هنا لعنة الجدار

بقلم: 

كان تلاميذ المدرسة الثانوية في قرية الطيبة المحاذية للخط الأخضر غرب جنين، يسترقون البصر إلى قافلة للمستوطنين التي تحرسها دوريات عسكرية إسرائيلية وتسير إلى جانب الجدار الفاصل الملاصق لمدرستهم التي أصبحت الطريق إليها محفوفة بالمخاطر. ويخشى هؤلاء مجرد الخروج لشرب المياه أمام مدرستهم، خشية تعرضهم لإطلاق جنود الاحتلال ممن ينتشرون على مقربة منها النار عليهم. يقول الشيخ محمد جبارين رئيس المجلس المحلي السابق للقرية إن إسرائيل حولت حياة أهالي القرية البالغ عددهم نحو 2300 نسمة، وجميعهم من اللاجئين، إلى جحيم لا يطاق. ووصف جبارين الجدار الفاصل بالأخطبوط الذي يتمدد على أراضي القرية والقرى المجاورة ليلتهم نحو 800 دونم من أراضي القرية، ويفاقم معدلات الفقر والبطالة.
لم تكتفِ سلطات الاحتلال بمصادرة مساحات واسعة من أراضي تلك القرية، بل بدأت بانتهاج سياسة هدم منازل الأهالي، في إطار شقها الشارع الموازي للجدار، أو ما يسمى بمنطقة «الحرام». وقال جبارين إن الأهالي توقعوا أن تكتفي سلطات الاحتلال بما صادرته من أراضيهم لإقامة الجدار، لكنهم فوجئوا بأنها تطمع بمصادرة المزيد مما تبقى من أراضيهم.

 

جنين قبل سنة 1948.

يشكو أهالي الطيبة التي شطرت إلى نصفين، أحدهما يقع ضمن الأراضي المحتلة عام 1967، والثاني داخل أراضي 1948، من تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية، حيث تمت مصادرة أكبر مساحة مما تبقى لهم من أراض. وأشار إلى أن الأراضي التي صادرتها سلطات الاحتلال تعتبر من أخصب أراضي القرية، وكانت تشكل مصدر دخل لمئات العائلات، فيما يبلغ عرض الشارع الموازي للجدار الفاصل نحو 25 مترا تليه ما تسمى بمنطقة «الحرام». وبحسب ما أكده جبارين، فإن ممارسات الاحتلال لم تقتصر على الأحياء، وإنما تعدتها لتلاحق حتى الأموات من أهالي القرية في داخل قبورهم، حيث أجبرت عائلات عدة على نبش قبور موتاها، ونقل رفاتهم إلى أماكن أخرى، بذريعة وقوع القبور ضمن منطقة الشارع الموازي للجدار الفاصل. ومنذ إقامة الجدار الفاصل تحول معظم أهالي القرية إلى متعطلين عن العمل، بسبب عدم قدرتهم على البحث عن فرص عمل داخل أراض 1948، كما كان عليه الأمر على مدار السنوات الطويلة الماضية، حيث بلغت نسبة البطالة وفقا لتقارير المجلس القروي نحو 90%.

برطعة الشرقية وجه آخر للمعاناة

في قرية برطعة الشرقية المحاذية للخط الأخضر غرب جنين، حيث يعيش نحو أربعة آلاف نسمة، تمضي سلطات الاحتلال في تنفيذ مخطط خطير يهدف إلى تحويل قريتهم إلى أشبه ما يكون بـ«الفيتو» المغلق بعد أن عزلها السياج الفاصل عن عمقها من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. ويقول غسان كبها رئيس المجلس القروي في القرية: «أصبحنا نشعر بأننا نعيش في عالم آخر وعلى كوكب آخر، فلا أحد يكترث لمعاناتنا التي تفاقمت بشكل خطير منذ أن بدأت قوات الاحتلال بإقامة السياج الفاصل». ويعاني أهالي القرية من نقص خطير في مياه الشرب والأدوية، إلى جانب معاناتهم اليومية الناجمة عن الانتشار اليومي لجنود الاحتلال وآلياته في شوارع القرية، وتهديد سلطات الاحتلال بهدم المزيد من المنازل والمنشآت بذريعة البناء بلا ترخيص.
قسمت سلطات الاحتلال في البدايات الأولى لاحتلالها الأراضي الفلسطينية عام 1967، قرية برطعة إلى جزأين: الشرقية التي أصبحت ضمن حدود أراضي عام 1967، فيما أضحت الغربية منها داخل أراضي 1948.
وفي موازاة هذه المعاناة، أصبحت بوابة «ريحان» الإسرائيلية، عنوانا جديدا لمعاناة أهالي القرية. ويضطر هؤلاء ممن عزلهم السياج الإسرائيلي، وأصبحوا يعيشون في بقعة جغرافية معزولة عن العالم الخارجي، إلى الانتظار طويلاً أمام بوابة «ريحان»، بانتظار السماح لهم بالعبور، عند خروجهم من قريتهم في ساعات الصباح، أو عند عودتهم إليها في ساعات المساء. ويفتح جنود الاحتلال البوابة ابتداء من السابعة صباحا حتى التاسعة مساء، أمام أهالي القرية ممن يشترط عليهم الحصول على تصاريح خاصة من «الإدارة المدنية» الإسرائيلية، تمكنهم من الخروج من قريتهم والعودة إليها في أوقات محددة.

قهر وتنكيل

على مدار ساعات فتح البوابة الحديدية، يتفنن جنود الاحتلال بالتنكيل بالأهالي بإجبارهم على الانتظار طويلاً، وفرض قيود مشددة على تنقلهم، ومنعهم من إدخال المواد التموينية والأدوية والخضار، لأسباب «أمنية»! ويخضع العابرون للبوابة لإجراءات مهينة تشمل إخضاعهم للتفتيش الجسدي، ومنع أقاربهم ممن يقطنون خارج القرية من عبور البوابة، بذريعة عدم حيازتهم للتصاريح اللازمة للعبور. أما خارج الأوقات المحددة لفتح البوابة، فتمنع قوات الاحتلال أهالي القرية من العبور، حتى في الحالات الإنسانية والمرضية بغض النظر عن خطورة الانتظار على حياة المواطن.
وفقا لما يؤكده رئيس المجلس القروي لبرطعة الشرقية، فإن العشرات من المواطنات من خارج القرية، تزوجن بمواطنين منها، ولا تثبت بطاقاتهن الشخصية أن مكان سكنهن تلك القرية، وهو ما يجعل مسألة خروجهن منها، أمراً مستحيلا. وهؤلاء المواطنات يعجزن عن الخروج من القرية لخشيتهن من عدم القدرة على العودة إلى منازلهن في ظل عدم حيازتهن تصاريح العبور للبوابة، في وقت تعجز فيه عائلاتهن عن زيارتهن للسبب نفسه، وهو ما ألحق ضررا كبيرا بالروابط الاجتماعية. وأضاف قبها: كانت القرية من أكثر التجمعات السكانية ازدهارا على مدار سنوات طويلة خلت بسبب محاذاتها للخط الأخضر، ولكنها تحولت إلى واحدة من أكثر القرى الفلسطينية فقرا بعد إقامة السياج الإسرائيلي، وبعد منع المواطنين من غير القاطنين فيها، من الوصول إليها، في وقت أقدمت فيه قوات الاحتلال على تدمير العشرات من المنشآت الاقتصادية فيها بذريعة البناء بلا ترخيص.

أخطبوط الاستيطان

تؤكد الإحصاءات الفلسطينية الرسمية، أن محافـــــظة جنين تعتبر من أكثر المحافظات تضررا من السياج الإسرائيلـــي الفاصل الذي سلبها معظم أراضيها، في حـــين يشكل الاستيطان الوجه الآخــــر للسيـــاسة الإسرائيلـــية القائمة على مصادرة أكبر قدر ممكن مـــن الأرض الفلسطـــينية.

 

هنا تقع جنين .

وينتشر في محافظة جنين كثير من المستوطنات التي أقيمت على الأراضي المصادرة، وأكبرها مستوطنة «شاكيد» حيث يسابق المستوطنون الزمن في توسيع هذه المستوطنة التي أقامتها سلطات الاحتلال في مطلع الثمانينيات لتلتهم المزيد من الأراضي الفلسطينية المصادرة من قريتي نزلة الشيخ زيد وطورة الغربية وعدد من التجمعات السكانية المحاذية للخط الأخضر غرب جنين. وتواصل عدة بلدوزرات إسرائيلية تنفيذ أعمال توسيع هذه المستوطنة، علاوة على مستوطنتي «حنانيت» و«تل منشه» اللتين يشملهما التوسع الاستيطاني المستمر. وقال عضو المجلس القروي لطورة الغربية، أحمد قبها، إن سلطات الاحتلال بدأت القيام بحفريات ضخمة تمهيدا لبناء مئات الوحدات السكنية في مستوطنة «شاكيد»، ضمن مخطط يهدف إلى توسيع هذه المستوطنة التي تقع أجزاء منها في داخل الخط الأخضر، ولكن معظمها على أراضي فلسطينية محتلة عام 1967.
وأضاف: إن سلطات الاحـــــــتلال قررت وضع اليد على ما مساحته 380 دونما من الأراضي الزراعية في المنطقة لتوسيع مستوطنة «شاكيد»، ويجد أصحابها صعوبات كبيرة في الوصول إليها، خصوصا بعدما أصبحت داخل ما تطلق عليه سلطات الاحتلال اسم «المنطقة الحرام» الواقعة بمحاذاة السياج الفاصل والمستوطنة. وتحظر سلطات الاحتلال على الغالبية العظمى من أصحاب تلك الأراضي الدخول إليها إلا بموجب تصاريح تمنحها «الإدارة المدنية» لعدد قليل من المزارعين، وتقتصر في غالبيتها العظمى على كبار السن ممن يعجزون عن فلاحة أراضيهم أو قطف الزيتون فيها، وهي تصاريح غالبا لا يتم منحها للشبان بذريعة «المنع الأمني».
يرى أهالي التجمعات السكانية المحاذية لسياج الفصل العنصري والقريبة من المستوطنات في إقدام سلطات الاحتلال على استئناف أعمال البناء وإقامة وحدات استيطانية جديدة في مستوطنة «شاكيد»، نكبة جديدة لهم. ومن بين هؤلاء، أهالي قرية نزلة الشيخ زيد المنكوبة بالمستوطنات والسياج، حيث فقد هؤلاء أكثر من ألفي دونم من أراضيهم الزراعية التي أصبحت معزولة خلف السياج، وتنتشر فيها قطعان الخنازير البرية التي هاجمت مرات عدة المزارعين وأصابت عددا منهم، ومصدرها كما يؤكد الأهالي المستوطنين ممن نشروا المئات منها في تلك المنطقة، في محاولة منهم للحيلولة دون تمكين المزارعين من دخول تلك الأراضي، في حالة السماح لعدد منهم بذلك بموجب تصاريح خاصة.

ثورة القسام

يفخر أهالي تلك القرية، بأن أراضيها كانت مسرحا للاشتباكات المسلحة بين ثوار الشيخ عز الدين القسام ضد قوات الاستعمار البريطاني. ويروي الأهالي أن الشيخ عز الدين القسام سقط شهيدا ومعه مجموعة من الثوار، على بعد أمتار قليلة من القرية في منطقة أصبحت معــــــزولة بالسياج ومحاذية لمستوطنة «شاكيد». وقرروا إقامة نصب تذكاري للشهيد القسام في الموقع نفسه الذي استشهد فيه في التاسع عشر من تشرين الثاني 1935، عندما حاصرته القوات البريطانية في عملية عسكرية بدأت فجر الخامس عشر من الشهر ذاته.
أقدمت سلطات الاحتلال علـــــى عزل أكثر من ثمانية آلاف دونم من الأراضي الرعوية والحرجـــــية، خلـــــف السياج الذي التهم أكثر من ثلث مساحة أراضي القريـــــة. ونفذت أعمال التوسعة في مستوطنة «شاكيد» التي أنـــــشأ الاحتلال على أطرافها عددا من مصانع الحديد ومعامل الســــــــجاد والإطارات، ما تسبب بتلويث البيئة، في وقت حوَّل فيه المستوطنون مياه مجاريهم إلى الأراضي الزراعية التابعة للقرية.

* صحافي مقيم في جنين

المصدر: 
السفير