مفاوضات.. ومخاضات متعددة

بقلم: 

كم كان معبرا مشهد وزير الخارجية الاميركي جون كيري وهو يتوسط المفاوض الفلسطيني صائب عريقات والمفاوضة الاسرائيلية تسيبي ليفني، ثم يفتتح المحادثات ويعطي الطرفين مهلة تسعة اشهر للتوصل الى اتفاق. انه حلم اميركي صغير، يتحقق في ظل كوابيس السياسة الاميركية في المنطقة.

يفتح مشهد التفاوض على طرفين: الاول اسرائيل التي تتمتع بدعم متعاظم من الولايات المتحدة، فكل ادارة تمسك بالدعم الذي قدمته الادارة السابقة وتضيف عليه. في مسألة الاستيطان مثلا، الرئيس كارتر كان ضد الاستيطان ثم جاء الرئيس ريغان واعتبر الاستيطان عملا غير قانوني، وهذه تهمة خطيرة في الثقافة السياسية الاميركية. جاء بعده الرئيس جورج بوش الاول وحاول التصدي للكونغرس بمنع تقديم ضمانات قروض للمستوطنات ارضاء للعرب، الذين شاركوا معه في عملية عاصفة الصحراء لتحرير الكويت من احتلال العراق، لكنه رضخ ووافق على ضمانة قروض بقيمة عشرة مليارات دولار وهكذا تم توفير التمويل. ثم جاء كلينتون وادارته واوفد السناتور جورج ميتشل لمعالجة موضوع الاستيطان حتى توصل بنتيجة جولات مفاوضات فاشلة الى اعتبار الاستيطان موضوعا قابلا للتفاوض بين الطرفين. الرئيس جورج بوش الثاني طور موقفه من الاستيطان (وهو كان قد قام برحلة على متن هليكوبتر اسرائيلية فوق المستوطنات برفقة شارون قبل انتخابه رئيسا) وعارض توسيع المستوطنات وعندما حاول استئناف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية رفض شرط الفلسطينيين بوقف الاستيطان واستعاض عنه بشرط «تجميد الاستيطان» واسبغ الشرعية على المستوطنات القائمة. لن نسقط من اهمية باقي ملفات الوضع النهائي، الحدود والقدس واللاجئين، لكن الاسرائيليين عودونا ان يقدموا في كل عملية مفاوضات على انشاء مستوطنات جديدة وتوسيع القائمة منها من دون ردة فعل دولية، فيما تعتبر الولايات المتحدة التي يتدرج دعمها لاسرائيل ان صاحبي العلاقة يتفاوضان ولا داعي للتدخل في موضوع المستوطنات.

اما الطرف الفلسطيني فلم يتسن له ان يفرض شرطا مسبقا للتفاوض يتعلق بالاستيطان، وذهب الى المفاوضات من دون ان تقف وراءه اي جبهة عربية. مصر منشغلة بترتيب اوضاعها الداخلية وغارقة في الخلاف مع «حماس» وليس لديها دبلوماسية فاعلة تواكب المفاوضات. الاردن يركز انتباهه على مفاعيل «الربيع العربي» ويخشى من ان تبتلعه الحركات الاسلامية او ان يذهب فرق عملة في اتفاق دولي. سوريا لم تعد فزاعة تحضر بهيبتها على اية طاولة مفاوضات. كانت معادلة لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سوريا تظلل المفاوضين، لكنها تراجعت مع دخول الازمة السورية عامها الثالث، من دون التقليل من اهمية فتح جبهة الجولان اذا حصل. اما حركة «حماس» التي كانت تصعد عسكريا عندما لا تعجبها انطلاقة المفاوضات فقد دخلت في عالم آخر. لقد انتقلت من محور المقاومة الى بيت مكتب الارشاد لـ«الاخوان المسلمين» حيث تطيع الاوامر الشرعية من المرشد لتلتزم وقف اطلاق النار مع اسرائيل. ويستحضر بعض مؤيديها صلح الحديبية الذي اجراه النبي محمد مع قريش ويحاولون اسقاطه على الوضع مع اسرائيل وهو مختلف تماما (على الاقل لم يكن هناك تشريد شعب) من اجل اضفاء المقدس على التنازل السياسي (حديث هدنة السنوات العشر مثل هدنة صلح الحديبية). سال لعاب «حماس» من ان الدولة الاسلامية قادمة من الاستانة الى دمشق والقاهرة وتونس وطرابلس وربما عمان، فلماذا الاستعجال لمواجهة اسرائيل ولتترك المواجهة للدولة الكبرى الموعودة!

يقف المفاوض الفلسطيني عاجزا، خاليا من اسباب القوة، فيما الطرف الاسرائيلي تمكن من جذب او تحييد باقي الدول العربية والاسلامية ما عدا ايران. لكن هذه الوقفة ليست جديدة، فلطالما كان الطرف الفلسطيني يفاوض باللحم الحي من دون مساندة من العرب ولا المسلمين. لكن ما استجد هذه المرة هو ان جون كيري اعتبر المفاوضات حملا بشريا لامرأة وحدد الولادة بعد تسعة اشهر، ولم يذكر ما اذا كانت الولادة ستحصل طبيعية ام قيصرية، هذا اذا لم يحصل اجهاض اثناء الحمل، او تتعرض الحامل لمضاعفات تشوه الجنين، فيأتي الخديج مشوها وغير طبيعي يثير العطف والسخط والحنق.

جون كيري يدرك تماما انه خلال الاشهر التسعة يستطيع التباهي امام العالم وامام الكونغرس انه وضع قطار التسوية على سكة المفاوضات، واذا فشلت، فالاتهام محضر مسبقا للجانب الفلسطيني الذي «لا يريد السلام». لكن ما لا يدركه كيري او لا يريد ادراكه هو انه قد تنبثق عن هذه المسرحيات التفاوضية حركة تحرير فلسطينية جدية وحقيقية من رحم المنظمات القائمة بما فيها «فتح» و«حماس» وباقي المنظمات. لا يمكن لاي واقعي سياسي ان يختزل الشعب الفلسطيني بالمفاوضين، فقد بات في هذا الشعب قوة وطنية حية يحسب لها حساب.

تحكم علينا الحسابات الاستراتيجية ان نعتبر ان النزاع العربي ـ الاسرائيلي هو الاساس في المنطقة وبشكل اضيق الفلسطيني الاسرائيلي، وليس النزاع الخليجي الايراني، ولا السني الشيعي. على الاقل فقد رأى ذلك كل من الجنرال بترايوس قائد القيادة الوسطى الاسبق والمدير السابق لوكالة المخابرات المركزية والجنرال جيمس ماتيس القائد السابق للقيادة الوسطى وهما مسؤولان اميركيان رفيعان و ميدانيان ضالعان في شؤون المنطقة.

قد ينجم عن هذه المفاوضات ولادة مشوهة او اجهاض او ولادة قيصرية قاتلة، وقد نشهد معها في فلسطين مخاضات متعددة. في اسرائيل ظهرت فوبيا الديموغرافيا من الفلسطينيين.

تسعة اشهر حددها كيري ستحدث تغييرات عميقة في المنطقة. ليست هذه جرعة تفاؤل بل هي بعض من حسابات جغرافية سياسية وديموغرافية، ومن دروس مستفادة من النجاح والفشل في السياسات الدولية والاقليمية تجاه المنطقة.

المصدر: 
السفير