حل الدولتين... هل بات «وهماً»؟

بقلم: 

تناثر على طريق العقود الثلاثة الماضية حُطام مشروعات التفاوض الفاشلة التي طرحت كما لو أنها الفرصة الأخيرة للسلام في إسرائيل. وتبنت جميع الأطراف فكرة إقامة دولتين. وتتمثل المشكلة في أن التغيرات المطلوبة لتنفيذ رؤية إقامة دولتين، إسرائيلية وفلسطينية، تتعايشان جنباً إلى جنب أقل ترجيحاً بكثير من احتمالات أخرى أقل شيوعاً لكنها أكثر معقولية.

فالتوجهات الإسلامية القوية في الأراضي الفلسطينية تجعل إقامة فلسطين أصولية أكثر احتمالاً من إقامة دولة صغيرة خاضعة لحكومة علمانية. واختفاء إسرائيل كمشروع صهيوني من خلال الحرب والإرهاق الثقافي والزخم السكاني مقبول على الأقل مثل احتمال إخلاء ما يكفي من نصف مليون إسرائيلي يعيشون فيما يتجاوز حدود عام 1967، أو «الخط الأخضر»، للسماح لدولة فلسطينية بالوجود. وبينما انتقلت وجهة نظر وجود دولتين منتعشتين من درجة المعقول إلى درجة الذي لا يكاد ممكناً، لم يعد خروج دولة مختلطة من رحم صراعات طويلة الأمد وعنيفة بشأن الحقوق الديمغرافية غير ممكن. لكن أسطورة إن هناك حلاً في إقامة دولتين يمنع الجميع من التحرك في سبيل شيء قد يجدي نفعاً.

وكل فريق لديه أسبابه ليتمسك بوهمه، فالسلطة الفلسطينية بحاجة أن تجعل شعبها يصدق التقدم الذي تحقق نحو «حل الدولتين» حتى تستطيع الاستمرار في الحصول على المساعدات الاقتصادية والدبلوماسية، التي تدعم نمط الحياة لزعمائها والوظائف لعشرات الآلاف من الجنود والجواسيس وضباط الشرطة والموظفين المدنيين، وإبراز دور السلطة في مجتمع فلسطيني يعتبرها فاسدة وعاجزة عن العمل.

وتتمسك إسرائيل بفكرة الدولتين لأنها تعكس فيما يبدو مشاعر الغالبية الإسرائيلية اليهودية وتحمي البلاد من الازدراء الدولي، وتُخفي الجهود التي لا تكل لتوسيع إسرائيل على حساب الضفة الغربية.

والسياسيون الأميركيون بحاجة إلى شعار الدولتين كي يظهروا كما لو أنهم يعملون على حل دبلوماسي لمنع جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل من الانقلاب ضدهم ولإخفاء عدم قدرتهم على كشف العلاقات بين واشنطن والحكومة الإسرائيلية في وضح النهار.

وأخيرا فصناعة «عملية السلام» بكتائبها من المستشارين والخبراء والأكاديميين والصحفيين بحاجة إلى مدد متواصل من القراء والمستمعين والممولين الذين إما أنهم قلقون بشدة، بأن تؤدي أحدث جولة من المحادثات إلى تأسيس دولة فلسطينية أو لا تتمخض عن ذلك.

وظهرت فكرة إقامة دولتين بين نهر الأردن والبحر المتوسط، في وقت مبكر في ثلاثينيات القرن الماضي لكنها اختفت من الوعي الجمعي بين عامي 1948 و1967. وبين عامي 1967 و1973 ظهرت من جديد وطرحها قلة من «المعتدلين» من الجانبين. وفي تسعينيات القرن الماضي اعتنقتها الأغلبية في الجانبين ليس فقط لأنها ممكنة، لكن، لأنها مرجحة، أثناء ذروة عملية السلام في أوسلو. لكن فشل القيادة في مواجهة الضغوط الهائلة، جعلت «أوسلو» تنهار. ولا يقول أحد هذه الأيام إن «حلاً» تفاوضياً لإقامة دولتين راجح. فأكثر الناس تفاؤلاً يؤكدون على أنه مازال ممكناً. لكن كثيراً من الإسرائيليين لا يعتبرون اضمحلال الدولة ليس محتملاً فحسب بل راجحاً. فدولة إسرائيل ترسخت لكنها ليست مؤبدة. والذين يزعمون أن إسرائيل ستبقى دوماً كمشروع صهيوني عليهم أن يفكروا كيف تفككت سريعاً الدولة السوفييتية وجنوب أفريقيا في ظل التفرقة العنصرية.

وتماماً كما يمتلئ بالون تدريجياً بالهواء، فإنه ينفجر عندما تنتهي قدرته على المقاومة، فهناك مرحلة ينفجر عندها التغير الجذري المدمر في الحياة السياسية. وعندما يتم تجاوز هذه المرحلة يتحول المستحيل فجأة إلى مرجح ليحمل دلالات ثورية للحكومات والأمم. وكما نرى في أنحاء الشرق الأوسط، فعندما تم كبح قوى التغيير والأفكار الجديدة تماماً تزايد احتمال حدوث تغير وعر ومفاجئ.

فالرؤية الإسرائيلية الحالية عن حل الدولتين تتطلع إلى أن يتخلى اللاجئون الفلسطينون عن حقهم في العودة، وأن تسيطر إسرائيل على القدس وعلى أرخبيل من المستوطنات اليهودية الكبيرة تصل بينها طرق لا يمر عليها إلا يهود، والنسخة الفلسطينية تتخيل عودة اللاجئين وإخلاء كل المستوطنات تقريباً وأن تكون القدس الشرقية عاصمة فلسطينية.

فالدبلوماسية تحت شعار الدولتين لم يعد طريقاً إلى حل، بل عائقاً في حد ذاته. إننا متورطون في مفاوضات لن تفضي إلى شيء، وهذه ليست المرة الأولى.

ففي عام 1980 كنت مسؤولاً عن تحليل المستوطنات الإسرائيلية وسياسات مصادرة الأراضي في الضفة الغربية ودلالاتها على «مفاوضات الحكم الذاتي»، التي كانت تجري في ذاك الوقت بين إسرائيل ومصر والولايات المتحدة. وكان من الواضح لي أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بيجن تستغل بشكل منهجي المحادثات بشأن كيفية إدارة المفاوضات كستار لعملية ضم الأراضي في الضفة الغربية من خلال البناء المكثف للمستوطنات ومصادرة الأراضي والتشجيع على الهجرة العربية «الطوعية».

وكي تحمي الولايات المتحدة عملية السلام في ذاك الوقت قيدت بشدة انتقاداتها العلنية لسياسات الحكومة الإسرائيلية مما جعل واشنطن هي الداعم لعملية ضم الأراضي ذاتها التي دمرت احتمالات الحكم الذاتي الكامل وتحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني التي هي الغرض الرسمي من المفاوضات. واستدعيت في ذاك الوقت إلى مكتب دبلوماسي كبير كان من أشد المدافعين في وزارة الخارجية عن المفاوضات. وسألني «هل أنت شخصياً متأكد بشأن تحليلك بأنك مستعد أن تدمر الفرصة المتاحة الوحيدة للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟" أوقفني سؤاله لفترة لكنها كانت قصيرة وقلت «نعم سيدي.. متأكد». ومازلت متأكداً.

والمفاوضات الآن وفي ذاك الحين مجرد لغو فهي تمنع المعلومات التي يحتاجها الإسرائيليون والفلسطينيون والأميركيون كي يجدوا دروباً غير كارثية إلى المستقبل. والقضية لا تتعلق بمكان رسم الحدود السياسية بين اليهود والعرب على الخريطة، بل بكيفية تحقيق المساواة في الحقوق السياسية.

صناعة السلام وإقامة الدولة الديمقراطية تحتاج إلى دماء وخيال، والسؤال ليس إذا ما كان المستقبل يحمل صراعات في جرابه لإسرائيل لأن هذا وارد. وليس السؤال إذا كان يمكن تفادي الصراع، لأن هذا ممكن. فتفادي تغير كارثي بالفعل يعني إنهاء السيطرة الخانقة لفكرة عفا عليها الزمن والسماح لكلا الجانبين أن يشاهدا العالم كما هو ثم يتكيفا معه.

المصدر: 
نيويورك تايمز