بعد عشرين عاما من أوسلو... ما الذي يجب تعلمه؟

بقلم: 

 

هل كان اتفاق أوسلو فاشلا أم ناجحا؟هل مات أم ما زال حيا؟ أما زالت هناك حاجة لمراجعة تجربته بعد أن اشبع نقدا على مدار عشرين عاما؟وما هي الحصيلة بعد عشرين عاما من توقيع ذلك الاتفاق؟ما فائدة نقاشه بعد مرور كل هذا الوقت ،وبعد عدة "عمليات" سلام فاشلة لتطبيقه،أم أن هناك ما يمكن تعلمه من هذه التجربة؟

من وجهة النظر الفلسطينية يعتبر الكثيرون ان ذلك الاتفاق كان فشلا ألحق أضرارا فادحة بحركة التحرر الوطني الفلسطيني وأضاع فرصة استثمار نتائج الانتفاضة الأولى التي غيرت موازين القوى على الأرض،وابرز مظاهر فشل ذلك الاتفاق هو أن اسرائيل نفذت منه ما يعجبها ويفيدها ولم تنفذ كل ما لا تريده،لا بل إن أجزاء مما نفذ تم ابطالها بعد اجتياح عام 2002 .

اما من ناحية اسرائيل ومصالحها فما من شك ان الاتفاق كان نجاحا باهرا لها ،ولا مبالغة في وصفه بأنه كان من اكثر افكار اسرائيل عبقرية ،حيث فكك نتائج الانتفاضة الشعبية وانتزع من الفلسطينيين اعترافا بدولة اسرائيل "دون حتى تحديد ذلك بحدود عام 1967 " مقابل مجرد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للفلسطينيين ،وخلق اوسع انقسام داخل الصف الوطني الفلسطيني ما زلنا نعاني من آثاره ،وهمش الفلسطينيين في الشتات عن حركة تحررهم الوطني ،واستبدل دور منظمة التحرير كقائد للنضال الوطني بالسلطة الفلسطينية المعتمدة بصورة متزايدة على المساعدات الخارجية والمقيدة بما لا يحصى من القيود الاسرائيلية من اتفاق باريس الاقتصادي الى شروط التعاون الامني.

ولا شك ان هناك ملامح سلبية لم يعد بمقدور احد حتى مهندسي الاتفاق ومناصريه انكارها وتحديدها بدقة امر ضروري اليوم خاصة عندما تدار مفاوضات جديدة ، اصبح واضحا ان مقصد اسرائيل ، وربما الولايات المتحدة الاميركية منها هو تكرار تجربة اوسلو بعد ان انتهت صلاحيتها، من خلال اتفاق جزئي انتقالي جديد... وهذا ما نظّر له راعي الاتفاق الاول تيري رود لارسن خلال ندوة عقدت في اوسلو قبل ايام.

ان اول السلبيات ان اتفاق اوسلو كان اتفاقا جزئيا اتاح لاسرائيل تجزئة او فصل القضايا ،وهو الاسلوب الاسرائيلي المفضل لتغيير الواقع لصالحها.

فالاراضي المحتلة حسب القانون الدولي اصبحت اراض متنازع عليها، والقضايا الجوهرية مثل القدس والحدود واللاجئين تم تقسيمها وتأجيلها الى ما لا نهاية.

اما ثاني السلبيات فكانت ان الاتفاق كان انتقاليا مؤقتا دون تحديد هدفه النهائي ، وبالتالي فقد كان خريطة طريق لنهاية غير معروفة وغير محددة، وغير متفق عليها، وبذلك تحولت عملية السلام من نشاط هادف الى تيه وضياع كامل في صحراء المماطلة الاسرائيلية، وحقق اتفاق اوسلو لاسرائيل اكثر بكثير مما حلم به شامير الذي قال اننا سنضيع عشرة اعوام في مفاوضات لا نهاية لها ونستمر بالاستيطان ،فصار حلمه كابوسا للجانب الفلسطيني عمره عشرون عاما وما زال مستمرا دون نهاية مثلما يستمر الاستيطان دون توقف.

اما ثالث السلبيات فهو ان الاتفاق تم دون اجماع وطني فلسطيني ودون استراتيجية فلسطينية موحدة ، واصبحت آلية نقاشه واقراره وتوقيعه اشبه بعملية مضاربة سرية ظن صانعوها انهم اقتنصوا فرصة نادرة فإذا بهم يكتشفون ان ما اقتنصوه لم يكن سوى سراب ووهم وقيود كبلت اياديهم مثلما كبلت الشعب الفلسطيني بأسره .

ان جذر الانقسام الداخلي الذي اضعف حركة التحرر الوطني ،ولا اقصد بذلك الانقسام بين فتح وحماس بل الانقسام العضوي داخل الشعب الفلسطيني،يعود تحديدا الى اتفاق اوسلو الذي اطاح لاول مرة بالقاسم الوطني المشترك والجامع لأغلبية الشعب الفلسطيني سواء كان في المراحل الاولى هدف تحرير فلسطين وإقامة دولة ديمقراطية واحدة او كما اصبح في المرحلة الثانية هدف اقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس دون التخلي عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

وكان رابع السلبيات ان الاتفاق جاء منقوصا وترك قضايا عالقة ، منها انه لم يتضمن الافراج عن كافة الاسرى الذين كانوا في السجون الاسرائيلية عند عقده، فأضاع بعضهم عشرين عاما من حياتهم الفتية، ولا شيء يمكن ان يعوضهم عن ذلك، حتى لو افرج عن بعضهم اليوم، ولم يتضمن الاتفاق اية آلية لعدم مواصلة اسرائيل لسياسة الاعتقال دون قيود بما في ذلك ما هو مخالف للقانون الدولي كالاعتقال الاداري،ولهذا يرزح اليوم اكثر من خمسة آلاف اسير في السجون الاسرائيلية.

اما خامس وأسوأ عيوب اوسلو فهو انه لم يتضمن وقف الاستيطان غير الشرعي والذي استمر دون توقف بعد ان فشل المفاوضون في الاصغاء لنصيحة ومطلب الراحل حيدر عبد الشافي والذي كان يشترط اي تقدم في المفاوضات بوقف شامل وكامل للاستيطان، واليوم تحمل الضفة الغربية بما فيها القدس على جلدها ولحم ابنائها نتيجة تلك الحقيقة حيث ارتفع عدد المستوطنين من 160.000 عندما وقع اتفاق اوسلو ليصل اليوم الى اكثر من 650.000 وليصبح مطلب ضم المستوطنات لاسرائيل عبر احبولة تبادل الاراضي امرا خاضعا للنقاش والاجتهاد ،ولو تم اشتراط وقف الاستيطان وتنفيذه لما اصبح الوقت الضائع اداة بيد اسرائيل لاستمرار تغيير الامر الواقع على الارض ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم.

ومن مفارقات القدر ان تتجدد المفاوضات الان دون وقف الاستيطان بعد ان تم التخلي عن ذلك الشرط الذي كان يحظى بإجماع فلسطيني.

ان ترك الاستيطان ينمو في ظل ما يسمى بعملية السلام ،يشابه تماما حالة يعالج فيها الاطباء مريضا مصاب بجرح ينزف بغزارة وبدلا من ايقاف النزيف اولا ينشغلون بمتابعة اعضائه الاخرى في حين يستمر النزيف حتى الموت، وهكذا فإن الحديث عن مفاوضات دون نهاية لإقامة دولة مستقلة في ظل استمرار الاستيطان يعني القبول باستمرار النزيف الذي سيئد هذه الفكرة قبل انتهاء المفاوضات حولها.

ان مجموع هذه العوامل السلبية اتاح لاسرائيل السير بعملية تغيير الواقع على مدار العشرين عاما الماضية، فاستغلت اتفاق اوسلو لتحول الاحتلال الاستعماري الاطول في تاريخ البشرية الحديث الى نظام ابارتهايد اكثر سوءا مما ساد حتى في اسوأ ايام الفصل العنصري في جنوب افريقيا.

وبدل ان يكون اتفاق اوسلو وسيلة للحد من الاحتلال اصبح اداة لتعميقه فتمت اربع عمليات بالغة الخطورة:

1- فصل القدس بالكامل عن باقي الاراضي المحتلة.

2- فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية.

3- تجزئة الضفة الغربية الى مناطق أ،ب،ج، بما اتاح لاسرائيل انشاء نظام متكامل للفصل العنصري والتمهيد لعزل وخنق 61% من مساحة الضفة الغربية المسماة مناطق "c" وجعلها حيزا حيويا للمستوطنات تمهيدا لضمها لاسرائيل.

4- انشاء جدار الفصل كمكون جديد من مكونات منظومة الضم والتهويد.

وحتى لا نتهم بعدم الموضوعية ، لا بد من الاشارة الى اهم ايجابيات اوسلو لانه سمح بعودة الآلاف من المواطنين الى الاراضي المحتلة،وهو امر لا يجوز الاستخفاف به، كما لا يمكن ابدا رفض عودة اي فلسطيني الى وطنه مهما كانت الاسباب والظروف، غير ان الاثر المعنوي والنفسي لهذا الامر كان اشبه بعملية سمح فيها للقياديين وجزء من الناس بالعودة دون شعبهم المهجر بالملايين، وكان هدف اسرائيل من ذلك اضعاف جزء من الفلسطينيين بفصلهم عن باقي شعبهم ، مثلما يجري عندما تمنح اسرائيل بطاقات الشخصية الهامة "vip" لبعض المسؤولين ورجال الاعمال، فتصبح امتيازاتهم اداة لتفصلهم عمن يفترض انهم يمثلونهم ووسيلة لاضعافهم في نهاية المطاف وإثارة النقمة عليهم.

هناك دروس لا يمكن تجاوزها من هذه التجربة ،واولها ان المفاوضات ليست ميدانا منفصلا عن الصراع، بل هي ميدان للصراع بوسائل اخرى، واحد اهم اهداف المفاوضين هو استعمال المفاوضات لاضعاف الطرف الآخر قبل الوصول الى نهايتها.

ومن هذه الزاوية فإن اوسلو كان فشلا للجانب الفلسطيني وانتصارا استراتيجيا لاسرائيل، لان احد الطرفين استخف بالبعد الاستراتيجي للصراع ، وظن انه يستطيع قهر الاستراتيجية بالتكتيك، ولعل ابرز معالم ذلك،ما تم من تغييب كامل للقانون الدولي عن مجرى المفاوضات ،وما حدث من عدم تكافؤ مطلق في الخبرة والقدرات بين الجانبين، وما جرى من تواطؤ من الاطراف الدولية التي رعت وشجعت وزينت عملية اوسلو مع أنها كانت تفهم فداحة الكارثة التي تم دفع المفاوضين الفلسطينيين لها.

لقد عبر يوئيل زينغر المحامي المحترف والمفاوض نيابة عن اسحق رابين عن ذلك بقوله :"عندما وجهنا عشرات الاسئلة الخطية للجانب الفلسطيني في آخر ساعات المفاوضات فإن ما فاجأني ليس فقط انني تلقيت اجوبة استعملتها لصوغ معالم الاتفاق بما يخدم مصالح اسرائيل،بل انني لم اتلق مع الاجوبة سؤالا واحدا ".

وللمقارنة فقط يمكن ان نراجع كيف استخدم الفيتناميون مساحة المفاوضات لصالحهم لأنهم لم يجعلوها بديلا للصراع الفعلي الدائر على الارض.

اما العبرة الثانية ، فهي ان ميزان القوى هو الذي يحسم المفاوضات، وليس البراعة والفصاحة الكلامية والتكتيكية.

وعندما يكون ميزان القوى مختلا، فإن التصرف المسؤول يجب ان يكون بالتركيز على تغيير ميزان القوى بدل تشتيته وإضعاف النفس ووحدة الشعب بمفاوضات لن تأتي بنتيجة.

اما العبرة الثالثة فهي ان كل الشكليات والترتيبات الادارية والألقاب وما يسمى ببناء المؤسسات لا يعوض ولن يعوض عن الحاجة للحرية والكرامة والعدل والسيادة غير المنقوصة.

وقد آن اوان التمسك بأن قضية فلسطين ليست مسألة تحل بحكم ذاتي او اتفاق انتقالي او نظام بانتوستانات او دولة منزوعة السيادة حتى لو سميت امبراطورية، فقضية فلسطين هي قضية شعب استعمر وشرد واحتل وما زال يضطهد بنظام فصل عنصري، ولن ينال سعادته وازدهاره وتطوره إلا بعبور البوابة الحتمية... بوابة نيل الحرية مهما غلى الثمن وعظمت التضحيات .. وهذه ليست دعوة للمغامرة، بل دعوة لتحمل المسؤولية كما فعل من قبل ديغول عندما احتلت بلاده وعبد الناصر عندما تعرضت مصر للعدوان وغاندي الذي رفض مذلة الاستعمار، ومانديلا الذي اصبح اكبر عظماء عصره لانه لم يقبل فصل مصيره عن شعبه حتى بعد سبعة وعشرين عاما من الاعتقال.

وأما العبرة الرابعة فهي ان الواقعية لا تعني الاستسلام للواقع، والا صارت واقعية المستسلمين،والواقعية الفاعلة تعني فهم الواقع بهدف تغييره وتحسينه وتعديله لمصلحة الشعب وأهدافه.

وبالتالي فإن التذرع بأنه من غير الممكن طرح اهداف التحرر الحقيقي لان اسرائيل لا يمكن ان تقبل بها، يشابه تسليم الاسلحة والقدرات قبل خوض المعركة.

وما من شعب كان يمكن ان يتحرر ، من الجزائر الى الهند الى جنوب افريقيا لو انه جعل سقفه ما يمكن ان يقبل به المستعمر او المحتل، فالحرية لم تستجد ولن تستجدى يوما،الحرية تنتزع بالنضال والكفاح من أجلها.

المصدر: 
القدس