"أبو أمل" أسطورة تل الزعتر

بقلم: 

في أحد أحياء مدينة صيدا اللبنانية، داخل بناء قديم، تقبع شقة صغيرة في الطابق السابع تحتضن عائلة المناضل الفلسطيني، محمد عبد الكريم الخطيب، المعروف بـ"أبو أمل"، الذي شغل منصب عضو اللجنة المركزية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقائد القطاع الشرقي من منطقة بيروت، الذي كان يضم النبعة وتل الزعتر خلال السبعينيات. لم يبقَ في ذاكرة أولاده ورفاقه إلا سيرة بطولته وصموده الأسطوري أثناء حصار مخيم "تل الزعتر"، وإصراره على البقاء فيه حتى اللحظة الأخيرة دون أن يستسلم. عاش فقيراً، نظيف اليد والقلب ومات فقيراً. لم يترك لعائلته إلا إرثاً معنوياً، تتذكره كلما ضاق بها هذا العالم.

أمام باب الشقة، انتظرنا بعض الوقت حتى جاءت إحدى بناته لاستقبالنا وأرشدتنا للدخول إلى غرفة صغيرة قرب الباب، تحوي صوفا قديمة ممدة عليها امرأة سبعينية هي زوجة "أبو أمل"، التي ربت ثمانية أطفال (ست بنات وولدين). وفي الجهة الأخرى من الغرفة، مسند سرير مغطى بفرشة يستخدم للنوم واستقبال الضيوف، تواجهه "فاترينا" صغيرة على الحائط المقابل، تحتوي على تلفاز وبعض الكوؤس والصحون.

في هذه الشقة وبعد سنوات من التشرد بعد خروجهم من تل الزعتر وهدمه، استقرت الأم وابنتها ماجدة الخمسينية وابنها الآخر ثائر وزوجته وأولادهما الأربعة. أخيراً انضمت إليهم ابنة أبو أمل الثانية، وتدعى "اعتدال"، وهي أرملة وأم لستة أولاد، نزحت من سوريا جراء قصف منزلها في مخيم الحسينية في دمشق. الجميع يقطن في تلك الشقة، حيث يفترشون الأرض يومياً لتتسع لهم.

كان المشهد مؤلماً جداً، يختصر الحال الفلسطيني ككل. مصير عائلة لاجئة، ناضلت في الثورة واستشهد معيلها الأول، قبل أن تضاف إلى سجلات عدد من أفرادها كلمة "نازح" إلى جوار صفة  "لاجئ".   

كان من الصعب التواصل مع الأم واسترجاع ما في ذاكرتها عن أبو أمل، بعدما فقدت بصرها وسمعها، فحلت مكانها ابنتهما "ماجدة" التي تعاني من شلل دائم في إحدى ساقيها وكسر في الساق الأخرى. وقد أتت زحفاً على الأرض من الغرفة المجاورة بابتسامة عريضة لترانا، وتروي ذكرياتها القليلة عن والدها الذي اسُتشهد في "تل الزعتر" وهو في عمر السادسة والأربعين.

"أبو أمل" ولد في قرية فراضة / قضاء صفد سنة 1933، عانى ويلات النكبة. قاسى، على غرار جميع الفلسطينيين، مأساة التشرد حين لجأت عائلته إلى لبنان. لم تساعده الظروف للحصول على تحصيل علمي جيد، فعمل في بداية حياته كمستخدم في محطة بنزين بعد النكبة. سرعان ما انخرط بعدها في النضال الوطني وانضم في بداياته إلى حركة القوميين العرب خلال الخمسينيات، حيث بدأ بتثقيف نفسه وتطوير مداركه السياسية. تنقل بين مختلف المنظمات الكشفية والنقابية للحركة وبرز بين كوادرها لشدة التزامه وحماسه، ثم التحق بجهازها المقاتل "شباب الثأر". وكان واحداً من النواة الأولى التي تشكلت بقيادة المناضل "رفيق عساف"، الذي أتاح له أولى زياراته للجليل في العام 1965.

بالرغم من سرية المقاومة آنذاك، إلا أن أمره انكشف مرات عدة ودخل المعتقلات اللبنانية مراراً دون أن يتراجع. كان مصمماً على ثبات المقاومة ونجاحها حتى اكتسبت الصفة العلنية بعد العام 1969.

التحق بعد ذلك بكوادر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتحمل مسؤولية القوات الخاصة، وقاد العديد من العمليات العسكرية في الجليل الأعلى. في العام 1970 كان ينظم المجموعات الاستطلاعية في مخيم "عين الحلوة" ويخرج بها للجنوب ومن ثم نحو الجليل. تتذكر ابنته "ماجدة" عن تلك الفترة بأن والدها لم يكن يقضي وقتاً طويلاً معهم في منزلهم في تل الزعتر، كان يقضي معظم وقته في الجنوب ولا يرونه إلا في زيارات خاطفة. لا تزال تذكر عنه أيضاً رغبته الشديدة في تعليمهم، ولا سيما البنات. فقد جهد طويلاً حتى تمكن من إرسال إحدى أخواتها إلى سوريا لتدرس البكالوريا هناك، لشدة إصراره على تعليمهن. أما هي، فبالرغم من ظروفهم المالية الصعبة، أرسلها إلى مدرسة لبنانية، غير مدارس الأنروا لتسهيل ظروف دراستها، كونها تعاني من شلل أطفال بإحدى ساقيها.

في حصار تل الزعتر الذي امتد لشهور، تسلم "أبو أمل" المسؤولية الأولى عن صموده. رفض تأمين عائلته إلى خارج المخيم، في الوقت الذي كان يطالب فيه أبناء المخيم بالصمود. واستمر على موقفه هذا خلال أشهر الحصار كلها، حتى حادثة استشهاد ابنته "سهيلة" ذات الثمانية عشر عاماً، التي لم تكن تفارقه وكانت تتطوع في العمل الطبي لمساعدة جرحى المخيم قبل أن تموت قنصاً على يد أحد عناصر قوات الكتائب.

وبعد إصابته البليغة الثانية واستشهاد ابنه البكر أيضاً، تقول ابنته  ماجدة بأنه وافق، أمام إصرار والدتها، على تأمين خروجهم مع عائلات أخرى خارج المخيم. أما هو فبقي مع المقاتلين. لا يزال يتردد في ذاكرة ابنته صوت أحد عناصر الكتائب عبر الميكرفونات، أثناء خروجهم من المخيم، وهو يصيح: "سلموا أبو أمل... يسلم المخيم ...". يومها أدركت بأنها لن ترى والدها مرة ثانية.

بقي "أبو أمل" مصاباً ورفض الخروج حتى للمداوة والعودة وقاتل مع الشباب حتى اللحظة الأخيرة. كانت الكتائب مصممة على الوصول إليه، حياً أو ميتاً، لحقدها الشديد إزاء الصمود البطولي الذي واجهها به أثناء حصار قواتها للمخيم

كان ممدداً في سريره ينزف، حين سقوط المخيم ودخول قوات الكتائب باحثة عنه. وأثناء اقتحام غرفته، بادرهم بإطلاق النار فقتل ثلاثة منهم قبل أن يسلم الروح أمام رصاصهم.  

لم نجد لدى العائلة صورة له، إلا واحدة كبيرة قديمة مرسومة، تتصدر وسط الحائط في الغرفة التي جلسنا فيها. تقول ابنته: "إنه نتيجة التهجير المستمر الذي عانوه من مكان إلى آخر، لم يتبق لديهم إلا صورة وحيدة لوالدها، كانت معلقة ضمن برواز في بيتهم في حي فرحات بالغبيري بعد دمار تل الزعتر. وأثناء حرب المخيمات، اقتحمت حركة "أمل" منزلهم، وأطلقت النار على الصورة حتى تمزقت إلى قطع، وقد قام أحد أصدقائهم بترميمها ورسمها للاحتفاظ بها".

يتذكر رفاق "أبو أمل" حضوره الهادئ وسحر شخصيته التي تشكل مزيجاً من الصفات المثلى للقائد؛ حيث كان يتمتع بحس مرهف ونفس طويل في معالجة القضايا الكبيرة، ولم يغادره التفاؤل أبداً. تقول ابنته إنه رغم المعاناة الشديدة أثناء حصار المخيم، والويلات التي شهدوها، لم يشعروا حينها لا بالخوف ولا بالضعف لوجود والدها بجانبهم، من دون أن يظهر أمامهم ولو لمرة واحدة إحساسه بالضعف أو العجز

"أبو أمل" كان عضو لجنة مركزية وقائداً عسكرياً، عائلته تعاني العوز والحاجة وبعض أفرادها يعاني من أمراض مستديمة. للأسف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين نسيت على ما يبدو أن تهتم بعائلة هذا الشهيد القائد، وتاريخها كله تأسس على دم مناضلين شرفاء أمثال "أبو أمل".

المصدر: 
المدن