غزّة بعيون جديدة: قراءة في الصلة بين الاقتصاد والسياسة

بقلم: 

يُمكن للمرء أن يُتابع أحوال السياسة في بلد ما من خلال الاطلاع على نتاج الانشغال السياسي لنخبته من الساسة والأكاديميّين والصحافيين. ويبدو هذا الأمر مُحاطاً بمحاذير، قد يكون أهمّها تكوين المرء لتصوّرات منقوصة عن البلد المعني بسبب الانشغال السياسي غير الأصيل لنخبته. وتُمثّل الحالة الفلسطينيّة نموذجاً ساطعاً لهذا الاحتمال. فمنذ سنوات، ومع تعثّر العمليّة السلميّة، وتحوّل المُصالحة الوطنيّة بين حركتي فتح وحماس إلى مسلسل علاقات عامّة مملّ، يدور إنتاج النخبة الفلسطينيّة حول تكرار المقولات السياسيّة ذاتها، المُتّصلة مباشرة بهذين الموضوعين. وقد أسهم هذا الانشغال بدوره في حجب الأسئلة السياسيّة الفعلية في فلسطين، وتحديداً تلك المتعلّقة بالتحوّلات التي شهدها الاقتصاد السياسي في الضفة وغزّة منذ الانقسام الفلسطيني عام 2007.

 

التسليف الاستهلاكي في الضفة

 

ما هي التحوّلات الاجتماعيّة التي أفرزها ترسّخ إدارة عبّاس - فيّاض في الضفة الغربية منذ العام 2007؟ لقد دخلت السلطة الفلسطينيّة مع هذه الإدارة طوراً جديداً يستلهم أسسه من المفهوم الإسرائيلي اليميني للسلام، باعتباره «سلاماً اقتصاديّاً» قائماً على تبادل الأمن مقابل المنافع الاقتصاديّة. وقد تعزّز هذا التوجّه بتدفق المساعدات الدوليّة لمؤسّسات السلطة، وتحديداً لقطاع الأمن، بما يضمن تحقيق متطلبات الاستقرار المُنسجمة مع منظور السلام الاقتصادي.

يُمكن فهم واحدٍ من مُحرّكات هذا الاستقرار من خلال رصد ظاهرة استثنائيّة شهدتها الضفّة الغربيّة تتمثّل في التوسّع الكبير في حجم المديونيّة الخاصّة عبر التسهيلات الائتمانيّة التي تمنحها البنوك الفلسطينيّة. فالبنوك الفلسطينيّة (بحسب الاقتصادي الفلسطيني رجا خالدي) قد منحت القطاع الخاص منذ العام 2006 ما يقربُ من عشرة مليارات دولار على شكل قروض عقاريّة وتجاريّة واستهلاكيّة، مع زيادة في حجم الائتمان الممنوح بنسبة 13 في المئة لكل عام. وقد تزامنت هذه المستويات من الائتمان المُطرد مع ظهور أنماط استهلاكيّة جديدة تمحورت حول قطاع الخدمات بالدرجة الأولى، ومع ميلٍ للتركّز في رام الله، عاصمة السلطة السياسيّة، ومركز الجذب المهم لأموال الدعم الدولي لطيف واسع من المؤسّسات الدوليّة العاملة في الأراضي الفلسطينيّة. وقد حفز هذا كلّه على توسّع القاعدة الاجتماعيّة المُرتبطة بمشروع الاستقرار، إمّا من خلال مديونيتها المُتراكمة أو من خلال ارتباطها العضوي ببيروقراطيّة السلطة الفلسطينيّة الضخمة الممولة من الخارج.

 

طفرة البزنس في غزة

أما غزّة، فقد توفرت حولها أبحاث أكثر نسبياً، ولكنها كانت تعاني قصوراً في مُقاربة أحوال المدينة السياسيّة والاجتماعيّة منذ تأسيس سلطة حماس هناك عام 2007. لقد نبع هذا القصور بالأساس من أنّ الانشغال بغزّة كان ينفذ إليها من بوّابة الحصار الإسرائيلي فحسب، وآثاره الخانقة على المدينة واقتصادها السياسي. وقد عمل هذا، مُضافاً لأسباب أخرى، على رسم صورة نمطيّة وغير مُكتملة إلى حدّ بعيد عن غزّة، وهو ما حجب بالتالي صوراً أخرى عن الواقع الاجتماعي وتحوّلاته في السنوات الأخيرة. ومع التحفظ، بسبب فقر الأرقام المُقدّمة عن غزّة، يُمكن القول إنّ المدينة شهدت خلال السنوات الأخيرة نوعاً من الحيويّة التجاريّة والماليّة النابعة بشكل خاص من التوسّع في مشاريع الخدمات.

عرفت غزّة ازدهاراً في مشاريع السياحة الداخليّة والترفيه، مثل افتتاح فنادق جديدة ومطاعم فاخرة وسلسلة كبيرة من المقاهي التي تقدّم خدماتٍ لدائرة متوسّعة من المستهلكين. وعلى سبيل المثال، يحفل شاطئ غزّة بمجموعة من الفنادق والمطاعم الفاخرة، من بينها فندق «آركميد» المملوك للمليونير الفلسطيني منيب المصري، الذي أعيد افتتاحه بعد سنوات من الإغلاق، ويُقدّم خدمات الفندقة والترفيه، ويُشكّل إلى جانب غيره من مشروعات السياحة، نقطة جذب لقاعدة من المُرتادين الذين تُقارب أنماطهم الاستهلاكيّة الأنماط السائدة لدى الطبقات الوسطى في دول مُجاورة. وقد منح توسّع سوق السيارات الحديثة في قطاع غزّة أخيراً الفرصة للاستثمار في مشروعات لتقديم خدمة النقل داخل المدينة («التاكسي») بشكل كبير، ممّا أسهم في زيادة فعاليّة شبكة النقل وربطها بالمراكز الخاصّة بالترفيه.

ويدور الجانب الآخر من هذه الحيويّة الماليّة حول الطفرة التي شهدتها غزّة خلال السنوات الماضية في تجارة العقارات والمضاربة التي رفعت أسعار الأراضي والشقق السكنيّة إلى مستويات عالية. فقد تصل أسعار بعض الشقق السكنيّة في مدينة غزّة إلى ما يربو عن 100 ألف دولار، فيما تتباين أسعار الأراضي حسب موقعها، لكنها قد تصل في بعض المناطق الى ما يزيد عن 1000 دولار للمتر المربّع الواحد. ويُمكن أن نعزو هذا الارتفاع في الطلب في سوق العقارات إلى السمة البنيويّة الخاصّة بقطاع غزّة كشريط ساحلي ضيّق، يحظى بأعلى كثافة سكّانية في العالم. ونظراً لأنّ الحصار الإسرائيلي على غزّة قد حرمها طويلاً من مواد البناء الأساسيّة، فإنّ تفكك قيود الحصار والإبداع في التحايل على ظروفه أخيراً، وبالتالي توفر المواد الخاصّة بمشروعات العمران، قد أسهما في زيادة مطردة للطلب في قطاع الإنشاءات بسبب تعطّش السوق الطويل لهذه المشروعات. وقد جاء الدعم القطري، الذي رصد ما يقرب من 400 مليون دولار لمشروعات الإعمار والبنية التحتيّة، ليعزّز تنشيط قطاع الإنشاءات. لكنّ بعض القيود التي تُفرَض على معبر رفح من قِبل السلطات المصريّة تؤثر في الواقع على عمل هذه المشروعات نظراً للاعتماد المتزايد على المعبر وشبكة الأنفاق في تمرير مواد البناء الأساسيّة.

 

مثال محمد عساف

لقد أعطت ظاهرة صعود النجم الغنائي محمّد عسّاف من قطاع غزّة دليلاً موثقاً آخر على انتشار ضروب من الاستهلاك الجديد المُتصل بقطاع الاتصالات والترفيه. فعلى مدار حلقات برنامج «آراب آيدول»، ساهم الفلسطينيّون في غزّة بشكل مكثف بالتصويت لعسّاف عبر شركة «جوّال» التي تحتكر سوق الاتصالات الفلسطيني في غزّة. وتشير تقديرات إلى أنّ الأصوات التي خرجت من غزّة لوحدها لمصلحة عسّاف بلغت ملايين عدّة، بتكلفة تتراوح بين دولار واحد إلى نصف دولار لرسالة التصويت الواحدة. ترافق هذا مع الفاعليّة الكبيرة التي شهدتها المقاهي والمطاعم والمُنتجعات المُختلفة التي استضافت على مدار حلقات البرنامج جمهور عسّاف الكبير لتعرض له على شاشات كبيرة أغنياته خلال المنافسة. وتعكس هذه الظاهرة، التي لو تمّ عزلها عن مُحرّكاتها ذات العلاقة بالبعد الوطني والهويّاتي، ليس أنماطاً استهلاكيّة جديدة في المدينة الفلسطينيّة فحسب، وإنما أيضاً اتجاهات ثقافيّة مُتصالحة مع ثقافة عصر الاستهلاك، برغم أنّ حكم حماس لغزّة يوحي بصورة مُفارقة للمدينة كحيّز لنشاط الأسلمة فقط.

 

تعريف المصالح الجديدة وأصحابها

تشير هذه الحيويّة التجاريّة والماليّة المُتنامية إلى وجود دورة ماليّة وراءها، ما يعني أنّ هناك أموالاً تُضَخ في الاقتصاد لمصلحة مشروعات استثمار تأخذ في غزّة، بسبب عوامل بنيويّة مُختلفة، شكل الاستثمار في صورة مشروعات صغيرة أو متوسّطة. بمعاني الاقتصاد السياسي، تعكس هذه الدورة الماليّة وجود مصالح جديدة بعينها وراء الاستثمار، وبالتالي تعني ترسيمات مُحدّدة في قلب البنية الاجتماعيّة لغزّة ترتبط بهذه المصالح. كيف يُمكن تعريف هذه المصالح ومن يقف وراءها؟

هناك في غزّة تاريخيّاً طبقة تجاريّة قديمة يُشكّل عمادها سكّان غزّة الأصليّين الذين يُشغلون عبر النمط العائلي المُمتد مشاريع مختلفة في كلّ المجالات تقريباً. وتثبت التجربة طول باع هذه المجموعة في التكيّف مع الظروف المُختلفة وقدرتها على التواؤم وتشغيل مشروعاتها التجاريّة بغض النظر عن السلطة السياسيّة الحاكمة. وقد استجابت هذه الفئة بمرونة عالية لوصول حماس للسلطة وسيطرتها على غزّة. وساهمت مُحافظتها الاجتماعيّة التقليديّة، بالإضافة إلى انفتاح حماس على فكرة المشروع الحر، في أن تجد هذه الطبقة المناخ الملائم لاستئناف أنشطتها التجاريّة، وتحديداً بعد التخفيف من قيود الحصار على غزة.

وتعبّر حركة حماس ذاتها عن جزء آخر ومعتبَر من المصالح المُستجدّة. فالحركة الإسلاميّة التي واجهت الحصار ضدّ حكمها، سرعان ما انخرطت في أنشطة تجاريّة وماليّة مُختلفة بهدف الالتفاف عليه. ومع تآكل قيود الحصار، وسّعت الحركة الإسلاميّة والشبكات المُرتبطة بها من تجّار وعائلات، مشروعاتها لتشمل دائرة متوسّعة من نشاطات الفندقة والترفيه والمضاربات في مجال العقارات والأراضي. وعلى جانب آخر، أدّى سعي حماس منذ العام 2007 لتشييد إدارتها الخاصّة في القطاع إلى خلق بيروقراطيّة متضخّمة يُقارب عددها الآن 40 ألف عامل موزّعين على الأجهزة الأمنيّة والإدارات الحكوميّة المُختلفة. وقد أضافت الأجور التي تحصل عليها هذه البيروقراطيّة، والتي يُعاد حقنها في الاقتصاد المحلّي، المزيد من الفعاليّة للدورة الماليّة في غزّة، وربط قطاع جديد من الجمهور موضوعيّاً بجسم السلطة الحمساوي.

ولفهم شيء من طبيعة الترسيمات الاجتماعيّة التي أفرزتها هذه التحوّلات، يمكن القول إنّ الطفرة الماليّة، وبسبب تركّزها في مشاريع الخدمات والمضاربة العقاريّة وخلق بيروقراطيّة حكوميّة ضخمة، لم تترافق مع تحسّن بنيوي في الاقتصاد يستوعب الأعداد المُتزايدة من العاطلين عن العمل ويُخفض مُعدّلات الفقر المُرتفعة. فكما تشير دراسة حديثة للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، خُصّصت لمؤشّرات المتخرجين من الجامعات الفلسطينيّة (من 20- 29 سنة)، فإنّ نسبة البطالة لدى هذه الفئة مثلاً قد بلغت 50.6 في المئة العام 2012، توزعت بنسبة 40.9في المئة للضفّة الغربية و 63.2في المئة لغزّة على التوالي. أمّا معدل البطالة العام في غزّة فيصل إلى 32.2 في المئة، فيما تبلغ نسبة الفقر ما يقرب 38.8 في المئة حسب الجهاز المركزي للإحصاء. يُشجّع التناقض بين ظاهرة الحيويّة الماليّة وهذه الأرقام المُظلمة على الاستنتاج بأنّ وصول حماس للحكم انطوى على ديناميّة ساهمت في إثراء فئات بعينها على حساب فئات أخرى واسعة. ويشكّل انخراط حماس بفعالية في العمليّات التجاريّة المُختلفة، وتوسيعها لحجم بيروقراطيّتها في غزّة، إشارة إلى صعود نمط يُزاوج بين الحكم وشبكات الزبائنية لأصحاب المصالح القريبة من حماس. وعلى هذا الأساس، يأخذ الفقر في غزّة طابعا خاصاً، فهو ليس كناية عن استبعاد اجتماعي فحسب بالمعنى الموضوعي، بل هو تعبير عن استبعاد سياسي، إذ تبدو إمكانيّات الترقي الاجتماعي مرتبطة بالقرب من السلطة القائمة وحزبها.

 

تأقلم مع... الاحتلال الإسرائيلي

لقد حُجبت السياسة في فلسطين بتحوّلها إلى إطار للعلاقات العامّة بين فتح وحماس ومشكلتهما المأزومة. ويُشكّل السعي لقراءة التفاعلات الاجتماعيّة الحاصلة في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة محاولة لإعادة السياسة إلى المتن. وتبدو هذه المهمة في السياق الفلسطيني على درجة كبيرة من الأهميّة، لأنّ المجتمع الفلسطيني لا يزال يعيش تحت وطأة الاحتلال العسكري والمواجهة اليوميّة معه. وبمثل ما أسهمت التحوّلات التي أفرزها وصول إدارة فيّاض - عبّاس للحكم في الضفة في تعميق الاستقرار وتخفيف حدّة الاشتباك مع الاحتلال إلى حدوده الدنيا، فإنّ الديناميّات ذاتها قد تؤكّد فاعليّتها في غزّة أيضاً، من خلال صعود نموذج هو مزيج من الإسلامويّة والبزنس في آن معاً، يُحافظ على الاستقرار حرصاً على مكاسب التجارة. وما تقوله السنوات الماضية هو أنّ تعزيز سيطرة حماس على قطاع غزّة وتوسُّع شبكة مصالحها يترافق مع ميل، يقترب من أن يصبح ممارسة سياسيّة مُصمّمة، لتأكيد حالة الهدوء والحفاظ على اتفاقات التهدئة. وهكذا، ففيما تسعى القوّتان الرئيسيّتان في السياسة الفلسطينيّة إلى تثبيت ركائز حكمهما وتأكيد شبكات مصالحهما، تتعايش سلطتاهما مع الأمر الواقع الذي يتوغل في كلّ تفاصيله الاحتلال العسكري الإسرائيلي، من دون وجود إرادة لتجاوز الخطوط الحمر لهذا الواقع أو تغييرها.

المصدر: 
السفير