عمـــــــــارة المسجـــــــد الاقصى

بقلم: 

لم يلق الاهتمام والرعاية العربية والإسلامية لبيت المقدس والمسجد الاقصى قبولاً ً من سلطات الاحتلال الاسرائيلية، كما لم ترض بمدى ارتباط وتعلق العرب والمسلمين بهما وحبهم لهما ، لتعارض ذلك مع سياساتها وأطماعها وأهدافها . لذا قامت اسرائيل منذ اليوم الأول لاحتلاله بالتضييق المستمر والتعدي على المقدسات متجاوزة كل الخطوط الحمراء ، وكل قوانين وقرارات الشرعية الدولية ، وعلى رأسها التعرض والاعتداء على المسجد الاقصى وتدنيس المساجد وإغلاق المقامات ونبش للمقابر ... الخ . حتى بلغ الأمر بها التطاول في التمادي والتعدي والتدخل في الشؤون الدينية والإدارية للمسجد ، والحد من حرية الوصول للاماكن المقدسة ، وعدم السماح للمصلين بالدخول للصلاة في المسجد الاقصى ، في الوقت الذي تسمح فيه لليهود المتطرفين بالدخول والتجول والعبث في ساحاته دون حساب . كما وصل بها الامر الى منع الفلسطينيين من القيام بأية أعمال بناء أو ترميم او تطوير داخل المسجد الاقصى إلا بعد الحصول على ترخيص رسمي مسبق معتبرة ان قضايا المسجد الاقصى من مهمات المستوى السياسي . هذا بخلاف إزعاج ومضايقة علماء المسجد ورجال الدين والمشرفين والمسئولين عنه واستدعائهم إلى مراكز الشرطة للتحقيق معهم ، وحتى اعتقالهم أحياناً ، وكذلك التعدي على حراسه وسدنته ، ومنع بعض الشخصيات الدينية والسياسية ورجال الخير والإصلاح من الدخول للمسجد لفترات ومدد متفاوتة ، كمنع دخول الشيخ رائد صلاح ، والدكتور الشيخ عكرمة صبري ، والدكتور ناجح بكيرات ، والحاج مصطفى ابو زهرة وحاتم عبد القادر وغيرهم ، بل قام بتركيب كاميرات ترصد كل حركة داخل المسجد لتصوير ومراقبة حركة المصلين والزائرين ، ناهيك عن قيام الشرطة وحرس الحدود بالمراقبة على ابواب الحرم على كل داخل اليه او خارج منه.

وبالرغم من اجراء بعض أعمال الاعمار لإعادة تأهيل المدينة والمسجد الاقصى ، إلا انها تعتبر ضئيلة إذا ما قورنت بما يقوم به الاحتلال بالمناطق التي يسكنها اليهود ، وما يحوله أغنياء يهود العالم والمؤسسات الصهيونية من أموال ترصد لتهويد المدينة ، إذ ان ما يرصد من مبالغ من الجانب العربي ، لا يفي بما تحتاج اليه المدينة المقدسة والمسجد من أعمار وتعمير ، بل إنه لا يكفي للأعمال الضرورية للمسجد كالصيانة الدورية الدائمة أو الطارئة ، نظراً لتآكل العديد من أخشابه وزخرفته ونقوشه وجدران أبنيته وأروقته وقبابه التي تصارع الزمن وتحتاج الى الصيانة والترميم المستمر من حين لآخر .

ولما كان إعمار المسجد ليس بالتجديد والإصلاح والإضافة لهذا الأثر المقدس والمعلم التاريخي الهام فقط ، بل أيضاً بكثرة توافد المصلين للصلاة وإقامة الشعائر الدينية فيه ، و تواجد المؤمنين والمعتكفين والزهاد الموحدين الذين يَعْمُر الإخلاص والايمان والتوحيد قلوبهم ، المسبحين بذكر الله والدعاء على السنتهم . وكذلك العلماء والخطباء والمتحدثين والدعاة والوعاظ التقاة الصالحين ، المتطوعين للعمل والتفرغ لخدمة الدين ، ينتشرون في كل زاوية وركن من اركان المسجد معلمين ومبلغين لنشر الهداية وتبديد الظلمات لطلاب العلم والدارسين فيه من ابناء المسلمين ، والذين يقع عليهم مسئولية توعية الناس بأهمية الصلاة والتوافد إلى المسجد الأقصى وارتباطه بالمكونات الاجتماعية والنسيج الحياتي والمنظومات القيمة والثقافية السائدة ، وبدوره الديني والروحي وبمدى الارتباط العقائدي به ، بما في ذلك التطور التاريخي لعمارته بأبعادها الدينية والحضارية والتراثية كي يعود المسجد كما كان دوماً بيتاً خالصا لله ومركزا للعلم ، وسراجاً ينشر الهداية ، وينير بإشعاعه الديني والثقافي والفكري العالم الاسلامي بأسره.

وبالرغم من استمرار الاحتلال وقيوده وعراقيله والعقبات التي يضعها ، تبقى هناك ضرورة لتفعيل دور المسجد بإعماره وتأهيله وتعميره بالمصلين ، فمثلاً يتطلب المسجد زيادة مساحته التي لا تتجاوز 144 دونم ، المسورة بالسور الحالي المحيط به من مئات السنين دون توسعة ، لذا فمساحته منحصرة ومحدودة لم تتغير ، بخلاف المسجد الحرام والمسجد النبوي اللذين تم توسعتهما لعدة مرات ، حيث بني ليستوعب عدد المسلمين في وقت بنائه ، وهي مساحة لا تتناسب ولا تستقطب ولا تتسع الزيادة الكبيرة في اعداد المسلمين في الوقت الحالي ، خصوصاً خلال شهر رمضان الفضيل ، أو في ايام الجمع والمناسبات الدينية ، الامر الذي يقتضي البحث عن طرق جديدة لإعادة تأهيل ساحات المسجد ، وإعداد دراسات نوعية من لجان فنية متخصصة لتطوير وتوسيع ساحات الحرم القدسي الشريف ، وتوفير اماكن الصلاة المناسبة التي تواكب الزيادة العددية للمسلمين ، وتوسيع الأبواب الحالية ، وتأمين مواقف السيارات والخدمات المريحة للمصلين والزوار ، كالمرافق الادارية والصحية والمتوضأت والمغاسل الكافية ، وتمديد شبكات الاطفاء والإنارة ونظام التكييف ، ومتابعة اعمال النظافة وإزالة القمامة ، وإيجاد الحلول المناسبة للممرات الضيقة الموصلة للحرم لمنع التزاحم والتدافع داخل الحرم الشريف أو خارجه ، وذلك لتشجيع الحضور ووصول المصلين والزوار بكل يسر ، والتوافد الى المسجد للإقامة وللصلاة والتعبد فيه بكل راحة ، ولدفع الضرر والحرج والأذى والمشقة عن المصلين ، ولا شك أن بلدية الاحتلال تتحمل جزءاً كبيراً من هذا التقصير والإهمال المقصود ، لعدم محاولاتها اجراء وإيجاد الحلول الهندسية والفنية اللازمة لمعالجة ذلك كله بشكل يناسب ما يتم من قبلها في الاماكن التي تقطنها الجاليات اليهودية.

 

كما ان على المسلمين أنفسهم قبل غيرهم المحافظة على المسجد الاقصى وحمايته ورعايته وعليهم ان ينظروا اليه بعين التوقير والإجلال والتعظيم ، وبعقيدة صادقة خالصة لله ، وأن يكثروا فيه من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتكبير ، والحمد والشكر والثناء على الله . وعدم الاستخفاف بحرمته والتكفل براحة عباده ومعتكفيه ، وعليهم ان يحافظوا على طهارته ونظافته مصوناً من القذارة والدنس والنجس " لا سمح الله " وان يبتعدوا عن كل ما يسبب الازعاج ومضايقة وإيذاء الآخرين بالقول والفعل .

والحديث عن مراعاة قدسية وحرمة المسجد الاقصى لا يعني فقط المساحات المغلقة " داخل المسجد القبلي او المرواني المسجد القديم او قبة الصخرة " بل كل الساحات غير المغطاة والمساجد والمصليات والباحات والأروقة والقباب داخل سوره ، مع ما يرافقه من مرافق لكونها جزءا من حرم المسجد الأقصى ، فلا يجوز السماح او التغاضي بالبيع او الشراء بهذه الاماكن ، او التدخين او اللهو أو التلاسن السيء ، أو الشتم والسب أو التنازع ، او طلب المعونة والمساعدة أو التسول ، أو جعل ساحاته للأكل وتناول الوجبات ، او مكاناً لإلقاء القمامة والفضلات فجميعها امور مرفوضة منهي عنها ، ينبغي عدم السكوت عنها أو التساهل فيها لكونها لا تتناسب مع وقار وهيبة وقدسية المكان .

والتواجد المستمر للمسلمين بالمسجد الاقصى والحث على زيارته والصلاة فيه بالإضافة الى انه واجب ديني هو أيضاً ضرورة وطنية ورمزية سياسية ، فهو واجب مطلوب من السكان القاطنين والمحيطين به بجوار سور الحرم وداخل المدينة القاطنين فيها ، فأن وجودهم وتواجدهم المستمر فيه تأكيد عميق لعلاقتهم به ، ودليل على حبهم وتعلقهم فيه ، فبقاؤهم فيه يحول دون التحرش واستفزاز بعض اليهود المتطرفين الذين يستعرضون قوتهم امام المصلين ويتمادون بانتهاكاتهم بإقامة طقوسهم الدينية وصلواتهم فيه .

كما يمنع المتطرفين اليهود من اقتحام ساحاته واستباحته وتدنيسه وشرب الخمر والتبول والرقص في ساحاته كما يحدث أحياناً ، وكذلك التسلل ومحاولة قيامهم بتهديدات أو تعديات أو اضرام نار فيه " كما جرى سابقاً " بهدف أحداث الاضرار وإتلاف اجزاء منه ، كما ان وجودهم يمنع من تطاول اعدائه المتربصين به والحاقدين والمهددين له من دخوله للعبث في محتوياته ومقتنياته محتمين بشرطة الاحتلال الاسرائيلي التي يخضع المكان لرقابتها .

وحيث ان المسجد الاقصى يقع في قلب القدس القديمة ، ويشكل سدس مساحة البلدة العتيقة التي تبلغ مساحتها 868 دونماً . فإن الاهتمام بالمساجد ومقامات الاولياء ، والأماكن والمواقع المقدسة التي يزيد عددها عن 200 معلم، هي مسئولية وواجب على كل مسلم بما في ذلك العقارات والمباني التاريخية والتراثية المبنية في حقب اسلامية متعددة ، وكما إن الاهتمام بتعبيد وترميم قناطر المدينة وأزقتها وإعادة تصميم البنى التحتية لها ، وربطها بشبكات وتمديدات المياه والكهرباء الحديثة لخدمة المرافق الصحية ضرورة ماسه ، وهذه الاستهانة التي نراها في المناطق الاسلامية في المدينة يرجع للقصور المتعمد لها من بلدية الاحتلال ، وعدم متابعة أحد المسئولين لها ، وإلى قصور اليونسكو والمنظمات الدولية ، إن هذا كله يتطلب دعماً من مؤسسات خدمية خاصة ولتغطية مثل هذه الاحتياجات وغيرها من اعمال اصلاح وصيانة داخل المدينة ، وكذلك عمل وقفيات وصناديق مالية تتكفل بتغطية وانجاز مثل هذه الاعمال المطلوبة وغيرها ، وتبرع اغنياء العرب والمسلمين لها ، فمثل هذه الاجراءات هي التي تبعث الحيوية والنشاط في المدينة ويفعل انشطتها الاقتصادية والاجتماعية وخلافه.

ومع ان الاحتلال يقبض على القدس بكل ضراوة ووحشية ، ويعمل على عدم تطوير البلدة القديمة خصوصاً المناطق الاسلامية والمسيحية ، بل أنه يعمل بلا كلل وبوتيرة متسارعة لهدم كل مقوماتها العربية والاسلامية وتغيير معالمها لربطها بالتاريخ اليهودي، الا انه ورغم التسارع في اجراءات التنقيب والحفريات الاثرية لم يتم حتى الان اثبات وجود يربط بين القدس واليهودية ، فان العديد من علماء الاثار " الاجانب واليهود " يقرون بعدم وجود اي اثبات لمزاعم وجود الهيكل ، لذا فالاحتلال يدعي عكس ذلك بشكل ممنهج ومبرمج معتمدا على القوة والبطش ، وتزييف الحقائق وطمسها ، وانتهاك حقوق ابنائها السياسية والمدنية والإنسانية والاستهانة بهم حتى لم يعد لهم مكاناً للتنفس فيه بحرية ، ومع كل هذا فإن الوضع لا يمنع من استمرار ثبات المقدسيين في الدفاع عن مدينتهم ومسجدهم وصمودهم بكل إباء وشجاعة والتصدي لغطرسة الاحتلال وبطشه .

كما تعمل اسرائيل جاهدة على مخالفة قرارات الشرعية الدولية وتعنتها ، وترفض قرارات منظمة اليونسكو التي وضعت القدس تحت قائمة التراث العالمي منذ عام 1981 ، وتعمل على اعاقة عمل المنظمة للقيام بدورها بالشكل المطلوب ، وما يؤكد ذلك استمرار اسرائيل بانتهاك قرارات الامم المتحدة واستمرار حفرياتها واتخاذ خطوات احادية الجانب في البلدة القديمة والمسجد الاقصى غير عابئة بأحد وهو ما لا يعزز امن واستقرار المنطقة .

وان نظرة لواقع شرقي المدينة وأماكنها المقدسة يظهر مدى الفرق بينها وبين الشطر الغربي ، فالاحتلال يسعى الى اهمالها والتقصير المتعمد في تحسينها حيث تقوم البلدية " المعينة من الاحتلال على المدينة " بعدم توفير طواقم العاملين والمركبات المطلوبة لإزالة القمامة والقاذورات من شوارعها ، لإعطاء صورة سلبية وسيئة عنها وعن اهلها امام الزوار والسائحين ، فبلدية الاحتلال تصرف 15% فقط مما تجبيه من الضرائب المفروضة على تجار وسكان شرقي القدس .

وأخيراً إن قضية القدس والمسجد الأقصى هي قضية كل العرب والمسلمين وليست قضية الفلسطينيين وحدهم ، مما يعني ضرورة وقفة عربية وإسلامية فعلية وليست قولية او مجرد شعارات سياسية ، ووضع استراتيجية عملية وليست خطابية أو كلامية ، تشكل عنواناً لتضامن ووحدة العرب والمسلمين لمقاومة الاحتلال وإجراءاته الممنهجة لتهويد المدينة وتطويق المسجد الاقصى وتقسيمه ، بل وهدمه وبناء معبدهم المزعوم مكانه . لذا على الجميع بالعمل الجاد والفعّال للدفاع والحرص على القدس حتى لا يأتي يوماً نتباكى فيه عليها ، ولكي لا تصبح القدس مدينة بلا عرب ، فتصبح لقمة سائغة لليهود ، لذا ولكي تعود القدس الى أهلها محررة طاهرة مباركة على الجميع عدم الاكتفاء بالجلوس ورفع الاكف والاكتفاء بالدعاء ، بل بالجهد والعطاء والتحرك الفعّال حتى تحرير المسجد الاقصى وأكنافه ، ويعود المسجد الاقصى لمقامه الشريف ومنزلته الرفيعة ، مسجداً مفتوحاً شارعاً أبوابه لصادقي العقيدة ، طاهري النفوس والاعتقاد ، مقيمي الصلاة والعاكفين الركع السجود .