المفاوضات بين التمني والواقع

بقلم: 

 

يرى البعض أن ثمة فرصة حقيقية لتحقيق تقدم في المفاوضات الفلسطينية في هذه الجولة – وهي الأولى منذ ثلاث سنوات، وذلك لأن الإدارة الأميركية الحالية جادة كل الجدية في تحقيق مثل ذلك التقدم بالنظر إلى الموقف الإقليمي المضطرب الذي أخفقت تلك الإدارة في حل أي من مشاكله، وآخرها المشكلة المصرية، الأمر الذى يهدد بتراجع النفوذ الأميركى في المنطقة، ولذلك اختارت الإدارة الأميركية مشكلة تعتقد أنه من الممكن أن تحقق فيها تقدماًَ سواء بالنظر إلى علاقتها الحميمة بإسرائيل أو لهشاشة السلطة الفلسطينية فى مواجهة الضغوط الأميركية، وقد يكون هذا التحليل سليماً، لكن الأمر الجدير بالإشارة إلى أن طبيعة هذا الموقف ليست جديدة بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية، وأن إدارات أميركية عديدة سابقة قد بذلت جهوداً مستميتة لإحداث اختراق في المشكلة الفلسطينية دون جدوى، ولذلك فإن هذا العامل غير كافٍ لإحداث الاختراق المطلوب.

لكن هذا البعض يرى أن ذلك العامل الأميركي ليس وحده في تفسير إمكان حدوث تقدم هذه المرة في المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، فإسرائيل بدورها تتعرض لضغوط دولية قد تجعل مشاركتها في المفاوضات ذات فائدة في تخفيف هذه الضغوط، فقد قرر الاتحاد الأوروبي مؤخراً إجبار المؤسسات الإسرائيلية التى تتعاون معه كي تستفيد من أي تمويل منه على أن تؤكد أنها ليست لها أي علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالأراضى الفلسطينية المحتلة فى الضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان، ويمنع القرار تقديم أي تمويل أو مساعدات أبحاث لأي شخص يقيم فى المستوطنات الإسرائيلية، كذلك قرر الاتحاد أن يطلب من أعضائه اتباع معايير نمطية من أجل تغيير منتجات الأراضي المحتلة ووضع ملصقات يتفق عليها على هذه المنتجات لتنبيه المشتري إلى أن مصدرها أراضي تحتلها إسرائيل انتهاكاً للقانون الدولي، بل إن هذه المواقف امتدت إلى الولايات المتحدة حليفة إسرائيل الأولى، فثمة حملة تستهدف الشركات الأميركية المتعاونة مع إسرائيل لحملها على مقاطعة أي منتج ينتج في الأراضي المحتلة وكذلك حملها على عدم الاستثمار في أي شركة إسرائيلية يمتد نشاطها ليشمل تلك الأراضي. ومن الواضح من جميع الأمثلة السابقة أن الغرض منها هو التعبير عن مواقف أكثر تقدماً ضد الاستيطان الإسرائيلي مع فارق مهم هو أن المواقف الأوروبية رسمية والأميركية ليست كذلك، كما شملت الضغوط التى تعرضت لها إسرائيل ضغوطاً داخلية تمثل أهمها في مواقف عديدة من الرؤساء السابقين لجهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلية أكدت أن إسرائيل ينتظرها مستقبل مظلم إنْ استمرت على سياستها الحالية، ويكفي أن نشير هنا إلى تطور الميزان الديموغرافي لصالح عرب إسرائيل عبر الزمن.

أما السلطة الفلسطينية فصحيح أنها تتحدث عن حق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، لكن الرئيس عباس قبل دخول المفاوضات لأغراض أخرى قد تكون هي الأهم آنياً، ومنها تجنب الضغوط الأميركية وتحقيقاً لإطلاق سراح الأسرى الذين تعتقلهم إسرائيل منذ ما قبل إتفاقية أوسلو 1993 والذين أفرجت عنهم السلطات الإسرائيلية مقابل دخول الجانب الفلسطيني المفاوضات كنوع من إجراءات بناء الثقة، وإعادة الحياة إلى الاقتصاد الفلسطيني المتردي. والملاحظ على كل العوامل السابقة دولياً وإقليمياً ومحلياً أنها تكاد ألا تكون ذات صلة بتسوية القضية الفلسطينية، فالولايات المتحدة تريد أن تستعيد نفوذها في المنطقة، وموقف الاتحاد الأوروبي من قضية الاستيطان رغم إيجابيته هو مجرد موقف من قضية جزئية على أهميتها وليس من التسوية ككل، وإسرائيل تريد أن تتفادى الضغوط الدولية وربما الداخلية. من ناحية ثانية من المحبط أنه لا توجد دولة عربية واحدة ذات صلة بما يجري – ناهيك عن التأثير – وهو ما يعكس الوضع العربي الحالي.

وكما توجد عوامل محفزة للمفاوضات، فإن العقبات المعروفة حاضرة لإحباطها فى أي أزمة تواجهها، فليس متصوراً أن يحدث خلاف حقيقى بين الإدارة الأميركية وإسرائيل بالنظر إلى النفوذ الصهيوني فى السياسة الأميركية، والاتحاد الأوروبي في وجود الولايات المتحدة لا يملك قدرة حقيقية على ضغط يمكن أن يحدث اختراقاً في عملية التسوية، واليمين الإسرائيلي المتشدد، وعلى رأسه رئيس الوزراء الإسرائيلى يقف بالمرصاد لأي تنازل حقيقي يمكن أن يدفع العملية التفاوضية، وليس نتنياهو وحده في هذا الصدد وإنما الأحزاب اليمينية المتشددة الأخرى. ويظهر التصويت على إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من قبل الحكومة الإسرائيلية مدى صعوبة التوصل إلى إنجاز ذى شأن في المفاوضات، وقد صنفت تسيبى ليفني وزراء الحكومة الإسرائيلية إلى وزراء لا يريدون التوصل إلى اتفاق ويرفضون فكرة الدولتين ووزراء لا يعتبرون أن المسألة ذات أولوية أصلاً، وأخيراً وزراء اليمين المتشدد الذين سبقت الإشارة إلى مواقفهم، وربما كان العامل الإيجابي الوحيد أن استطلاعاً للرأي أجرى منذ حوالي أسبوعين أظهر أن 55 في المئة من الإسرائيليين يدعمون اتفاق سلام يتوصل إليه نتنياهو مقابل اعتراض 25 في المئة، وهو ما يعني أن الحكومة الإسرائيلية تستطيع أن تعول فيما قد تتوصل إليه على تأييد لا بأس به من قبل الرأي العام. أما السلطة الفلسطينية. فتواجه كالعادة اعتراض الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حماس، كما أن الرأى العام لديها لا يبدي أي ثقة في إمكان نجاح المفاوضات بسبب خبرة 20 عاماً من الفشل، وكما عبر عن هذا أحد الشباب الفلسطينيين "لو بدها تمطر كانت غيمت".

ألا يوجد إذن أي جديد إيجابي في هذه المفاوضات؟ يرى البعض أن الحديث الصريح عن تناول جميع قضايا الصراع بما في ذلك أكثرها حساسية كحق العودة والقدس هو في حد ذاته شيء إيجابي، وقد يكون هذا صحيحاً غير أن الأهم من بحث هذه القضايا هو ما يتم التوصل إليه بشأنه، كما أن البعض الآخر يتفاءل كثيراً بتحديد تسعة شهور لإنجاز اتفاق نهائي، بينما هو أمر لا يعني أي شيء إذ تظهر خبرة عشرين عاماً من التفاوض أن تحديد آفاق زمنية للانتهاء من المفاوضات لا يعني على الإطلاق أنها ستصل إلى غايتها في إطار هذه الآفاق، وقد حددت اتفاقية كامب ديفيد 1978 خمس سنوات أمداً للمرحلة الانتقالية يعقبها التوصل إلى اتفاق نهائي ولم يحدث شيء، وكذلك فعلت اتفاقية أوسلو 1993 ولم يحدث أيضاً أي شيء، وحدد جورج بوش الابن ثلاث سنوات لتنفيذ خريطة الطريق التىي تنتهي بدولة فلسطينية وكان المآل واحداً، وحاول فى نهاية ولايته أن يجعلها تشهد ميلاد الدولة الفلسطينية ولم ينجح، وها هو باراك أوباما يدخل سباق الآماد الزمنية، ومن المؤكد أن الفشل سيكون مصيره، فالصراع أكثر تعقيداً من الآماد الزمنية المتعجلة، ومن الطريف أن مارتن إنديك الذى كان سفيراً فى إسرائيل مرتين وعين الآن موفداً خاصاً لمفاوضات السلام صرح بأنه "مقتنع منذ أربعين عاماً بأن السلام ممكن" والعبارة تلخص ببلاغة كل ما سبق. يتمنى المرء دون شك للمفاوضات أن تنجح، لكن هذا التمني لابد وأن يوضع في سياق الخبرة الماضية والواقع المعقد.

 

 

المصدر: 
الاتحاد