بأية حال عدت يا أيلول؟!

بقلم: 

الأصل وظله .. في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 كنت واقفًا أتأمل الشارع من صالة تحرير جريدة الأخبار القاهرية، عندما بثت وكالة رويترز أول سطرين متعجلين عن غزوة نيويورك. قام أحد الزملاء سريعًا بتحويل التليفزيون على الإخبارية الأمريكية CNN وانخرط الجميع في الدهشة، بينما مددت بصري أبعد لأرى برجين توأمين على شاطئ النيل يحاكيان البرجين المنهارين في مانهاتن، متعجبًا من انهيار الأصل وبقاء الظل قائمًا!
في الحقيقة لم تكن تلك لحظة انهيار أو حتى انكسار، بل لحظة احتفال قدمت فيها الرأسمالية البرجين الرمزين قربانًا وفداءً لجوهرها العنيد. 
كان تدمير البرجين لحظة تنسيب، كما في احتفالات البلوغ عند القبائل التقليدية، حيث يجب على الصبي أن يعبر خطرًا أو يثبت مهارة لكي يغادر الطفولة ويتم الاعتراف به رجلاً. 
احتفلت الرأسمالية ببلوغ الإرهاب الإسلامي مبلغ الرجال، وصار بوسعها أن تتخلى عن حضانته،لكن إدارة الرجال البيض الأغبياء لم تثق تمام الثقة في الفصيل الذي بلغ مبلغ الطيش، وورطبوش نفسه في العراق ثم ذهب بعاره ليترك القيادة للسمر الأذكياء الذين سيثقون في قدرات الإرهابي البالغ على التدمير الذاتي.

سبتمبرهم أيلولنا

لم يتطلب الأمر سوى القليل من المهارة في اللعب بين الإسلام العدو والإسلام الصديق لكي يصبح سبتمبر الأمريكيين غير أيلولنا. الإرهابي في المغارة والمعتدل في القصر، والكلمة لمبدأ العولمة الأصيل؛ مبدأ انتفاء الحدود. 
لا حدود بين المغارة والقصر، ولا حدود بين الإرهاب السني والشيعي، ولتعمل مصانع السلاح بكل طاقتها، ولينتفع الأمريكيون وينّفعوا معهم الروس، طالما أن هناك من يسدد نقدًا ثمن موته وثمن تدمير بلاده. 
وها هو الواقع. بعد أن طلعت شمس 11 أيلول اثنتي عشرة مرة، لم تعد أبراج مانهاتن مهددة، فالموت بيننا وفينا محصورًا فيما تسمى ‘ديار الإسلام’وأوباما معلم الأخلاق يبيع السلاح ويدين الأسد والنصرة طوال ثلاث سنوات. ثم، على حافة الهاوية يدرس العرض الروسي بتدمير مخازن كيماوي الأسد؛ الكيماوي الذي ادخره النظام الممانع للإجهاز على البشر في الجنة الدمشقية ‘الغوطة’ بعد أن أجهز الفساد والفشل على شجرها.
11سبتمبر الأمريكي هذا العام كله ثقة، لا صفارات إنذار ولا هلع، بل دراسة خيارات ضربة في بلاد بعيدة، سيموت فيها آلاف من المجهولين مثلما يموتون بانتظام خلال ثلاث سنوات.
موت المجهولين لا يؤلم مهما كانت الأرقام، وليعلم المتحاربون بسنتهم وشيعتهم ودرجات تطرفهم واعتدالهم، أن حيواتهم جميعًا لا تعني أوباما ولا الرأسمالية المتوحشة التي تتحكم في الأمريكيين بقليل من اللطف وتتحكم فينا بكثير من الوحشية.
لا يتحرك أوباما لموت السوريين، لكن لموتهم بالكيماوي تحديدًا، ليس بوصفه موتًا مختلفًا، ولا بوصفه موتًا وقع بالفعل، بل بوصفه نذيرًا بموت مؤلم قد يقع. 
قالها الرجل بوضوح: ‘وجود الكيماوي يمكن أن يهدد الجيران مثل إسرائيل وتركيا’.
11 سبتمبرنا كله دم وخوف، احتفل فيه الإرهاب اليافع بالدم في سورية ومصر وليبيا. وأسماء الجماعات المتحاربة تسخر وتقتل اللغة مثلما يقتل المسلحون البشر ‘جبهة النصرة’، ‘أنصار بيت المقدس′ و’الجماعة الإسلامية’ و’أنصار الشريعة’!
وسط كل هذه الأسماء الطاهرة لا توجد جماعة للشيطان، أو أنصار الوسواس الخناس.إن لم تكن هذه سخرية من اللغة؛ فهي دعوة لإعادة النظر في كل ما تشيعه ثقافتنا الحمراء عن الشيطان.

قصة: عجوز الفرح

اختفى قرص الشمس الكبير خلف مساكن الزلزال بالمقطم، الهالة الحمراء تلون الهواء بين العمارات فتشير إلى الطابق الذي وصلته الشمس في رحلة انحدارها، بينما يطوف الموكب الصاخب بطيئًا بالحارات المتربة بين المقابر. كل ما يخشاه الرجل المسن أن يدخل الليل قبل إيداع الأمانة العائدة إلى أصلها. يمضي مستسلمًا لشابين شديدين يتأبطانه بينما يواصلان ترديد الهتاف المنطلق من سماعات ضخمة تحملها عربة تتقدم الصندوق المحمول على الأكتاف. أناشيد الزفاف إلى الجنة تقطعها الزغاريد ويتبعها الهتاف بسقوط حكم العسكر. 
يعرف الشيخ صوت كنته ويستطيع تمييز زعرودتها من زغاريد الأخريات. المرافقان الصلبان يشددان قبضتيهما على ذراعيه النحيلين فيقومان ظهره الذي قوسه الزمن، يؤشران له ليردد الهتاف. يلتقم شفته من ألم ظهره ويرفع إصبعًا باتجاه الشمس التي تلامس الأرض في البعيد. يشيحان بوجهيهما وينخرطان في الغناء.
عندما وصل الموكب إلى المقبرة وضعوا الصندوق المغطى بحرير أخضر على الأرض، وبدأ الخطباء يتبارون في وصف جنات الشهيد. تسلل الشيخ وقعد ملتصقًا بأصل الشجرة التي حمل إليها الماء في سيارته ثلاث مرات في الأسبوع خلال خمس سنوات صارت خلالها أقوى وأقدر على تدبير حاجتها من ماء ودم الأرض، بينما كان يمضي إلى هزاله، حتى كف عن قيادة السيارة. 
عندما حفرت الشمس قبرها على الهضبة تحت أساس العمارات ترك المشاركون في الزفاف العريس وحيدًا في حفرته، وخلال هرج الانصراف لم ينتبه أحد إلى العجوز المختفي خلف الشجرة.
وعندما لم يعد هناك سوى صوت الريح، وضع الشيخ وجهه في الأرض، تشمم التراب المبلل الهائش، ورفع رأسه لا ليخاطب أحدًا، بل ليجرب صوته: في الحقيقة، لقد مات ابني اليوم. 

المصدر: 
القدس العربي