يروون النكبة كما لو أنها حدثت في الأمس

بقلم: 

 

يواظب عبد المجيد حماد أبو سرور الذي غادر «بيت نتيف» إلى «بيت لحم» خوفاً من القتل، منذ العام 1948، على سرد «التجربة»، حينما تجاوز رائحة الموت وهي تنبعث من الجثث التي كانت ملقاة على الأرض؛ غير أن الرجل الذي ولد في العام 1933 جازف بالتسلل ليلاً إلى دار العائلة لحمل بعض الأغراض، بعد احتلال القرية في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1948، يواظب أيضاً، كلما جرفه الحنين، على تحسس المفتاح..

الفلسطيني أبو سرور المقيم الآن في مخيم عايدة، الذي أقيم على الطرف الشمالي من بيت لحم العام 1950 وحمل اسم امرأة كانت تدير مقهى فوق تلّة بالمنطقة، لا يزال إلى الآن يعلّق مفتاح الدار في بيت نتيف على جدار داخل المنزل بالمخيم، كما لو أن وعداً بالعودة سيتحقق غداً، فيما لم ينسَ الرجل، بالرغم من آفة النسيان التي تستسهل نهش الذاكرات مع مرور الزمن، تفاصيل كثيرة في رحلة اللجوء التي تقاذفته بين بلدات بيت ساحور والخضر ونحالين، قبل أن تحظى العائلة بخيمة صغيرة في «عايدة»؛ كما لم ينسَ تفاصيل الدروب الوعرة التي اكتظت أياماً بخطى الهاربين من الرصاص في «بيت نتيف» وحولها، حيث هناك، قبل 65 عاماً، «عُثر على صُرَر السكان الذين لم يتح لهم الوقت لأخذ أمتعتهم معهم»، في حين «تواصلت الغارات الإسرائيلية خلال الأشهر الفاصلة بين احتلالها وتوقيع معاهدة الهدنة في نيسان/ ابريل 1949 بهدف طرد اللاجئين الذين قدموا إليها من القرى المجاورة»، - بحسب المؤرخ الإسرائيلي «بِني موريس».

قال أبو سرور لـ«ملحق فلسطين» من دون أن يملّ من تأكيد الحنين إلى مسقط الرأس، أنه سيواصل إلى آخر ما تبقى له من عمر سرد الحكاية، «لئلا ينسى الأحفاد...»، مشيراً إلى أن أهالي القرية الذين مكثوا حولها في الجبال ما يزيد على أسبوعين بأمل الرجوع، رأوا بأعينهم منازلهم وهي تُنسَف وتتحوّل إلى ركام، وسحب من غبار، بينما يواصل بعض أحفاده، كما حال كثيرين من اللاجئين في بيت لحم، مكابدة معنى أن تكون لاجئاً، بما في ذلك انتهاكات الاحتلال وارتفاع معدلات الفقر والبطالة (تفيد معطيات وكالة الغوث بأن نسبة البطالة في مخيم عايدة تزيد على 42 في المئة)... وأيضاً، الاكتظاظ في مخيم لا تتعدّى مساحته 63 دونماً، ويضمّ أكثر من 4 آلاف شخص، كما أوضح مدير المخيم إبراهيم عيسى أبو سرور.

لاجئون من 50 مدينة وقرية

في بيت لحم ومحيطها، حيث يتوزع اللاجئون في مخيمات الدهيشة وعايدة وبيت جبرين، إضافة إلى أحياء في المدينة وبلداتها، يعيش الآن، كما قال كاظم أبو خلف من دائرة الإعلام في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا»، ما يزيد على 63224 لاجئاً ولاجئة مسجلين لدى الوكالة (بواقع 16019 أسرة)، وهم ينحدرون من نحو 50 مدينة وبلدة وراء «حدود الهدنة»، بينها بيت جبرين وعجور وزكريا وعلار وخربة العمر والمالحة ودير أبان وعين كارم وبيت نتيف و«راس أبو عمار»، إضافة إلى مدن وقرى في أنحاء مختلفة في فلسطين «ما وراء الحدود»، فيما تشير المعطيات المتوفرة لدى الوكالة إلى أن مخيم الدهيشة الذي أسس العام 1949 وتبلغ مساحته نحو نصف كيلو متر مربع، يضم نحو 14 ألف لاجئ ولاجئة تعود أصول عائلاتهم إلى 45 بلدة غرب منطقتي القدس والخليل، بينما يضم مخيم بيت جبرين الذي أسس العام 1950، وهو المخيم الأصغر في الضفة، نحو 1700 لاجئ ولاجئة كان اقتلع معظمهم من بلدة بيت جبرين ومحيطها غرب الخليل.

في «الدهيشة»، وهو الأكبر في محافظة بيت لحم ويضم نحو 2800 أسرة، قال مدير المخيم مصطفى يونس الصوباني، إن «الغوث الدولية» تدير مركزاً صحياً ومركزاً للعلاج الطبيعي ومركزاً لصحة البيئة و4 مدارس تضمّ 2650 طالباً وطالبة، فيما تشمل خدماتها، تقديم إعانات مالية وغذائية لنحو 380 شخصاً في المخيم مصنفين ضمن حالات العسر الشديد (إعانات توزع كل 3 أشهر وتشمل مواد غذائية أساسية ومبلغاً لا تزيد قيمته على 10 دنانير أردنية لكل شخص)، إلى جانب إدارة برنامج التشغيل الطارئ «المال مقابل العمل»، وهو برنامج مؤقت تنفذه الوكالة بالتعاون مع جهات دولية مانحة بينها الاتحاد الأوروبي ويشمل نحو 70 وظيفة في مؤسسات داخل المخيم، لافتاً إلى أن المخيم يضم 27 مؤسسة فاعلة أنشأها السكان وتقدم خدمات متنوعة في مختلف المجالات، بينها إدارة 6 رياض أطفال.

فقر وبطالة وافتقار للخدمات

عن أبرز المشكلات التي تحاصر حياة اللاجئين في محافظة بيت لحم، أشارت مصادر وكالة الغوث إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، حيث تزيد نسبة المتعطلين عن العمل على 30 في المئة من عدد القادرين على العمل، إضافة إلى مشكلتي الاكتظاظ وتدني مستوى الخدمات في المخيمات الثلاثة، فيما تشرف الوكالة بحسب المصادر- على إدارة ثماني مدارس في المحافظة تضم صفوفاً حتى التاسع وثلاث عيادات صحية ورابعة متنقلة، لافتة في السياق إلى أن عدد اللاجئين المسجلين ضمن حالات «العسر الشديد» في المحافظة بلغ نحو 3914 حالة، بينما وصل عدد المسجلين المستفيدين من برنامج المال مقابل العمل إلى 1775 شخصاً.

في مخيم عايدة، حيث يعيش الثمانيني عبد المجيد أبو سرور الذي لا يزال يتذكر الكثير من تفاصيل الحياة في بيت نتيف وحولها، قال مدير المخيم إبراهيم أبو سرور، وهو المسؤول أيضاً عن إدارة مخيم بيت جبرين المجاور، إن المخيمين حيث تعيش عائلات نحو 1500 طالب وطالبة يتشاركان في مدرسة للذكور، فيما تتلقى البنات حتى الصف التاسع تعليمهن في مدرسة بيت جالا المختلطة التابعة للوكالة. أما فيما يخص طبيعة الخدمات التي تقدمها وكالة الغوث، فقد أوضح أن سكان المخيمين يتلقون الخدمات الصحية من «مركز خمشتا» في منطقة «باب الزقاق» بين مدينتي بيت لحم وبيت جالا، بينما تضمّ قائمة «العسر الشديد» نحو 170 حالة من سكان المخيمين؛ فيما يشغّل برنامج «المال مقابل العمل» نحو 70 شخصاً من الجنسين.

أن تزور «عايدة» بغرض التعرف عن كثب على تفصيلات أكثر في الحياة «غير الرحيمة» التي يعيشها سكانه الذين تعود أصولهم إلى 36 بلدة دمّرتها العصابات المسلحة الصهيونية العام 1948 (ينحدر معظمهم من بيت نتيف والمالحة ودير أبان وراس عمار)، يستقبلك على مدخل المخيم أكبر «مفتاح للعودة» في الضفة، وهو نصب تذكاري يبلغ طوله 10 أمتار ويزن نحو طن من الحديد الصلب كان أنجز العام 2008 بفكرة من رئيس الهيئة الإدارية لمركز الشباب الاجتماعي بالمخيم منذر عميرة الذي تعود أصول عائلته إلى «دير أبان»، حيث لفت الأخير إلى أن إدارة المركز تعكف، هذه الأيام، على إنشاء «متحف النكبة»، وهو متحف كما قال يستهدف عرض نمط الحياة الذي كان سائداً في البلدات الفلسطينية قبل تدميرها وبوسائل مختلفة.

في سياق الإجابات عن أسئلة «ملحق فلسطين» في شأن أبرز المشكلات التي تحاصر الحياة في مخيم عايدة، قال نائب رئيس اللجنة الشعبية بالمخيم سمير عطا، وهي لجنة أهلية تضمّ 7 أعضاء يترأسها عدنان عجارمة تابعة لدائرة شؤون اللاجئين بمنظمة التحرير الفلسطينية، إن المخيم المحاصر بـ«جدار الفصل» من الجهة الشمالية (يبعد الجدار أقلّ من 15 متراً عن كثير من المنازل) يعاني من الاكتظاظ وارتفاع معدلات الفقر والبطالة التي تطال نحو 43 في المئة من السكان القادرين على العمل، وهي مشكلة ترتب عليها أن «أغلب الشبان والفتيات من طلبة الجامعات في المخيم لا تتمكن عائلاتهم من توفير الأقساط الجامعية لهم بانتظام»، إضافة إلى انعدام وجود عيادة صحية داخل المخيم أو أي مرافق أخرى، وتقليص خدمات «الوكالة» في مختلف المجالات، حتى أن لجنة الخدمات الشعبية كما أشار باتت مضطرة في كثير من الأحيان لتوفير ما يلزم المدرسة من قرطاسية أو أعمال صيانة.

اعتداءات الاحتلال

المشكلات الناجمة عن الفقر والبطالة وتدنّي مستوى الخدمات في «عايدة»، ليست هي الوحيدة التي تقضّ مضاجع السكان في المخيم، ذلك أن انتهاكات قوات الاحتلال التي تطالهم على نحو أكثر قسوة منذ بدء الانتفاضة الثانية، طالت بالقتل تسعة شهداء، بينهم الفتى طارق محمود أبو جادو الذي أطلق عليه جنود الاحتلال الرصاص في احتجاجات ضد إقامة «جدار الفصل»، إضافة إلى إصابة واعتقال العشرات، حيث لا يزال نحو 30 شاباً من المخيم رهن الاعتقال، بينهم الشبان خالد داود الأزرق ومحمود جميل أبو سرور وناصر الأمير المحكومين بالسجن المؤبد، فيما لفت سمير عطا إلى أن معظم الاجتياحات للمحافظة التي نفذتها قوات الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية كانت تبدأ، أولاً، بالمخيم، ما أدّى إلى تدمير (جزئي أو كلي) نحو 100 منزل، بينما شملت تدابير القمع التي نفذتها قوات الاحتلال بالتزامن مع «ورشة الجدار» فرض حظر التجول على سكانه لمدة 40 يوماً متواصلة.

يبقى التذكير بأن مشروع «متحف النكبة» الذي يشتغل عليه منذر عميرة وزملاؤه في مخيم عايدة، ينتظر توفير ميزانيات لتأثيثه من متبرعين «من دون شروط مسبقة»، وهو سيستند في الأساس كما قال عميرة - إلى ذاكرة الآباء التي لا يطالها النسيان؛ وهي ذاكرة، كما هي لدى عبد المجيد حماد أبو سرور، مكتظة بتفصيلات النكبة وباتت محمولة في العقل والوجدان لدى الأحفاد، حيث يعيد الأخيرون روايتها (النكبة) كما لو أنها حدثت أمس!

المصدر: 
السفير