السلطة السياسية المقارنة*

يشتمل كتاب "السياسة المقارنة" للباحثين برتراند بادي وغي هيرمت وهو عمل موسوعي وعميق في مجال السياسةالمقارنة على فضيلتين أساسيتين. فهو من جهة، غني بالمواضيع والوقائع السياسية والتاريخية التي يستحضرهابغزارة؛ ومن جهة أخرى ممتع بالنسبة لكل متعطش للمعرفة ومحب لها، لكونه يجمع بين صرامة التحليل الأكاديميوقوة الحجة، ومتعة الإخبار.

وما يثير الانتباه هنا، هو عمق اطلاع المؤلفين ومقاربتهما للشأن السياسي من زوايا متعددة، سوسيولوجيةوأنثروبولوجية وتاريخية واقتصادية وفلسفية وسياسية طبعا؛ مما ساعدهما على تتبع المسار السياسي لبلدان أوروباوأميركا وآسيا وافريقيا والعالم الاسلامي الذي حظي باهتمام خاص، في إطار مقارنة أوضاعه السياسية والاجتماعيةبأوضاع مجتمعات أخرى غير إسلامية وتقييم أنظمته السياسية وأنساقه الثقافية ومقارنتها بغيرها من الأنظمةوالأنساق.

وقد استدعت المتابعة الدقيقة لمسار هذه الأنظمة، انفتاحاً على أبرز القضايا السياسية التي تثير نقاشات حامية بينالمهتمين مثل مسألة الديمقراطية والاستبداد والزبونية والشعبوية والاقتراع العام والاحتجاجات الشعبية بمختلفأصنافها. وهو ما تطلب اعتماد عدة نظرية ومنهجية صارمة والنهل من حقول صارمة والنهل من حقول معرفية عديدةواستثمار بيبليوغرافيا غنية جداً، للإحاطة بتنوّع الممارسات السياسية في مختلف بلدان العالم.

وسنحاول الوقوف على أهم هذه القضايا باختصار شديد، بحسب ما تقتضيه شروط التقديم، ونقترح اتباع الخطوات التالية:
1) حديث عن المنهج المقارن والمشكلات المعرفية والمنهجية التي يثيرها، وهو ما عالجه المؤلفان في القسم الأول من الكتاب.
2) ابراز القضايا التي طبّق فيها هذا المنهج وتحديداً في مجال السلطة السياسية؛ وقد تم ذلك في القسم الثاني.
3) أخيراً، الوقوف على تطبيق المنهج المذكور في مجال التعبير السياسي، ما ورد في القسم الثالث.
هكذا، سيكون هذا العمل بأقسامه الثلاثة وفصوله الثمانية، شاهداً على تنوع الأنظمة السياسية واختلافها، وعلى ديناميتها الخاصة وتعبيراتها وخلفياتها، هكذا، سيكون هذا العمل بأقسامه الثلاثة وفصوله الثمانية، شاهداً على تنوع الأنظمة السياسية واختلافها، وعلى ديناميتها الخاصة وتعبيراتها وخلفياتها مما يؤكد الخاصية التعددية والتاريخية والابداعية للظاهرة السياسية.

1ـ عن المنهج المقارن في المجال السياسي:
تثير السياسة المقارنة اهتمام الباحثين الذين يحدوهم فضول علمي حقيقي لمعرفة القضايا السياسية ومعالجتها. ويعتبر المنهج المقارن بديلاً علمياً عن المنهج التجريبي الذي لا يمكنه الاحاطة بالظاهرة السياسية بوصفها ظاهرة انسانية. فالمقارنة تمتلك على الأقل القدرة على فهم هذه الأخيرة وتأويلها، عبر الكشف عن متغيراتها واختلافاتها وتشابهاتها. وبالنسبة للمؤلفين، فإنها تستجيب لثلاث غايات رئيسية:
تسمح بإحاطة أفضل للخصوصيات الواقعية لكل موضوع سياسي.
تقدّم وسائل الكشف عن الدوافع العميقة لممارسة السلطة، وكذلك لرد فعل المحرومين، سواء كانوا راضين أم ساخطين على الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
تمكّن أخيراً من معالجة وقائع العالم السياسي، كأحداث متغيرة ومتطورة ونسبية. مما يعني أن الحقائق المتعلقة بهذه الوقائع غير نهائية ويمكن اخضاعها للتأويلات المتجددة وإعادة النظر فيها باستمرار. ولما كانت الوقائع السياسية قابلة لكل الاحتمالات، كما هو معلوم، فإن الإحاطة بها ستكون نسبية بامتياز.

بهذا المقتضى، تساعد المقارنة على معرفة الذات والآخر وتسمح بمراجعة الأحكام الجاهزة التي تصدر بحق هذا الأخير، والتي قد تؤدي الى تهميشه أو اقصائه، وفي أحسن الأحوال الى اخضاعه لقواعد ومعايير الذات. وهذا هو حال العديد من الأحكام الغربية حول ثقافات المجتمعات الأخرى وسياساتها، وعلى رأسها المجتمعات العربية والاسلامية، لذلك، يعتبر التحرر من النزعات المركزية، العرقية والفكرية والثقافية، شرطاً أساسياً لإقامة تصورات منفتحة على الآخر، وعلى اختلافه تحديداً. وسنذهب أبعد من ذلك، الى حد القول ان المطلوب هنا هو القيام بنقد مزدوج (للذات وللآخر)، لكي تصبح عمليات التفاهم والتحاور والتعايش ممكنة بين الطرفين.
فمن اللازم الاهتمام بخصوصية الآخر، وعدم اخضاعها لمنظومة المفاهيم والتصورات والمعتقدات الغربية التي تجهل طبيعتها. وفضيلة التحليل المقارن في المجال السياسي، كما يؤكد المؤلفان، هي تفكيك اليقينيات التي اعتمدت التفسير الشمولي والحتمي للظواهر السياسية، ولم تأخذ بعين الاعتبار الاختلافات والتباينات على مستوى الممارسة والتعبئة والوظيفة السياسية، لأن هذه المعطيات جميعها تتسم بطابع تاريخي وثقافي واجتماعي، يضفي النسبية على تجلياتها وبالتالي على كل مقاربة تروم الإحاطة بها.
وترتبط المقارنة بالمنهج النقدي أكثر من ارتباطها بالمنهج الوضعي، لذلك يتعين أن يكون عمل الباحث المقارن متحرراً من كل نزعة دوغمائية ومن ثقل النزعة العرقية، وباختصار من كل معرفة تدعي الشمولية، فالأمر يتعلق بظواهر متغيرة في الزمان والمكان وقابلة لتفسيرات وتأويلات عديدة ومختلفة. وفي هذا الأطار، ستنتقد النزعة الكونية التي أعلنت عن وجود قانون كوني متحكم في مسار التحولات السياسية، حيث اعتبرت مفاهيم مثل الوطن والدولة والديمقراطية والمجتمع المدني والفضاء العمومي والنظام البرلماني والاقتراع العام كونية، مما سيضفي هذا الطابع على الممارسات السياسية أيضاً. ويحيل هذا الاعتقاد على قناعة مفادها ان قيام علم بما هو سياسي مشروط بإخضاع مجموع الوضعيات السياسية للمعايير المتخذة في الغرب، والحال، ان هذه المعايير مقترنة بمسار التاريخ الغربي وفعاليته على مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ليست غربية. وعلى سبيل المثال، فإن نموذج الديمقراطية العقلانية الشرعية الذي صاغه ماكس فيبر (Max Weber) لا يمكن أن يطبق على البيروقراطية الصينية أو الأفريقية أو الاسلامية، نظراً لاختلاف المرجعيات الثقافية والسياسية.

لذلك، ينبغي التخلي عن وهم كونية القاموس الذي صاغه علم السياسة الغربي، للتعبير عن تاريخه الخاص وليس من أجل تعميمه على كل الوقائع السياسية في العالم. فلم يعد من الممكن التسليم بوجود منظور كوني يتحكم في كل المجتمعات، كما كان الشأن بالنسبة لحتمية التطور الاجتماعي والاقتصادي التي دافعت عنها النظريات التطورية، حيث رسمت خطاطه نمطية لمسار المجتمعات غير عابئة بخصوصياتها التاريخية. فإغفال هذه الخصوصيات سيؤدي الى نزعة ماهوية تلغي الاختلافات وترجع كل الممارسات الاجتماعية والسياسية الى نمط ثابت دعاء المؤلفين بالحداثة النمطية (modernité uniforme) القابلة للمماثلة مع النظام الغربي المعاصر. وهنا ستغيب القطائع والأزمات والابتكارات المقترنة بالأنظمة السياسية المغايرة الأنظمة الغرب، بحيث يصبح بناء الدولة الغربية مثلاً، هو النموذج المقترح لفهم عمليات بناء الدولة وتنظيمها في المجتمعات الأخرى.
طبعاً، سيسمح انبثاق سوسيولوجيا تاريخية مهتمة بالشأن السياسي، خلال سبعينيات القرن العشرين، بمراجعة هذه الرؤية المركزية، فقد أكد ممثلو هذه السوسيولوجيا والذين نذكر من بينهم ايمانويل فالرشتاين (Immanuel Wallerstein) وثيدا سكوكبول (Theda Skocpol) وصاموئيل ايزنشتاد (Samuel Eisenstadt) ورينهارد بنديكس (Reinhard Bendix)، عدم اختزال تاريخ المجتمعات التي ليست غربية، في مقولات الحداثة السياسية وذلك لاعتبارين على الأقل:
أولاً،
لأن بناء الدولة في الغرب خضع لخصوصيات تاريخية وثقافية لا يمكن بأية حال أن تنطبق على خصوصيات العالم الاسلامي أو الصين أو جنوب الصحراء الأفريقية.
ثانياً،
لأن المفاهيم التي صيغت لتفسير الفعل السياسي بالغرب قد تأخذ دلالات أخرى خارج الفضاء الغربي. وكما أشرنا الى ذلك من قبل، فإن مفهوم البيروقراطية الذي يبدو متلائماً مع مفهومي العقلانية والشرعية بالنسبة للأوروبي، يقترن لدى الصيني بالقوة لذلك، كان من اللازم ادراج التاريخ لمقارنة الظواهر السياسية وبناء براديغمات جديدة لعلم السياسية، ترتكز على التحليل الثقافي وعلى سوسيولوجيا الفعل وعلى نظرية اللعب الاجتماعي. وفي ذلك استلهام للسوسيولوجيا الفيبيرية، من أجل تأسيس قواعد جديدة لمنظور مقارن يأخذ بعين الاعتبار المعاني المختلفة التي تتضمنها الأفعال الاجتماعية والسياسية. وعلى سبيل المثال، فإن دور المتغيّر الديني في الحياة الاجتماعية والسياسية لا يأخذ المعنى نفسه في الثقافة الاسلامية أو المسيحية الكاثوليكية أو البروتستانتية) أو الهندوسية. وهو ما أكده تحليل الأنظمة السياسية التي اختلفت ديناميتها باختلاف أنساقها الثقافية.
2ـ تحليل السلطة السياسية ومقارنة أنظمتها

يتعلق الأمر هنا بتطبيق المنهج المقارن على ما دعاه المؤلفان بالدينامية الغربية والديناميات التي ليست غريبة، مع الاقرار بالاختلافات القائمة بين هذه وتلك، على مستوى التنظيم السياسي وعلاقة الحاكمين بالمحكومين وتشكل الكيانات السياسية واقترانها بالأنساق الثقافية والاجتماعية القائمة. وقد استدعى هذا الأمر توظيف مفاهيم اجرائية هامة، مثل الالزام السياسي والابتكار والاستيراد الاستبداد والشعبوية والانتقال الديمقراطي، مع إغناء التحليل بأمثلة غزيرة من البلدان الأوروبية ومن أميركا الشمالية بخصوص الدينامية الأولى، ومن الأنظمة الصينية والهندية والروسية والاسلامية والأميركية اللاتينية وحتى الأفريقية بالنسبة للديناميات الثانية.
هكذا، سيتم التأكيد على ضرورة التمييز بين ما هو غربي وما هو خارج الغرب، مع الدعوة الى عدم السقوط في نزعة مركزية تثمّن تفوق الدينامية الغربية على غيرها من الديناميات، لأن هذه الأخيرة تتسم بالغنى والابتكار رغم استيرادها لعناصر النظام السياسي الغربي.
ومن هذا المنظور، اقرّ المؤلفان بأن المقارنة تسعى الى ابراز الاختلافات بين الأنظمة السياسية، سواء على مستوى التصورات التي تم بناؤها بخصوص الشأن السياسي عموماً أو على مستوى الممارسة السياسية ذاتها.
فالمقارنة تروم الإبانة بأن السلطة والمشروعية والسيادة، لا تعني الشيء نفسه في كل مكان، فهي تبدو هنا وهناك بأشكال مختلفة، بل متناقضة أحياناً.
ولإبراز هذه الاختلافات، اختار المؤلفان ثلاثة مستويات للتحليل وهي: الإلزام السياسي الذي يؤسس العلاقات بين الحاكمين والمحكومين بشكل رمزي، والتنظيم السياسي الذي يحدد أبنية السلطة؛ والديناميات المهددة لاستقرار الأوضاع والهادفة الى اعادة النظر في علاقات السلطة.

وشكلت الدينامية الاسلامية على وجه الخصوص، نموذجاً هاماً للمقارنة، سواء مع النموذج الغربي، أو مع النماذج الصينية والهندية والروسية. وفي هذا الإطار، ثم استدعاء التاريخ السياسي والثقافي والديني، الى جانب المعالجة السوسيولوجية للأحداث السياسية المعاصرة في العالم الاسلامي، من شرقه الى غربه، لإبراز التفاعلات السياسية وأشكال ممارسة السلطة في الماضي والحاضر وأهمية المتغير الديني أساساً، في تحديد العلاقة وتنظيمها بين الحاكمين والمحكومين، منذ قيام الامبراطوريات الاسلامية الى نشأة الدول الحديثة، أي من الأحكام السلطانية ودور الفقهاء أو "العلماء" الى ولاية الفقيه ودور الجماعة الدينية (جماعة الاخوان المسلمين مثلاً). فقد ظلت المرجعية الدينية محوراً أساسياً في النقاش السياسي، لأنها اقترنت بقضية مصيرية بالنسبة للنظام السياسي أو بالنسبة للمعارضة السياسية، ألا وهي الشرعية.

وبهذا الخصوص، استنتج المؤلفان أن شرعية بعض الأنظمة العربية الحديثة التي استندت في ترسيخها الى حجج وظيفية، مثل الانجازات الاقتصادية والاجتماعية التحديثية والدفاع عن الأمن وعن القضايا القومية (الحروب العربية الاسرائيلية) والاحالة على الدستور أو مواجهة القوى الامبريالية... الخ. لم تلغ تماماً المرجعية الدينية كعنصر ضروري لإضفاء الشرعية على النظام القائم، حيث لم تحظَ السلطة المتمركزة في مثل تلك الدول على أسس "علمانية"، سوى بقبول هشّ، مما جعل النظام القائم على هكذا أسس عرضة لشبهة التأثير الأجنبي المتناقض مع صيغ الشرعنة المنبثقة من الاسلام. لذلك، فإن كل مسعى لإقامة شرعية سياسية، لن يكون ممكناً في الواقع ما لم تتوافق مرجعيته مع المرجعية الدينية كصيغة رمزية تعزز واقع السلطة القائمة.

وهنا تطرح مشكلة استيراد الأنظمة السياسية الغربية العلمانية واقتباسها، بأجهزتها التحديثية المعروفة، من أحزاب ونقابات وبيروقراطية وانتخابات، ومدى ملاءمة هذه العملية لأنماط الشرعنة في المجتمعات التي ليست غربية، ومن ضمنها العالم العربي والاسلامي.

وتبرز وجاهة هذه المشكلة بالنظر الى اعتبارين أساسيين نجملهما في ما يلي:
أولاً، واجهت الأنظمة السياسية في العالم العربي والاسلامي في القرن التاسع عشر على وجه الخصوص، رهان التحديث على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والادارية. وبذلك تطلب الحفاظ على السلطة القائمة، تدعيماً بموارد عادية ورمزية مستعارة من الغرب. وهو ما تمثل في عمليات الاصلاح الأولى التي تمت في الامبراطورية العثمانية أو الفارسية أو في مصر محمد علي وتونس أحمد باي ومغرب الحسن الأول، وتجسدت بالأساس في استيراد التقنيات العسكرية والمؤسسات المدنية والبيروقراطية الادارية ونظام التربية. غير أن بروز المقاومة من الداخل، خصوصاً من طرف الأوساط التقليدية، سيدفع الحكام الى اتباع استراتيجية انتقائية في التعامل مع التقنيات المستوردة، خصوصاً في المجالين العسكري والسياسي.
ثانياً، منح مشروع الاستيراد دوراً رئيسياً للأقليات العرقية والدينية والثقافية، لأنه ارتكز من جهة على مفهوم التعددية الذي يناهض كل نزعة إقصائية أو استئصالية، ومن جهة أخرى، على مفهوم جديد للوطن تتعايش فيه مجتمعات متنوعة ثقافياً وعرقياً ولسانياً ودينياً، يتعين أخذ متطلباتها وحاجياتها بعين الاعتبار. وعلى سبيل المثال، كان المسيحيون المصريون واللبنانيون والسوريون بمثابة الرعاة المتميزين للنماذج السياسية والمؤسساتية والأيديولوجية القادمة من الغرب، حيث عملوا على نشرها من طريق الشبكات الجَمعوية والأكاديمية.
وتعتبر عملية استيراد النموذج البيروقراطي الغربي، من القضايا المهمة التي توقف عندها التحليل المقارن. فقد أدت الطفرة المالية الكبيرة التي تحققت في البلدان المنتجة للبترول، في سبعينيات القرن العشرين، الى توظيف مكثف للأطر، خصوصاً من بين الفئات المتمدنة حديثاً أو من بين الكفاءات المهاجرة من أقطار أخرى. وتختلف مثل هذه الممارسة عن عملية البناء البيروقراطي التي حدثت بالغرب والتي تتميز بصرامة انتقائية وبتحديد دقيق للأدوار البيروقراطية، وفق منطق تقسيم العمل. هكذا، سيؤدي التضخم البيروقراطي بالبلدان المذكورة الى منح الدور نفسه لمجموعة من الأفراد، مما سيثير النزعات بينهم بشأن التكليفات والمهام التي يتعين القيام بها. كما ان الازياد غير المراقب لعدد الموظفين، سيؤدي الى تدني التعويضات المقدمة للعملاء، وبالتالي الى استياء خفي والى تدني التعويضات المقدمة للعملاء، وبالتالي الى استياء خفي والى استعداد أكبر لتلقي الرشوة أو للقيام بأعمال أخرى جانبية للزيادة في المداخيل.
وفي ارتباط مع هذه المسألة، توقف المؤلفان عند البيروقراطية العسكرية ذات الصلة بالنظام الإرثي الجديد والمتجلية على وجه الخصوص في أميركا اللاتينية، عبر ظاهرة الشعبوية (Populisme).

فمن خلال المقارنة بين الأنظمة الاستبدادية الغربية، الممتدة من النظام البونبارتي الى النظام الديكتاتوري في اسبانيا فرانكو وبرتغال سلازار، وبين الأنظمة الاستبدادية في أميركا اللاتينية، ستحلل ظاهرة مثيرة وتكتسي حضوراً قوياً في الممارسات السياسية الحالية (شرقاً وغرباً)، وهي الشعبوية.
ويتعلق الأمر بخطاب معتمد من طرف الأنظمة الاستبدادية الحاكمة ومن طرف العديد من الأحزاب السياسية، حيث يتم من خلاله تمجيد الشعب والدعوة الى ايلائه الدور الأساسي والريادة في العملية السياسية.

هكذا، وبعد عرض مسهب لنموذج "الزعيم" الشعبوي الذي يؤكد أولوية الارادة الشعبية ويعبئ الجماهير للقيام بتظاهرات مؤيدة لسياسته "الشعبية والجماهيرية"، ضد الامبريالية الخارجية والرجعية الداخلية، سيقوم المؤلفان بوضع مقارنة طريفة بين شعبوية جنرالات أميركا اللاتينية وشعبوية الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، حيث أكدا أن ملامح عديدة للنظام الناصري، هي مستعارة من الشعبوية المكسيكية على وجه الخصوص، وإن كان النظام المذكور قد احتفظ بطبيعته العسكرية وبكاريزما "الرئيس". ولم يتجلّ هذا الوضع خلال فترة حكم جمال عبد الناصر فقط، بل امتد أيضاً الى فترة حكم السادات رغم ما طبع الفترتين من اختلافات على مستوى تدبير الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وفي جميع الأحوال، تسعى الأنظمة الشعبوية بمختلف مظاهرها، العسكرية أو الثورية أوالمحافظة الى تحقيق التوازن الاجتماعي، وتوظف لهذه الغاية كل الوسائل الدعائية والأجهزة المتوفرة لديها، من أحزاب ونقابات وجمعيات، لتمرير خطابها وتكريس سلطتها.

ولما كانت خاصية كل نظام سياسي هي التطور والتبدل، فإن الدينامية السياسية تقتضي زوال أنظمة وانبثاق أخرى. ولعل ما يلاحظ في المشهد السياسي العالمي الحالي، في أوروبا وخارجها هو تطور أشكال الأنظمة باتجاه الديمقراطية، خصوصاً بعد سنة 1989 وسقوط جدار برلين الذي دشّن مرحلة الديمقراطية الكونية، وهي المرحلة التي واكبت عملية الانتقال الديمقراطي، خصوصاً داخل ما يعرف ببلدان الجنوب وبشرق أوروبا.

ويشير تعبير الانتقال الديمقراطي، الى المرحلة الزمنية التي تفصل بين انهيار النظام الاستبدادي، وإقامة نظام ديمقراطي بمؤسساته التشريعية والقضائية المستقلة، وبتعدديته الحزبية ومشاركة المواطنين في تدبير شؤونهم، في اطار الحرية والمسؤولية.
وتجدر الاشارة الى أنه لا شيء يضمن لنا أن كل انتقال نحو الديمقراطية يتم بشكل ديمقراطي، كما لا يضمن نهاية سعيدة لعملية الانتقال، لأنه من الممكن ألا تفضي هذه العملية الى ديمقراطية حقيقية. وكيفما كان الحال، هناك مخاضات عسيرة يواجهها المجتمع للعبور من مرحلة الاستبداد الى مرحلة الديمقراطية، وما نتابعه حالياً في بلدان كمصر وتونس وليبيا، على سبيل المثال لا الحصر، يشهد على أن عملية الانتقال السياسي نحو الديمقراطية، تتطلب تضحيات كبيرة والا ستظل "معلّقة" مدة طويلة، وقد ينتج من ذلك، تراجع عن بعض المكتسبات الديمقراطية وعجز عن مواجهة إرث النظام الاستبدادي الذي تمت الاطاحة به.
وهو ما يستدعي الوقوف على التعبيرات السياسية المتنوعة، داخل النظامين، الاستبدادي والديمقراطي والمقارنة بينهما. وهذا هو موضوع القسم الثالث والأخير.

3ـ أشكال التعبير السياسي المؤسساتي
ارتبط التعبير السياسي المؤسساتي بميلاد الجمعيات والهيئات المعبرة عن مصالح الأفراد وبتشكل الأحزاب السياسي؛ وقد تم ذلك في المجتمعات الغربية، عند نهاية القرن الثامن عشر وخلال القرن التاسع عشر، حيث برزت ظاهرة النوادي المواكبة للحراك الجماهيري الذي ولّدته الثورة الفرنسية، وتشكلت الشبكة الجمعوية لانجاز وظيفة مزدوجة وهي الادماج والصراع: ادماج الفرد المواطن داخل نسيج الدولة الحديث وانخراطه في عملية الصراع الاجتماعي المرتبط بتناقض المصالح الاجتماعية، والصراع السياسي الناجم عن تقدم المنافسة من أجل السلطة.
هكذا، تشكلت التقاليد والممارسات السياسية المقترنة بالمؤسسات الجمعَوية والحزبية، واصبح الانخراط فيها تعبيراً عن قناعات الأفراد واختياراتهم وبذلك ظهرت مقولة "الانسان الانتخابي" (homo electoralis) الذي يمتلك استقلالية القرار وتفرده. وأدى تغلغل الفردانية، على مستوى الممارسة السياسية، داخل المجتمعات الغربية الليبرالية، الى مماثلة العمل السياسي بالتعاملات في السوق التجارية، حيث تم اضفاء صفة "المقاولة السياسية" على الأحزاب و"العرض" على برامجها و"الطلب" على انتظارات الجماهير المنخرطة فيها. غير أن مثل هذه الظواهر المتجلية بفضاء سياسي منفتح، لم تمنع من بروز ما دعاه المؤلفان بـ"التعبير السياسي المراقب" داخل الغرب وفي المجتمعات الأخرى أيضاً.
ويتعلق الأمر بوضعيات يكون فيها هذا التعبير مراقباً، بشكل يجعله متوافقاً مع مقاصد الحاكمين الذين وإن كانوا غير مناهضين لتعددية الآراء والمواقف، إلا أنهم لا يسمحون لها بزعزعة الأسس التي ترتكز عليها سلطتهم.

فعلى الرغم من بروز مؤسسات تمثيلية (مثل البرلمانات أو مجالس الشعب) ووجود الجمعيات والأحزاب، إلا أن هذا الوجود يظل مرهوناً بمدى قابلية المؤسسات المذكورة للاحتواء من طرف النظام السياسي القائم. ومن الممكن أن تحظى المعارضة السياسية بالشرعية، لكن شريطة ألا تناهض سياسة النظام، وبهذا المعنى ستكون مجرد معارضة شكلية. طبعاً، يجب التمييز هنا بين الأنظمة الاستبدادية التي تسمح بهذه الممارسات "الليبرالية" رغم محدوديتها، والأنظمة الكليانية التي تحتكر السلطة والأيديولوجيا وترتكز على الحزب الواحد المتماهي مع الدولة، بحيث يُخضع هيئاتها الادارية والتشريعية والعسكرية لتوجهاته، باعتبارها أدوات للسيطرة الشاملة على الأفراد والجماعات، كما كان الشأن بالنسبة للنازية والستالينية وكما هو الأمر بالنسبة لنظام كوريا الشمالية حالياً.

بهذا الصدد، سيعتبر المؤلفان أن مراقبة التعبير السياسي داخل الأنظمة الاستبدادية ليس مطلقاً، ولا يمكنه أن يمنع المقاومات والاحتجاجات الجَماعية التي تتجلى عبر الاضطرابات والانتفاضات وحتى الثورات. فهذه الأشكال الاحتجاجية تثير حفيظة الأنظمة المذكورة، لكونها تنعش التضامنات الجماعية ضد عوامل القمع والاضطهاد والزبونية والفساد بشكل عام. وغالباً ما تندلع في الوسط الحضري وداخل مجتمعات عرفت حركة تمدن واسعة وسريعة، كما هو الشأن في بلدان المغرب الكبير أو مصر أو ايران. هذا مع العلم ان الجماهير المشاركة في العمليات الاحتجاجية، تشمل المهاجر القروي المحروم من الوسائل التي تسمح له بالاندماج في النسيج الحضري، وأيضاً الفرد المنتمي الى هذا الوسط لكنه يشعر بالاحباط بسبب عدم حصوله على عمل، أو لأنه امكانياته لا تسمح له بالاستفادة من الحياة الحضرية. ونظرا لتنافر مكونات هذه الجماهير، فإنه سيكون من الصعب على التنظيمات المؤسساتية، الحائزة برامج ايديولوجية محددة (كالأحزاب والنقابات)، ضبطها وتوجيهها.

ان هذه الاطلالة السريعة على مضامين هذا الكتاب، تبرز عمق تحليل المؤلفين وغزارة اطلاعهما، ويكتسي هذا الأمر أهمية خاصة بالنسبة للقارئ العربي، لأنه سيفيده من جهة، في فهم سيرورة العملية السياسية وتنوعها، ومن جهة أخرى، في قراءة التحولات السياسية التي تعرفها منطقتنا، في زمن "الربيع العربي". ذلك أن قضايا الاستبداد والتعددية والحركات الاجتماعية والانتقال الديمقراطي.. الخ، تعتبر مرجعاً أساسياً بالنسبة لمن يريد أن يعرف ما يجري في مشهدنا السياسي هنا والآن.

 

* مقدمة كتاب "السياسة المقارنة" للباحثين برتراند بادي وغي هيرمت، ترجمة: عز الدين الخطابي  والصادر عن"المنظمة العربية للترجمة".

معد الدراسة: 
عز الدين الخطابي