فاتورة المواجهة أعاقت التنمية في الدول المتاخمة لإسرائيل

بقلم: 

 

كان قيام إسرائيل في قلب بلاد الشام في سنة 1948 تحديا خطيرا لجميع دول المشرق العربي، التي نشأت غداة اتفاق سايكس - بيكو في سنة 1916، وكان تحديا قاسيا لمصر أيضا التي تعتبر فلسطين جسرها إلى بلاد الشام. وهذا التحدي فَرَضَ على هذه الدول أعباء عسكرية كبيرة لحماية أمنها الوطني، ومواجهة خطط إسرائيل في التوسع الجغرافي. ولا ريب في أن التكلفة الباهظة ماليا واقتصاديا، التي أرغمت الدول العربية على تخصيصها لشؤون الدفاع، كان يمكن أن تذهب إلى التنمية الاقتصادية والبشرية لهذه الدول الخارجة للتو من تحت سطوة الاستعمار البريطاني والفرنسي، وأن تساهم في تقدم المجتمعات العربية بصورة ملموسة. وعلى سبيل المثال، فإن متوسط الدخل الفردي في سوريا عام 1946، أي في عام الاستقلال، كان أعلى من المتوسط في تركيا، والأعلى في آسيا. وبعد 50 سنة، صار متوسط دخل الفرد في سوريا أقل بكثير من المتوسط في تركيا، وصارت سوريا من فئة الدول ذات متوسطات الدخل الضعيفة جدا في آسيا. والمؤكد أن فاتورة التسليح وتكلفة الحروب أعاقت بعض جوانب التنمية في الدول المواجهة لإسرائيل.

غير أن هذه الصورة وحدها غير كافية لإيضاح واقع الحال. فللوهلة الأولى يبدو هذا الكلام بدهيا وصحيحا. لكن لو توغلنا قليلا في العمق لظهرت الأمور على غير مظهرها الأولي. فإسرائيل بدورها كانت تقتطع من ميزانيتها العامة مبالغ هائلة للشؤون العسكرية (25 في المائة)، ومع ذلك، تمكنت من الوصول إلى ناتج كلي في نهاية القرن الـ20 يعادل الناتج الكلي لمصر وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين معا، وبلغ متوسط دخل الفرد الإسرائيلي أكثر من 20 ألف دولار، الأمر الذي وضعها بين فئة المجتمعات المتقدمة والمرفهة.

أين تكمن العلة إذن؟

العلة ليست في الميزانيات العسكرية الكبيرة، بل في نمط التنمية. فالجيش هو قطاع عام كبير، وقد استخدمته الدول العربية الحديثة التكوين في امتصاص جانب من البطالة، وهذا أمر حسن. وكان يمكنه أن يساهم في عملية التنمية بشكل ملموس. فالصناعة الحربية مرصودة، في الأساس، لتنمية القدرات البشرية الوطنية وتشغيلها والاعتماد على النفس، والاستقلال الجزئي عن الدول المصدرة للأسلحة، والمساهمة في تغذية الميزانية العسكرية. وكذلك الإنشاءات العسكرية المهيأة بالفعل للمساهمة في التنمية، من خلال تشغيل المهندسين والفنيين والحرفيين والعمال، وبناء المساكن وشق الطرقات وبناء الجسور.. إلخ. لكن نمط التنمية العربية أعاق هذه الإمكانية، وأفشل الصناعات العسكرية التي تحولت إلى مجرد إدارة بيروقراطية خاملة. لنتذكر «الهيئة العربية للتصنيع الحربي» في مصر، التي مولتها دول الخليج العربي، ولم تتمكن، طوال سنوات كثيرة، من إنتاج أي سلاح. بينما يشكل المجمع الصناعي العسكري في إسرائيل رافدا مهما من روافد الناتج الكلي في إسرائيل، وأحد العناصر الأساسية في تكوين الميزانية، حيث أصبحت إسرائيل سادس دولة مصدرة للسلاح في العالم (طائرات «كفير» ودبابات «ميركافا» ونظم عالية التكنولوجيا للاتصال والسيطرة والقيادة).

المعضلة لا تكمن في الميزانية العسكرية في حد ذاتها، بل في طرائق الإنفاق وانعدام التخطيط، والتجريب الذي يؤدي إلى الهدر، والبيروقراطية الراكدة، والصراعات الداخلية التي شهدنا مآسيها منذ «نكبة فلسطين» عام 1948 حتى اليوم. وأبعد من ذلك فإن بلادنا العربية، لا سيما دول المواجهة، وخصوصا مصر وسوريا، خضعت لنمط في التنمية هو نمط رأسمالية الدولة، وتبعتها في هذه الشأن الدول العربية المسانِدة كالعراق والجزائر واليمن. وبهذه الخلاصة أعيق الجيش كمؤسسة كبرى عن المساهمة في التطوير والإنتاج، وتحولت ميزانياته إلى عبء على التنمية. فالجيش، في نهاية المطاف، ليس عبئا على الميزانية إذا استخدم بالطرائق العلمية كما يجب أن يستخدم، ويصبح عبئا حقيقيا إذا كان استخدامه على المنوال الذي تعودنا عليه في بلادنا العربية. بينما في دول العالم المتقدم، فإن للجيش وللميزانيات العسكرية شأنا مهما جدا في البحث العلمي والتطوير الصناعي وتسجيل الاختراعات، الأمر الذي ينعكس إيجابا على الاقتصاد والتنمية البشرية وزيادة الدخل وارتقاء المجتمع والتقدم.

* باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - بيروت