجب إعادة التشديد على إبراز عدالة القضية الفلسطينية وعلى مشروعية النضال وأخلاقيته بجميع الأشكال المتاحة من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي من ناحية ومحاصرة إسرائيل وعزلها دولياً من ناحية أخرى. 
لا يجوز للوضع الفلسطيني أن يستمرعلى حاله الآن وإنما يجب إعادة المسار والاختيار بين الخيارات الملائمة للواقع الراهن, وإذا لم تقم قيادة المنظمة بذلك فإن عملية التفاوض ستظل مفتوحة ومعلقة في آن, تستنزف القدرات الفلسطينية ولا تحقق التسوية المطلوبة ولا ينتج عنها إلا المزيد من التنازلات!

المصدر: 
المستقبل