آرييل شارون خلال حرب لبنان

بقلم: 

أرييل شارون إسم يرتبط بالأزمة اللبنانية منذ حرب 1975. إجتاح لبنان في حزيران عام 1982 وأقام حواجز لجيشه المحتلّ على أبواب القصر الرئاسي في بعبدا. لعب أدواراً عسكرية وسياسية مدمّرة للبنان وللقضيّة الفلسطينية وكان العرّاب الحقيقي لمجزرة صبرا وشاتيلا.

يروي وزير خارجية لبنان سابقاً الدكتور ايلي سالم في كتابه "الخيارات الصعبة – دبلوماسية البحث عن مخرج"(*)، بعضاً من أسرار مفاوضات الإنسحاب الإسرائيلي من لبنان وأدوار شارون الخطيرة الرافضة للإنسحاب إلاّ بعد توقيع "إتفاقية سلام" مع الحكومة اللبنانية.

كان الهدف الرئيسي لسياسة الحكومة اللبنانية الخارجية في نهاية 1982 تحقيق الإنسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية. ويقول الوزير سالم أنّه "كان يخشى أن تعمد إسرائيل إلى ضمّ الأراضي اللبنانية المحتلّة إلى إسرائيل، أو أن تلحقها بها رويداً رويداً، كما فعلت بالأراضي التي احتلّتها في حرب حزيران 1967... لذك كنا نسعى لإخراج اسرائيل من لبنان بسرعة للحؤول دون ذلك. وبالنسبة الينا، كانت هذه الخطوة الأولى من أجل سحب جميع القوات المسلّحة غير اللبنانية من لبنان".

كانت الحكومة اللبنانية تدرك مخاطر التفاوض مع اسرائيل. الخطوة الأولى تجلّت بالإتفاق على إجراء "محادثات استكشافية" مع تل أبيب، على أساس صيغة ثلاثية الطرف تضمّ لبنان واسرائيل والولايات المتحدة كشريك كامل في المحادثات. غير أنّ اسرائيل كانت متردّدة في إشراك واشنطن بالمفاوضات، لأنّها أرادت التفاوض مع لبنان وحده على أمل انتزاع شروط أفضل. إلاّ أنّ الحكومة اللبنانية أصرّت على إشراك الولايات المتحدة كضمانة لا غنى عنها للتوصّل إلى "إتفاقية عادلة" وليس عقد "إتفاقية سلام".

كان وزير الخارجية ايلي سالم قد قام بزيارة رسمية إلى لندن التقى خلالها رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر، ثم انتقل إلى واشنطن حيث التقى الرئيس الأميركي رونالد ريغان وكبار معاونيه بهدف تسريع إخراج جميع القوات الأجنبية من لبنان، حيث أكّد وزير الخارجية الأميركي شولتس "أنّه ليس مسموحاً لإسرائيل أن تعرّض وحدة لبنان، واستقلاله، وتوجّهه العام للخطر". وأكّد شولتس لسالم أنّ فيليب حبيب "لا بد أن يأتي سريعاً بمخطّط عمل يعتمده".

ورقة شارون

عاد الوزير سالم إلى بيروت من جولته "الإستطلاعية" التي شملت بريطانيا والولايات المتحدة وتوجّه إلى مكتب رئيس الجمهورية أمين الجميّل مباشرة. ويروي سالم في كتابه: "ما إن دخلت حتى إتّضح لي أنّ هناك شيئاً ما خاطئاً قد حدث كان هناك الرئيس الجميّل، المبعوث (الأميركي الخاص) فيليب حبيب، السفير (الأميركي) موريس درايبر، وغسان تويني، والدكتور وديع حداد. الجو كئيب واجم، حتى تويني الذي يشيع أجواء التفاؤل في حال اليأس، كان مكتئباً. وكعادتي دخلت بشيء من المرح والعجقة والهمشرية وصافحت الجميع، وهتفت: بحق المسيح، ماذا يجري؟ هل أنتم في جنازة؟ ماذا يجري هنا؟ ونظر الرئيس وهو في حالة إنزعاج قصوى، إلى حبيب وقال له: "قل لإيلي كل شيء".

يضيف سالم: "وكأن المبعوث الأميركي كان ينتظر هذه الفرصة. وبأسلوب مسرحي وعيناه محدّقتان فيّ بتركيز، وفمه يرتجف بدأ ملوّحاً بيده بالهواء للتأكيد على ما يقول: "لن تصدّق ذلك يا إيلي. وصلت إلى اسرائيل لعرض قضيّتكم. واجهت شارون وقلت له: ينبغي أن تنسحب من لبنان بسرعة. لبنان لا يستطيع أن يوقّع معكم معاهدة سلام. ريغان يريد منكم أن تنسحبوا حتى تسهّلوا انسحاب السوريين والإيرانيين والمقاتلين الفلسطينيين. وكان، يا صديقي، كلما، أحرجته وألححت عليه، ينظر إليّ، ويبتسم. شككت أنّ هنالك خدعة! لأنّ شارون خداع. فتركني أتكلّم وأتكلّم! ثم هل تعلم ماذا قال: لن تصدّق، قال لي يا إيلي: لا حاجة إليك بعد الآن يا حبيب. لقد انتهت مهمّتك. أنت تحاول أن تتوصّل إلى إتفاقية بين لبنان واسرائيل من أجل انسحابنا. ها هي الإتفاقية دون حاجة لتدخّلك. لقد توصلت إلى ذلك بمفاوضات سرية مع الرئيس الجميّل بواسطة رجل أعمال صديق له. وعندها سلّمني شارون هذه الوثيقة. إليك بها يا إيلي. اقرأها. هل أنت على علم بها. هل أنت موافق على محتوياتها؟".

يتابع وزير خارجية لبنان الأسبق:

صعقت لما سمعت. لم أكن على علم بأنّ الرئيس الجميّل يقوم بمفاوضات جانبية وحده. والرئيس يعلم تماماً مدى حساسيتي في موضوع التفاوض مع اسرائيل على أي شيء. هو يعلم أنّ السؤال الوحيد الذي طرحته عليه، عندما عرض علي منصب وزير الخارجية، كان بشأن الموضوع الإسرائيلي. تناولت الوثيقة وبدأت أقرأها بتمعّن، بينما كان حبيب يمشي بعصبية، ينتظر ردّة فعلي. ثم حدّق بالرئيس وقال: سيدي الرئيس! يبدو لي أنّكم لستم في حاجة إليّ؟ وفّقكم الله، أنتم وشارون. أنا عائد إلى بلادي". وبما أنّ القدرة المسرحية لم تكن تنقصني فقد صرخت بحبيب أن يهدأ، وأن يتيح لي فرصة قراءة الورقة.

تاريخ الوثيقة هو 14 كانون الأول 1982. قرأت فيها: يتفق الطرفان على التوصّل إلى صفقة عامة حول ما يلي:

أ- تطبيع العلاقات؛

ب- الترتيبات الأمنية؛

ج- ثم انسحاب القوات الإسرائيلية.

وللتوصّل إلى هذه الصفقة، يشكّل وفدا لبنان واسرائيل لجنة خاصة تواصل اجتماعاتها حتى توقيع معاهدة سلام! وإلى أن يتحقّق ذلك تكون الحدود مفتوحة بين لبنان واسرائيل أمام الناس والبضائع؛ وبموجب الترتيبات الأمنية تقيم اسرائيل مراكز إنذار مبكر في لبنان، ويسمح لها بالقيام بطلعات جوية استكشافية فوق الأراضي اللبنانية مدى فترة يتفق عليها. وبالنسبة للإنسحاب الإسرائييلي يتحقّق ذلك بعد انسحاب المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، وبعد إعادة أسرى الحرب الإسرائيليين لدى السوريين والفلسطينيين. وبعد ذلك ينسحب الجيشان السوري والإسرائيلي في وقت متزامن.

هنا ينفجر الوزير سالم غضباً ويتابع كشف أسرار تلك المرحلة:

"هنا إتفاقية جرى الوصول إليها سراً بدون معرفة وزير الخارجية. تساءلت في نفسي، وقبل أن أتكلّم، هل أستطيع الاستمرار في منصبي؟ هل تلك إشارة من الرئيس لي كي استقيل، وهل الرئيس مقرّب من اسرائيل أكثر مما أظن! هذه الأفكار كلّها كانت تساورني وأنا أقرأ بنود هذه الوثيقة. وبعد قراءة الوثيقة قلت لحبيب: إنّ ورقة شارون هذه مرفوضة بكلّيتها، بروحها، بنصوصها، بأهدافها، فهي تشير إلى وفدين لبنان واسرائيلي، فيما كنا نصرّ نحن على ثلاثة وفود أي على وجود الوفد الأميركي بجانبنا كشريك كامل.

"ثم إنّ الوثيقة تذكر تطبيع العلاقات، وهذا مرفوض كلياً. وهي تشير إلى معاهدة سلام، ونحن لسنا بوارد معاهدة سلام، ولا حتى للبحث بهذا الموضوع مستقبلياً، إلاّ ضمن قرار عربي شامل، وفي أجواء غير هذه الأجواء. والوثيقة تشير إلى صيغة لوجود اسرائيلي مستمرّ فوق أراضينا، وذلك خرق لسيادتنا، وهو بالتالي غير مقبول. وبالنسبة لي، فإنّ الورقة بكلّيتها مرفوضة. ولذلك ينبغي إهمال هذه الورقة واعتبارها خطأ خطيراً ارتكبه شخص لا صفة رسميّة له ولا يتكلّم بإسم الرئيس ولا بإسم الحكومة، ولذلك يجب أن نرجع إلى مسارنا الطبيعي وإلى إكمال مهمّتك."

 

الجميّل: "نقاط للبحث"

يتابع سالم: كنت منزعجاً، ولم أكن أنوي إخفاء ذلك. وشعر حبيب بالإرتياح عند سماع ما قلت. ثمّ تدخّل الرئيس الجميّل وقال أنّ الورقة هي فقط محاولة شخصيّة لتسريع عمليّة التفاوض. وأنّ لا صفة رسميّة لها وأنّها لا تحظى بموافقته. وهذه ليست إتفاقية، قال الرئيس، إنّها مجمل نقاط للبحث وضعها وسيط بنفسه. وعندما سمعت كلمة "نقاط للبحث" قلت: ليس لدينا نقاط للبحث تحت هذه العناوين. نحن لسنا بصدد تطبيع للعلاقات، ولا بصدد معاهدة للسلام. ولن نسمح بإنشاء مراكز للمراقبة فوق أراضينا. ضمّدت جراحي وتناسيت المشكلة وشعرت أنّ الرئيس كان هو أيضاً محرجاً. وكان يقدّر موقفي، فنطر إليّ وقال: إيلي افعل ما تراه مناسباً لدفن ورقة شارون وإنقاذ مهمة حبيب، وصرّح بما تريد لإعطاء فيليب حبيب الدعم السياسي الذي يحتاجه. وأكّد أنّنا لسنا بصدد مباحثات جانبيّة مع اسرائيل.

يؤكّد ايلي سالم أنّ ورقة شارون كانت خطأ كبيراً، وكان ضرورياً "أن نواصل العمل في إطار الخطوط العامة التي ناقشتها مع ريغان، وشولتز، ولكن شارون تجاهل موقفنا وأخذ يصرّ على ورقته كأساس لمباحثات سياسية. وعندما رفضنا ذلك، أخذ يهدّدنا بدفع الدروز إلى مهاجمة بلدة الجمهور وهي تقع فوق القصر الجمهوري ووزارة الدفاع، وبتحريك الشيعة لمهاجمة قرى مسيحية جنوب بيروت. وظلّت تهديدات شارون تتواصل، مهدّداً رئيس الجمهورة بأنّه إذا لم يتّبع ورقة شارون فإنّ الرئيس سيجد نفسه رئيساً على القصر الجمهوري فقط، بدون أن تكون له سلطة حتى على حديقة القصر. وفي بعض الأحيان، كانت اسرائيل تهدّد بإرسال الرائد سعد حداد، قائد جيشها العامل بأمرتها في جنوب لبنان إلى ضواحي صيدا. وكانت، في أحيان أخرى، تزيد من حدّة التوتّر بين المسيحيين والمسلمين بعرض أفلام على الفلسطينيين تبيّن رجال الميليشيات المسيحية يرتكبون مجازر الفتك بالفلسطينيين في صبرا وشاتيلا، حاذفة، بالطبع، دور اسرائيل في تلك المجزرة، وهو دور تبيّن مداه في تقرير لجنة كاهان الإسرائيلية التي كشفت الحقائق التي أحاطت بمجازر صبرا وشاتيلا في أيلول سنة 1982. وبعد تدخّل جازم من واشنطن وافقت اسرائيل أخيراً على التفاوض في إطار الصيغة الثلاثية. وحيال خيبة الأمل، أصرّ شارون على شرطين هما: عقد الجلسة الإفتتاحية في اسرائيل، وامتناع الوفد اللبناني عن توجيه الشكر إلى الولايات المتحدة للجهود التي بذلتها في بدء المباحثات. وبما أنّنا كنا راغبين بالتحرّك بسرعة، فقد وافقنا على عقد الإجتماع الأول في كريات شمونة في الجليل. وكان الإتفاق قد انعقد على أن تجري الإجتماعات بالتناوب بين كريات شمونة (اسرائيل) وخلده (جنوب بيروت). وألمح الينا الأميركيون بأن لا نوجّه أي شكر لهم: لأنّهم كانوا، بدورهم، يريدون بدء المباحثات دون إشكال. والواقع أنّنا لم نكن في مزاج نوجّه فيه الشكر إلى أحد".

غاب شارون لكن أسرار "ورقته" لفرض سلام مع لبنان لم تغب معه، لأنّ ملفات وزير خارجية لبنان الأسبق تضمّنت أسرار تلك المرحلة الشديدة الخطورة من تاريخ لبنان.

المصدر: 
النهار