إسرائيل وأميركا.. واقتناص الفرصة التاريخية

بقلم: 

مفاوضات السلام مستمرة (بين الإسرائيليين والفلسطينيين). ويُزْعَم أنَّ مدارها قضايا الحل النهائي جميعاً؛ فلا قضية مستثناة، أو تُؤجَّل، أو تُرحَّل؛ ولا بدَّ للطرفين من أنْ يتوصَّلا، هذه المرَّة، إلى اتِّفاق على كل شيء؛ فلا انتقالية (أو مرحلية) في الحلول، وإنَّما في تنفيذ وتطبيق الحلول، التي لن تَخْرُج إلى الوجود إلاَّ بطابعها النهائي (الدائم)؛ فـ الآن؛ وهذا ما تعيه جيِّداً، وفي المقام الأوَّل، الولايات المتحدة وإسرائيل ، هي ظرف زمان يشبه، دولياً وإقليمياً وعربياً وفلسطينياً، ظرف الزمان الذي فيه قامت دولة إسرائيل؛ ولا بدَّ، من ثمَّ، من أنْ يُسْتَثْمَر، تفاوضياً وسياسياً، بما يؤدِّي إلى قيام دولة فلسطين، التي في بُنْيتها من الحجارة الإسرائيلية ما يجعلها أقرب إلى المطلب الإسرائيلي منها إلى الحق (القومي) الفلسطيني؛ ولسوف تنتهز الولايات المتحدة وإسرائيل هذه الفرصة (التاريخية الثمينة)، وإنْ كان المحيط العربي والإقليمي فيه من الفوضى ما يرفع كثيراً منسوب عدم اليقين، ويَعِد بكثيرٍ من المفاجآت غير السَّارة؛ وهذا إنَّما يشبه أنْ يُجازِف المرء، فيجتاز بسيَّارته إشارة المرور الضوئية وقد تحوَّلت بلونها من الأخضر إلى الأصفر.

وإنَّ أوَّل ما اتَّفَق عليه الطرفان والوسيط (أو الراعي) هو أنْ يستعينوا على قضاء حوائجهم بالكتمان الإعلامي؛ فدخول الإعلام إلى القاعة، أو خروجهم منها إليه، قد يُفْسِد كل شيء، ويذهب بكل تَقَدُّم أُحْرِز، أو أوشكوا أنْ يحرزوه. وهذا إنَّما يعني أنَّ التفاوض يَحْمِل طرفيه على قَوْل وقبول أشياء ليس من الحكمة السياسية بثها ونشرها الآن.

كلا الطرفين المتفاوضين يحتاج إلى غطاء سياسي شعبي يتغطَّى به حتى دخوله إلى قاعة المفاوضات، وبعد خروجه منها؛ ولقد كان وَقْفُ إسرائيل لكل نشاط استيطاني لها في الضفة الغربية، وفي القدس الشرقية على وجه الخصوص هو الغطاء الذي أصرَّ (أو طالما أصرَّ) عليه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس؛ لكنَّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو رأى في استمرار هذا النشاط خير غطاء يتغطَّى هو به؛ فتفتَّق ذهن الوسيط عن حلٍّ لهذا النزاع، الذي طالما أعاق وعرقل وأحبط جهود ومساعي استئناف المفاوضات. وكان هذا الحل أنْ يتغطَّى نتنياهو بغطاء الاستمرار في النشاط الاستيطاني، وكأنْ لا وجود لمفاوضات السلام، على أنْ يتغطَّى عباس بغطاء آخر، هو إفراج "إسرائيل" (على دفعات) عن معتقلين فلسطينيين؛ وكأنَّ عباس يريد أنْ يقول لشعبه، ولكل مَنْ يَقِف ضد عودة الطرف الفلسطيني إلى مائدة المفاوضات، مع استمرار (وتزايد) النشاط الاستيطاني، وعدم وجود مرجعية للتفاوض مقبولة فلسطينياً، ولو على مضض، إنَّنا نذهب إلى مفاوضات لا نثق كثيراً بجدواها، وكفَّة فشلها ما زالت تَرْجَح على كفَّة نجاحها؛ لكن ما الضَّيْر منها، ومن ذهابنا إليها، إذا ما استطعنا الإفادة منها في الإفراج عن بعضٍ من أسرانا؟!

إنَّ الاستذراع بهذا الأمْر الإنساني، وهو الإفراج عن بعضٍ من المعتقلين الفلسطينيين الذين طال أمد وجودهم في السجون الإسرائيلية، يمكن أنْ يأتي للمُسْتَذْرِع بشيء مِمَّا يشبه التواطؤ الشعبي معه.

الصَّفْقَة، التي توسَّط لإتمامها وعقدها وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري، جَعَلَت المفاوِض الفلسطيني الذي يبتغي تحرير الأسرى عن طريق استمراره في التفاوض أسيراً لهذه المفاوضات، التي يفهمها نتنياهو على أنَّها تحرير للنشاط الاستيطاني من كثيرٍ من قيوده؛ فإسرائيل أعلنت وأكَّدت أنَّها لن تُفْرِج عن معتقلين فلسطينيين لديها إلاَّ على دفعات، وأنَّ عدم انسحاب المفاوِض الفلسطيني من المفاوضات هو شرطها للاستمرار في الإفراج عنهم.

ولو بَسَّطْنا الأمْر، وهو في واقعه أبْسَط مِمَّا يبدو عليه في العبارة الدبلوماسية، لقُلْنا إنَّ الصَّفْقَة هي أنْ يستمر النشاط الاستيطاني في مقابل الاستمرار في الإفراج عن بعضٍ من المعتقلين الفلسطينيين؛ وإلاَّ ما معنى أنْ تقول إسرائيل إنَّ استمرارها في الإفراج عن هؤلاء المعتقلين مشروط باستمرار الفلسطينيين في التفاوض، الذي في مناخه يستمر (ويتزايد) النشاط الاستيطاني؟!

ولقد أَتَت تجربة التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهي الأطول والأكثر عبثية في تاريخ التفاوض السياسي، بما يقيم الدليل أنَّ التفاوض يأتي بمزيدٍ من الاستيطان، الذي، بتزايده، يأتي بمزيدٍ من التفاوض، الذي يُشْحَن، ويُعاد شحنه، بمزيدٍ من الاستخذاء الفلسطيني للتَعَنُّت الإسرائيلي.

المعادلة القديمة للحل النهائي، وهي معادلة أنْ تَحْصَل إسرائيل على السلام مقابل حصول الفلسطينيين على الأرض، وعلى الحد الأدنى من حقوقهم القومية المعترف بها دولياً، ما عادت تَحْكُم المفاوضات، أو تتحكَّم فيها؛ فإسرائيل تريد الآن الحصول على سلامٍ لا يشبه أبداً السلام، ويشبه الراية البيضاء (يرفعها الفلسطينيون) أكثر مِمَّا يشبه الحمامة البيضاء. وفي هذا السلام يتضاءل كثيراً، وكثيراً جداً، وزن الأرض، ووزن الحقوق (القومية للشعب الفلسطيني). وأخشى ما أخشاه هو أنْ تتضح وتتبلور أكثر ملامح المعادلة الجديدة، والتي فيها تحصل إسرائيل على هذا السلام مقابل حصول الفلسطينيين (في المقام الأوَّل) على أشياء من قبيل الإفراج عن المعتقلين، والإفراج عن أموال فلسطينية (وتلقِّي مساعدات مالية واقتصادية) توصُّلاً إلى انتظام السلطة الفلسطينية في دَفْع رواتب الموظفين.

العرب والفلسطينيون هُمْ الآن في حالٍ من الضعف التي تُغْري إسرائيل والولايات المتحدة بمفاوضات تفضي إلى حلٍّ نهائي لا تتقلَّص فيه إسرائيل الكبرى قليلاً، إلاَّ لِتَظْهَر إلى الوجود إسرائيل العظمى، التي يتأكَّد وجودها، ولا يُنْفى، بقيام دولة فلسطينية، لا أكثر من الحجارة الإسرائيلية في بُنْيَتِها!

المصدر: 
الحياة