الضاحية ــ برج البراجنة: فلسطين أقوى من الفتنة؟

بقلم: 

رتفعت حواجز القلق بين أهالي الضاحية الجنوبية وأبناء مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين. واقع أسوأ من الكابوس بالنسبة إلى الطرفين، اللذين يعيشان في وفاق منذ أكثر من ثلاثة عقود. لقد نجحت السنوات الماضية في ترميم تداعيات حرب المخيمات، وكما بنيت علاقة من الثقة بين الأحزاب السياسية والفصائل الفلسطينية، توطدّت علاقات الصداقة والقرابة بين الأهالي من الطرفين. وكما خرج فلسطينيون من المخيم وأقاموا في أحياء الضاحية، انتقل لبنانيون إلى المخيم الذي يناسب قدراتهم المادية المتواضعة. وفي الحالتين، بقي الهمّ واحداً. تندلع انتفاضة في فلسطين، فتهبّ الضاحية. ويتعرّض لبنان لاعتداء إسرائيلي فيهبّ المخيم. فجأة، بدا أن هناك شيئاً ما يهتزّ. لم يكن اختلاف المذاهب وحده سبباً كافياً في بثّ الفرقة. أدّت الكثير من العوامل إلى زرع بذور التفرقة بين أكثر طرفين معنيين بقضية فلسطين والعداء لإسرائيل. الانقسامات السياسية الحاصلة، وتداعيات الحرب السورية على الداخل اللبناني ألقت بظلالها الثقيلة على كلّ شيء، بما فيه على العلاقة بين الفلسطينيين واللبنانيين، وعادت لتفتح جروحاً قديمة يعرف الطرفان أنهما تجاوزاها، وأن النكء فيها سيخرج الجميع منه خاسراً

«حرباً حرباً حتى النصر... زحفاً زحفاً نحو القدس». ما من شهيد في حزب الله، منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلا ووري في الثرى على وقع هذا الهتاف. القدس في عقل حزب الله هي فلسطين. كل القضية. من ينسى رايات الحزب وشعار «يا قدس إنّا قادمون»؟ فلسطين، في وجدان حزب الله، بمثابة «الحبل المتصل بين الأرض والسماء»، وتحريرها «قضية عبادة» على ما كان يردّد الأمين العام الراحل للحزب السيد عباس الموسوي، وهي القضية التي عاش واستشهد عماد مغنية على مذهب تحريرها.

هذا غيض من فيض فلسطين في وعي حزب الله. ما من قاطن في الضاحية الجنوبية لبيروت إلا ويعرف شيئاً عن هذا. البلدية المحسوبة على حزب الله، في برج البراجنة، هي التي أطلقت على الساحة الفاصلة بين البلدة والمخيّم الفلسطيني اسم «ساحة القدس». كان هذا قبل سنوات. في الساحة هذه تحديداً وقع اشكال الأحد الماضي بين عناصر من الحزب وشبان من المخيم ذهب ضحيته الفلسطيني محمد السمراوي.

ليست الاشكالات جديدة في هذه المنطقة. أهل الضاحية، كما أهل المخيم، أكثر العارفين أن مشاكل كثيرة طالما وقعت هناك، وربما بحدّة وعنف أوسع، بين أبناء برج البراجنة اللبنانيين وبين الوافدين إليها من الجنوب والبقاع، وبين «الوافدين» أنفسهم، كما بين الفلسطينيين أنفسهم. لكن أياً من تلك المشاكل لم يأخذ ما أخذه المشكل الأخير من صدى إعلامي. هي «المرحلة الحساسة» إذاً. آخر ما يمكن لحزب الله أن يستوعبه هو الحديث عن اقتتال شيعي ــــ فلسطيني. أبناء الضاحية، كلهم بلا استثناء، يدركون أن حزب الله مستعد لأن يسكت عن دماء أهله وناسه على أن يتحمّل دماً فلسطينياً. أي شيء يبقى من حزب الله إن خرج من فلسطين؟ يوم انفجار الرويس، قبل أسابيع، يمكن المغامرة بالقول إن بعض المسؤولين في حزب الله ناموا تلك الليلة. لكن أحداً من مسؤولي الحزب لم ينم بالتأكيد ليلة إشكال «ساحة القدس».

أبناء برج البراجنة يتعاملون مع المخيّم كجزء من بلدتهم. يعبرون منه من جهة شارع العنان، مروراً بوسطه عند «حي الأكراد» وشارع مستودعات الأخشاب، ليصلوا إلى حي الحسينية. لم يكن المخيّم يوماً «غيتو» للفلسطينيين. كثيرون من شبّان الضاحية يصلحون دراجاتهم النارية في المخيم، والعكس صحيح، وقس هذا على كل شيء. لكن ثمّة ما تغيّر أخيراً. تحديداً بعد اندلاع الأزمة السورية. وقوف حركة «حماس» إلى جانب المعارضة كان مفصلاً. الفلسطينيون سُنّة. وفي سوريا أخذ الصراع بعداً طائفياً، أو هكذا تعمّد البعض جعله، وهذا ما لا بد أن تلمس انعكاساته مهما بُذل من جهد لرفع درجة الوعي. لذا بات مألوفاً في الضاحية وفي المخيم الرابض على خصرها أن تسمع، من كلا الطرفين، مصطلحات مذهبية غذّاها انفجار الرويس، وقبله سقوط صواريخ على الضاحية تردّد ان مطلقيها فلسطينيون. وقبل وبعد كان أهل الضاحية يسمعون عن تدريبات «سلفية تكفيرية» داخل مخيم البرج. طارق، الشاب الثلاثيني الذي ولد في البرج وعاش حياته على تخوم المخيم، يقول: «على رأسي ما يقوله السيد (حسن نصرالله). ولكن فلسطين في فلسطين، كيف نقبل أن يُصنع موتنا داخل هذه المخيمات التي أعلم أن أكثر أهلها من الشرفاء، لكن هل يعني هذا أن نسكت عن الجميع؟ هل مجرد كون القاتل فلسطينياً يجعلنا نسكت خوفاً من التعميم!».

لا يزال طارق يميّز بين فلسطيني صالح وآخر طالح. ولكن، في المقابل، بات يمكن تلمّس نوع من التململ من كل ما يمت إلى فلسطين بصلة. ستسمع في الضاحية، اليوم، من يتحدث عن «تعب»: «الفلسطينيون ما عادوا يريدون تحرير فلسطين، نشاهد مفاوضات فتح التي لا تنتهي، وحماس أصبحت ضدنا ونسمع أنها تشارك في قتلنا أيضاً، فهل نحمل القضية على ظهورنا ونحن نُذبح من كل العالم! إلى متى يتحمل الشيعة هذا العبء؟». من الظلم القول ان هذا لسان الضاحية، التي لا تزال في غالبيتها تردد خطاب حزب الله، بكل أدبياته الفلسطينية، ولكن، في المقابل، لا يمكن إغفال هذا الصوت الآخر. هذه النبرة التي ــــ وهذا المستجد ــــ آخذة بالاتساع في الآونة الأخيرة.

يمكن للحزب أن يمون على محازبيه، في أدبياتهم، ولكن ماذا عساه يفعل مع مجتمع فيه الكثير من التنوعات وربما التناقضات. يمكن بسهولة ملاحظة أن بعض من في الضاحية، يحبون الحزب، ومستعدون للتضحية من أجله على أكثر من صعيد، لكنهم لا يذهبون معه في كل أمر حتى النهاية. وهذا واقع يعرفه حزب الله تماماً

المصدر: 
الأخبار