وداعاً سيّدة فلسطين وأيقونتها عصام عبد الهادي

بقلم: 
تتوارى مفردات اللغة العربيّة خجِلةً من عجزها عندما يتعلق الأمر برثاء سيّدة فلسطين وأيقونتها .

عصام عبد الهادي . النّموذج المتفرِّد الذي لم يختلف عليه فلسطينيّ على مدار العقود السّبعة من مسيرتها الوطنيّة المُتّصلة .

العاشقة للوطن والرّائدة في استحضاره حيثما رحلت وأينما حلَّت .

الحاضرة أبداً بمواقفها الواضحة الجريئة ، الثّابتة على المبادئ الإنسانيّة والوطنيّة في كلّ المنعطفات .

المثال النّادر للقيادة المستنيرة المؤمنة بتساوي حقوق بني الإنسان ، والمدركة لوثوق العلاقة بين الوطنيّة والقوميّة والأمميّة . الواعية لوحدة وتداخل قضايا التحرّر واتّصال جوانبها الوطنيّة بأبعادها كافّة ، السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة .

المتفائلة على الدّوام مهما اشتدّت حلكة الظُّلمة ، لوثوقها بقدرة الحقِّ على الانتصار طالما تمسّك أصحابه به وعملوا من أجل إحقاقه .

عصام عبد الهادي ، الإنسانة الاستثناء ، إسماً ومعنىً ومبنى ، أضفت على الإسم الذُّكوريّ الذي حملته بعداً أنثويّا عمّق الوعي الجمعيّ الفلسطينيّ والعربيّ بخطأ موروثهم ، ودفعتهم إلى الإقرار بتساوي الذَكر والأنثى جدارةَ وموقفاً ، قولاً وفعلاَ . وأسهمت مع زميلاتها الرّائدات الفلسطينيّات بالارتقاء بالإدراك المجتمعي ونيل الاعتراف بدور المرأة في النّهوض الوطني ومقاومة المُحتل . وأكسبت العمل التّطوّعي قيمة اجتماعيّةً كبرى واحتراما يسَّرَ على أجيال النّساء الفلسطينيّات عموما ، والنّابلسيّات خصوصاً ، ومكّنهنّ من تبديد التّحفظ في مجتمع ٍ ذكوريٍّ بامتياز، وساعدهنَّ في اختزال مراحل النِّضال من أجل انتزاع حقوق الشّراكة وتفعيل المشاركة.

عصام عبد الهادي ، الحضور الطاغي ، صفاء الذِهن ، وضوح البيان ، سرعة البديهة ، طلاقة اللِّسان . مزجت شغفها بالحياة بترفُّعٍ مُلفتٍ عن مُغرياتها . تحلّت بجلاء الرّؤية وعمق البصيرة وسعة الأفق وشدَّة التّواضع ، واتّسمت بالتأهُّب الدّائم لتحمُّل مسؤوليّات القيادة مرفوقاً بالزّهد اللاّفت في التّمتّع بمكتسباتها . لم تُغرها المناصب التي كانت تُعْرَضُ عليها ، ولم تَحُلْ أحقِّيّتها في شغلها دون مسارعتها طوْعاً في التّنازل عن شغلها لطالبيها ، درءاً لخلافٍ فصائليٍّ ، أو طلباً لوفاقٍ وطنيّ .

وظلّت على الدّوام تُعطي برقيٍّ وكأنها الآخِذ ، وتساعد بتواضعٍ جمٍّ وكأنها المتلقّي .

عصام عبد الهادي ، النّموذج المثال ، أدركت مسؤوليّة المرأة في تعدد الأدوار وتوازي استحقاقات النّهوض بأعبائها ، فلم تدع سمة المناضلة المنشغلة بقضايا التّحرر الإنساني والمثقلة بهموم شعبها وأمتها تتقدّم على صفة الزوجة المحبّة الشّريكة المسؤولة ، ولم تسمح لمشاغلها العامّة بأن تطغى على دورها الخاص كأمّ ٍّ متفانية معطاءة فائضة الحنان ، قادرة على أن تشمل برعايتها الشّعب بأكمله . ولم يدفعها انشغالها الدّائم إلى السّهو عن دور الإنسانة الصّديقة الحاضرة البشوشة المرحِّبة دائماً ، الفرِحة لكلّ نجاح ، المؤازرة عند الاحتياج .

عصام عبد الهادي ، الإنسانة والقائدة والمناضلة المتميّزة ، سيّدة فلسطين وأيقونتها التي يُجِلّها الكلّ الفلسطيني ، ولا يختلف عليْها أحد . محور الإجماع الفلسطينيّ في كلّ المراحل ، وربّما الوحيدة بين السّاسة نساءً ورجالاً التي بقيت على مدى سبعة عقودٍ مُتّصلة تُعطي ولا تأخذ ، ما أكسبها القدرة على التّمتّع باستقلاليّة مؤثّرة ، والتّمايز الواضح في ساحة تعجّ بالاستقطاب بأشكاله المختلفة ، العقائديّة والسِّياسيّة والاجتماعيّة والجهويّة والحزبيّة والفصائليّة ، مرشدها الوحيد في ذلك بوصلة الوطن الذي عشقته ، وخدمة قضيّة شعبها وأمتها التي نذرت حياتها لها ، دون أن تُغفل قضايا بنات جنسها .

يُفجعنا رحيلك عن دنيانا في مراحل التّحوّل الكبرى ، ويُخيفنا غيابك في لحظات التّيه التي يمرّ بها شعبنا الفلسطيني وقد أضاعت قواه المنظّمة بوصلتها ، وانغمست في صراعٍ داخليٍّ مُدمِّرٍ يتيح للاحتلال الاستيطانيّ الصّهيوني المعزّز بالدّعم الامبرياليّ الغربيّ والمتربّص بجماع الشّعب والأمّة والمنطقة ، فرصة لم يحظَ بها على امتداد أكثر من قرنٍ من الصّراع الوجوديّ المتواصل .

لكنّه القدر الذي لا رادّ لجبروته ، وعزاؤنا في قبوله أننا حظينا بفرصة العيش في زمنك ، ونعمنا بشرف معرفتك شخصيّا والتّعلّم منك والتّتلمذ على يديك في كيفيّة حب الوطن وفي سبل استحقاق شرف المواطنة . ومنحتنا وأسرتك الكريمة المتميّزة حبّا وانتماء وعطاء ، نموذجاً رائداً نُجلِّه ونقتدي به .

وداعا سيّدة فلسطين وأيقونتها ، ولتنعم روحك الطاهرة بالسّكينة إذ تركت إرثاً ثريّا سيبقى نبراساً للأجيال القادمة.

 

المصدر: 
القدس