الدولة اليهودية.. حلقة في مشروع صهيوني زائف!

بقلم: 

لم يوضع مطلب الاعتراف بإسرائيل "كدولة يهودية" على طاولة المفاوضات مع العرب والفلسطينيين، لا في مدريد ولا في أوسلو، لقد "ظهر" هذا المطلب وعرضته حكومة أولمرت إبان مؤتمر أنابوليس عام 2007 عندما جرى تداول هذا "الشرط" كجزء من الحل النهائي.

إلا أن حكومة التطرف اليميني في إسرائيل حولته إلى مطلب رئيسي من أجل استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين.. بيد أن ارتفاع منسوب الكلام عن الدولة اليهودية غير محصور ضمن شروط التفاوض مع قيادة "م.ت.ف" كجزء من حل إقليمي وإنما أساساً من خلال سلسلة مشاريع القوانين التي سنّت حكومة نتنياهو بعضها بينما لايزال بعضها الآخر في طور التشريع داخل الكنيست الإسرائيلي.

[ما الذي يحصل على هذا الصعيد؟

يمكن القول إن حكومة نتنياهو ترغب في تحويل الأنظار عن موضوعات خلافية داخل المجتمع الإسرائيلي، مثل الاستيطان والقدس إلى موضوعات ليست خلافية،مثل الدولة اليهودية وإسقاط حق عودة اللاجئين، وتعلم حكومة نتنياهو أن المفاوضات ربما تفشل لكنها تفضّل أن تفشل على صخرة الدولة اليهودية.. لعلمها أنها إذ تطرح هذا الموقف فإنها تمثل الأغلبية المطلقة لليهود في إسرائيل، وفي حال فشل المفاوضات لهذا السبب فإن أحداً داخل إسرائيل لن يأتي إليها بادعاءات من أي نوع كان، وستقول عندها لليهود الإسرائيليين: فشلت المفاوضات لأن الفلسطينيين يرفضون الاعتراف "بالدولة اليهودية"!..

وفقاً لما تقدم فإن مطلب الاعتراف بيهودية الدولة، هو اعتبار حزبي وسياسي داخلي وطريقة يختار حزب الليكود بموجبها أن يفجر المفاوضات بشأن موضوع غير خلافي داخل المجتمع الإسرائيلي، ضامناً بذلك موقعاً ليس بصفته ممثلاً لمعسكر اليمين فحسب، بل ممثل وقائد للمجتمع الإسرائيلي برمّته أيضاً، وإذا كان موضوع "تبادل الأراضي" هو موضوع خلافي، فإن معارضة عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم، ويهودية الدولة هما محط إجماع وتوافق صهيوني.

يبقى هذا التحليل عاجزاً عن تفسير حدّة الخطاب الإسرائيلي بصورة عامة بشأن "الدولة اليهودية" وكما ذكر فإن أولمرت في أنابولس وليس نتنياهو، هو أول من وضع شرط الاعتراف بإلدولة اليهودية، مع فارق أن الأول لم يضع ذلك شرطاً مسبقاً وإنما كأحد شروط الحل النهائي، وبناء عليه يمكن القول إن هناك ضرورة أكثر عمقاً تستحضر وتستدعي خطاب "الدولة اليهودية" وسنحاول عبر هذه المقالة المكثفة استجلاء هذه الدينامية الداخلية وآفاق تطورها.

[ خطاب عنصري بالمرصاد لمن يختلف معه:

كانت أولى ضربات هذا الخطاب اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق اسحاق رابين عام 1995، إذ في ذلك الوقت علّل القاتل يغال عمير فعلته بقوله: "إن اتفاق أوسلو الذي وقّعه رابين وتم تمريره في الكنيست اعتماداً على أصوات أعضاء الكنيست من العرب" ودلالة ذلك أن الإسرائيليين فقدوا قدرتهم على تقرير مصيرهم بأنفسهم، وبالتالي فإنهم وفق منطق العنصري عمير لم يعودوا أسياداً لا منازع لهم بالسيادة على البلد وفي اتخاذ القرارات الحاسمة، وقد اجتاح هذا التيار الجارف إسرائيل بقوة كبيرة بعد فشل مفاوضات "كامب ديفيد 2" واندلاع الانتفاضة الفلسطينية عام 2000 واستعادة اليمين الإسرائيلي تجميع صفوفه باعتبار أن الانتفاضة أثبتت أن "لا شريك فلسطينياً للسلام".

ومنذ ذلك الحين مازالت الهجمة شرسة ومستمرة على بعض الإنجازات المحدودة والضئيلة أصلاً التي تم التوصل إليها في تسعينيات القرن الماضي، فإسرائيل مابعد الانتفاضة الأولى 87-93، لاتستطيع أن تتحمل مجرد فكرة أن تكون شيئاً آخر غير "الدولة اليهودية". وقد أثارت فكرة "إسرائيل دولة كل مواطنيها" التي نادى بها "التجمع الوطني الديمقراطي" الذعر لدى اليهود الصهاينة وهم يسعون لدفن الفكرة كي يُعفوا أنفسهم من ضرورة التفكير فيها أصلاً، فالسهولة النسبية التي يتم فيها نجاح اليمين الإسرائيلي في تحقيق ذلك تدل على هشاشة الإنجازات التي تحققت في تسعينيات القرن الماضي.

إن الأساس الجوهري الذي يلتقي عليه اليمين واليسار يتعلق بالابقاء على أغلبية يهودية داخل إسرائيل، وبالتالي معاداة كلّية لحق عودة اللاجئين، كذلك يلتقي الطرفان على موضوعات أخرى أقل أهمية مثل دور اللغة العبرية في الحياة العامة وعلاقة الدولة بيهود المهجر، غير أن نقاط الإجماع ينبغي أن لاتُخفي عن الأعين نقاط الخلاف وإن كانت الأخيرة آخذة بالاضمحلال والتلاشي.

يبقى من المثير التعامل مع طلب الاعتراف "باليهود كمجموعة قومية" وخصوصاً عندما يأتي الأمر من حزب الليكود، الوارث الطبيعي لحركة حيروت إبنة التيار "التنقيحي" في الحركة الصهيونية، لقد كتب جابوتنسكي عام 1927 مقالته الشهيرة عن "الجدار الحديدي" والتي فحواها أن لا طائل من محاولة استرضاء الفلسطينيين بصورة عامة لأن ذلك يعتبر استهزاءً بهم، فالفلسطينيون كبقية الشعوب الأصلية لن يقبلوا الوجود "القومي اليهودي" وكذلك التنازل عن وطنهم، وبالتالي ينبغي ضربهم بقوة وإقامة "جدار حديدي" بين الدولة اليهودية التي ستقوم وبينهم، ولابد من أجل تحقيق ذلك الاطمئنان أو التحالف مع قوة دولية عظمى تساند "الدولة اليهودية" إلا أن أهم مافي المقالة هو غياب الحاجة والرغبة بالوصول إلى اعتراف الفلسطينيين بالرواية الصهيونية.

[هل هناك تغيير لدور الضحية بالرواية الصهيونية؟

الإجابة على هذا السؤال لن تكون بنعم أو لا، لكن يمكن تسجيل الملاحظات التالية: إنه لمن المثير للانتباه أن اليمين الإسرائيلي لايكتفي بلغة القوة وليّ عنق الواقع، فهو يريد التحول إلى لغة الاعتراف أي إلى "لغة الحقوق" ويريد اعترافاً فلسطينياً "بحق اليهود بتقرير المصير في دولة خاصة بهم".

إن حزب الليكود يطمح من وراء ذلك لحل مشكلة عام 1948، ومشكلة عام 1967، وبهذا المعنى فإنه يريد حلّاً جذرياً، لكن من دون العودة إلى الجذور، وإقفال الملف التاريخي قبل أن يفتحه أصلاً، ودفع الشعب الفلسطيني للتنازل عن حق العودة قبل أن يعترف بوجود حق كهذا، إلا أنه على الرغم من هذا وذاك فإن الانتقال إلى خطاب الاعتراف والحقوق ينبغي أن لايخيف الفلسطينيين، وتكمن أهمية خطاب حزب الليكود بإعادة الصراع إلى أبجدياته الأولى، وطرح السؤال عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني وبالتالي يعيد المشهد في فلسطين إلى ماكان عليه قبل عام النكبة 1948، شاء ذلك أم أبى.

إن خطاب حزب الليكود من دون أن ينتبه، يجعل حق الشعب الفلسطيني في وطنه الأصلي موضوعاً مسلّماً به.. فالشرط الإسرائيلي بعضه تعجيزي يهدف إلى عرقلة المفاوضات لكن بعضه الآخر يشكل اعترافاً ضمنياً بأن الحصول على اعتراف الأسياد وراء البحار لايكفي لإنجاح مشروع "الدولة اليهودية" وأن لابديل عن المفاوضات مع الضحية نفسها لانتزاع اعترافها!.

بكل الأحوال، لاحل وشيكاً في الأفق للقضية الفلسطينية، وهذا اليمين الإسرائيلي المتشدد غير مؤهل للتقدم في أية مفاوضات جدية، كما أن إسرائيل اليوم بيمينها ويسارها غير جاهزة، من دون ضغوط محلية وإقليمية ودولية تفسح المجال لتحسين موازين القوى لصالح الطرف الفلسطيني, والوصول إلى حل يضمن الحد الأدنى من العدالة التاريخية، ويعيد الحقوق إلى أصحابها الأصليين، وهذا يعني أن إسرائيل غير مؤتمنة أساساً على مصالح مواطنيها يهوداً وعرباً وبالتالي فإن المواطنة الإسرائيلية ولدت مشوّهة.. والسؤال الأساسي ليس إذا كنت مواطناً اسرائيلياً أم لا، وإنما إذا كنت يهودياً أم لا.. إضافة الى أن قيام اسرائيل لا يعني نهاية المشروع الصهيوني، وإنما محطة في مشروع هدفه جمع شتات اليهود وحل المشكلة اليهودية في العالم أجمع على حساب الحقوق الوطنية والقومية المشروعة للشعب الفلسطيني. وبالتالي فإن إقامة "الدولة" ما هي إلا حلقة في مشروع طويل الأمد.. وهكذا فليست "الدولة" إلا مؤسسة وأداة تخضع لمنطق الأساطير التلمودية والتوراتية الزائفة.

المصدر: 
المستقبل