«نوبل» وسلام لا يتحقق

بقلم: 

لا أعرف شخصاً حصل على جائزة نوبل للسلام ثم تنازل عنها أو طلب سحبها منه، حتى وإن اكتشف في نوبة ضمير أنه لم يكن يستحقها أو تأكد أن المشروع أو العمل الذي من اجله حصل على الجائزة فشل ولم يرَ النور. تصورت مثلا أن شيمون بيريز، وقد وصل إلى مرحلة متأخرة جداً من العمر، يقف ليعلن أنه يتنازل عن الجائزة التي اقتسمها مع ياسر عرفات مكافأة لهما على اتفاقية أوسلو، بعد أن تأكد له وللعالم بأسره ولمؤسسة نوبل سقوط الاتفاقية، إلا إذا كانت الجائزة منحت للزعيمين مكافأة على ما حققاه لإسرائيل من توسع وليس للسلام. لاتفاقية لم تحقق شيئاً للفلسطينيين بينما منحت إسرائيل غطاءً تواصل تحته الاستيطان في أراضي الضفة الغربية.

كتب آفي شلايم وإدوارد سعيد رأييهما في اتفاقية أوسلو عقب توقيعها، ونشرتهما وقتذاك مجلة عروض الكتب البريطانية ذات السمعة الراقية LRB. كان إدوارد سعيد في مقاله معارضاً للاتفاقية وآفي شلايم مؤيداً. قال إدوارد سعيد معارضاً إن الاتفاقية لم تكن أكثر من أداة للاستسلام الفلسطيني لأنها تنكرت للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني وتجاهلت الشرعية الدولية، وكتب آفي شلايم مؤيداً فقال إن الاتفاقية وضعت القضية الفلسطينية لأول مرة على طريق السلام. طريق لا يمكن أن يعود من سلكه إلى الخلف. قال أيضاً إنها أكدت مبدأ انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وإنها مهدت لقيام دولة فلسطينية.

مضى عشرون عاماً على توقيع هذه الاتفاقية ونشر هذين المقالين. ويتصادف أن تأتي الذكرى في خضم جهود يقوم بها الوزير جون كيري، وكأنه يريد أن يقول إن الاعتراف بفشل اتفاقية أوسلو يجب ألا يمنع الأميركيين عن مواصلة السعي لعقد اتفاقية أخرى، لا يهم إن حققت الاتفاقية الجديدة شيئاً للفلسطينيين، فأوسلو لم تحقق. المهم هو أن تعقد مباحثات ويُعلن في نهايتها التوصل إلى اتفاقية ويدعى طرفا العلاقة ليقفا في حديقة البيت الأبيض وبينهما باراك أوباما يتوسل إلى نتنياهو أن يمد يده إلى عباس ليتصافحا أمام الكاميرات.
أذكر أني كتبت رأيي في الاتفاقية، وكان أقرب إلى رأي إدوارد سعيد، مما جعل الرئيس عرفات يغضب مني كما غضب من إدوارد، وقد نقل لي صديق مشترك رسالة منه يعرب فيها عن خيبة أمله، إذ كان يتوقع أن نقدر ظروفه وظروف الشعب الفلسطيني والأوضاع العربية التي تمر فيها القضية، وأن نثق فيه ونترك له أن يجرب خياراً يقرّب الشعب الفلسطيني من أمل إقامة الدولة ويفرض على إسرائيل الالتزام بمبدأ الانسحاب من الأراضي المحتلة ولو مرة واحدة.

ما لم يدركه المفاوضون الفلسطينيون في ذلك الحين هو خطورة المبدأ الذي رسخته أول اتفاقية يتوصل إليها الطرفان. أقصد بذلك تأجيل التباحث حول مستقبل القدس والتوسع الاستيطاني في الأراضي المحتلة وقضية الحدود. أما شيمون بيريز، فقد عبّر بوضوح عن الإنجاز الأكبر الذي حققته إسرائيل من الاتفاقية عندما قال إن السيد عرفات كان قد وافق قبل أوسلو على استعداده الانتقال من التمسك بخريطة 1947 (أي خريطة الأمم المتحدة للتقسيم)، وهي الخريطة التي وعدت الفلسطينيين بأراض تصل إلى 44 في المئة من مجمل مساحة فلسطين، إلى خريطة عام 1967. وفي أوسلو عاد فتنازل عن 22 في المئة من أراضي الضفة الغربية. تساءل بيريز «هل كان يمكن لزعيم عربي آخر أن يتنازل عن 2 أو 3 في المئة من أراضي الضفة، هذا الرجل تنازل عن 22 في المئة». رجل عظيم.! أما الواقع فيشهد بأن عرفات تنازل في أوسلو عن أكثر من 22 في المئة، لأنه في واقع الأمر تنازل عن 50 في المئة من الأراضي التي اعترفت الأمم المتحدة بحق الفلسطينيين فيها حسب قرار التقسيم.

يعتقد الكثيرون أن «اتفاقية أوسلو» سقطت يوم اغتيال إسحق رابين في العام 1995، إذ حدث وقتذاك أن جاء بنيامين نتنياهو، أشد الكارهين لـ «أوسلو»، رئيساً لحكومة إسرائيل وعمل على نقض كل التزامات إسرائيل وخلق الجو المعادي للاتفاقية في إسرائيل والأراضي الفلسطينية، سواء بالتوسع في الاستيطان أو ببناء الجدار أو بتحدي الحكام العرب الذين وجدوا أنفسهم مضطرين مرة أخرى، أمام الضغط الأميركي، لتقديم تنازل كبير ضمن ما أطلقوا عليه المبادرة العربية.
الغريب أنه رغم الفشل المتلاحق في محاولات التوصل إلى سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، يظل حلم كل رئيس أميركي أن تتحقق في عهده صيغة ما للسلام في الشرق الأوسط. كان واضحاً أن أوباما عاش هذا الحلم لفترة خلال رئاسته الأولى، ولكنه آفاق من حلمه مذعوراً أمام الحملة الوحشية التي شنتها جماعات الضغط اليهودي ضد إدارته لمنع الرئيس من أن يتمادى في هذا النوع من الأحلام. ولذلك فإنه حين عاد في فترة رئاسته الثانية ليستكمل الحلم، وإن في شكل جديد، كان واعياً إلى ضرورة إرضاء شعب إسرائيل أولا قبل أن يدعو إلى مباحثات جديدة بين طرفي الصراع.

كان يقال عن سبب فشل الجولات السابقة إنها لم تستمر وقتاً كافياً، وإنها خضعت لتأثيرات الرأي العام، وهو بالضبط ما حدث في اجتماعات كامب دافيد التي عقدها كلينتون واستمرت أسبوعين فقط تحت ضغط ضيق الوقت بسبب اقتراب نهاية مدة حكم الرئيس كلينتون. وفى عامي 2007 و2008 انتهت مباحثات أخرى باستقالة إيهود أولمرت بسبب فضيحة فساد. أما المفاوضات الحالية فهي تجري في بداية ولاية جديدة للرئيس أوباما، بمعنى أن وقت التفاوض ثم مراقبة التنفيذ يمتد لعامين آخرين أو أطول.

لقد راهن الفلسطينيون وبعض المفاوضين الأميركيين على أن الإسرائيليين يدركون بشكل أو بآخر الميل المستمر للكفة الفلسطينية في ميزان السكان، الأمر الذي يهدد فكرة يهودية الدولة، حلم نتنياهو المقدس. أما التلويح الأميركي المتواصل لنتنياهو ومعاونيه باحتمال نفاد صبر العرب فجهد ضائع، لأن الإسرائيليين على ثقة كاملة بأن الحكام العرب توقفوا عن أن يكونوا طرفاً في معادلة الصراع بوضعه الراهن ووضعهم الحالي، وأن المبادرة العربية التي ما لبث الأميركيون يحاولون تطويرها لمصلحة إسرائيل خرجت في الأصل فاقدة القيمة، وهو ما أعلنه المسؤولون الإسرائيليون لحظة صدورها، وما زالوا يرددون هذا الإعلان بعد أحد عشر عاماً.

اعتقد أن جون كيري لن يتخلى عن لعب الدور الذي اختاره لنفسه، رغم أنه ربما لم يحسب حساب التطورات في الأزمة السورية، وربما لم يدرك أن اختيار مارتين إنديك لم يكن قراراً سليماً، ولعله اكتشف أيضاً أنه لم يقدر جيداً كفاءة دنيس روس وآخرين في وضع العراقيل وتخريب جهوده وحشد فصائل في الجالية اليهودية الأميركية للضغط على الكونغرس وإفساد مهمة إنديك عند الحاجة.لا أستبعد أن يواجه جون كيري تعقيدات أخرى لم تكن في حسبان الأطراف الثلاثة، الأميركي والإسرائيلي والفلسطيني، منها الدور المتصاعد لروسيا في شؤون الشرق الأوسط، وبخاصة خلال الشهور القليلة القادمة، واحتمالات تطور الأوضاع الداخلية، وبخاصة الأمنية، في مصر، والاستعدادات المتصاعدة من جانب تنظيمات فلسطينية للعودة للعمل في أراضي دول الجوار لأهداف ليست بالضرورة فلسطينية.

ومع ذلك لن تصيبني دهشة شديدة إن أفقت ذات يوم على خبر التوقيع على اتفاقية أسوأ كثيراً من «اتفاقية أوسلو»، ولا دهشة شديدة أخرى عند سماعي خبر منح جائزة نوبل لمحمود عباس وتسيبي ليفني وجون كيري لدورهم جميعاً في خدمة هدف تحقيق السلام.

المصدر: 
السفير