كيري يسعى لحلِّ المشكلات من طريق الاحتيال عليها!

بقلم: 

مرَّة أخرى، ينجح "الوسيط"، الذي هو دائماً الولايات المتحدة، في إعادة الفلسطينيين والإسرائيليين إلى طاولة المفاوضات، التي لو نطقت، لصرخت قائلةً: لقد مللتُ الطرفين، ومفاوضاتهما؛ فليس هكذا يكون التفاوض!

إنَّها أطول وأصعب وأشق مفاوضات في تاريخ التفاوض والدبلوماسية في العالَم، وربما في التاريخ؛ وإنَّها لأكثر المفاوضات مروقاً من أصول وقواعد ومبادئ التفاوض، وانتهاكاً لها، ولا غرو، من ثمَّ، في انتهاء كل جولة من جولاتها إلى فشل أكبر من ذي قَبْل.

ودائماً، يعود الطرفان إلى طاولة المفاوضات بعد أنْ يعود الطرف الفلسطيني على أعقابه؛ فَمِنْ قَبْل، فشلت المفاوضات؛ لأنَّ حكومة نتنياهو مَضَت قُدُماً في البناء الاستيطاني (في الضفة الغربية، وفي القدس الشرقية على وجه الخصوص) وكأنْ لا وجود لمفاوضات بينها وبين السلطة الفلسطينية، التي أعلن رئيسها محمود عباس وَقْف التفاوض، وإصراره على عدم العودة إلى طاولة المفاوضات قبل التزام إسرائيل وَقْف كل نشاط استيطاني لها في الأراضي الفلسطينية التي تحتلها؛ لكنَّه عاد أخيراً إلى "الطاولة" من غير أنْ يَصْدُر عن حكومة نتنياهو ما يشير إلى أنَّها لبَّت، أو تعتزم أنْ تلبِّي، لعباس هذا المطلب، الذي بعَدَم تلبيته يظل رئيس السلطة الفلسطينية عاجزاً عن إقناع الفلسطينيين بجدوى استئناف التفاوض مع إسرائيل، ولو تسلَّح بوعود لتنمية اقتصادية واسعة في الضفة الغربية؛ فالفلسطينيون ما زالوا يَفْهَمون المفاوضات على أنَّها الطريق إلى مزيدٍ من الاستيطان، ويَفْهَمون استمرار (وتزايد) الاستيطان على أنَّه الطريق إلى استئناف المفاوضات؛ وهذا ما يجعل "العبثية" قريناً للمفاوضات.

إسرائيل أكَّدت، غير مرَّة، أنَّ نشاطها الاستيطاني سيستمر، ولن يتوقَّف أبداً، في مناطق من الضفة الغربية (التي تشمل القدس الشرقية) تصر على أنْ تكون، أو تصبح، جزءاً لا يتجزَّأ من إقليم دولتها؛ وهذا ما يُفسِّر ويعلِّل رفضها المطلق أنْ يكون "خط الرابع من حزيران" هو نفسه خط الحدود النهائي والدائم بينها وبين "الدولة الفلسطينية".

الولايات المتحدة سَلَّمت لها بذلك، والدول العربية (التي شاركت وزير خارجيتها كيري في مساعيه لاستئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين في واشنطن) سلَّمت لها هي، أيضاً، بذلك؛ إذْ أعلنت قبولها حلاًّ لمشكلة "الحدود" يقوم على "تبادل الأراضي"؛ أمَّا "المفاوِض الفلسطيني"، الذي يَئِس من نجاح سعيه إلى حَمْل إسرائيل على وَقْف نشاطها الاستيطاني، فدعا (في ما يشبه تنازلاً عن شرطه وَقْف النشاط الاستيطاني قبل، ومن أجل، استئناف المفاوضات) إلى مفاوضات (لا تدوم طويلاً) للاتِّفاق على حلِّ مشكلة "الحدود" أوَّلاً؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ هذا "المفاوِض" يريد معرفة الأراضي الفلسطينية التي تريد إسرائيل جعلها جزءاً من إقليم دولتها، والأراضي الإسرائيلية التي ستتنازل عنها للفلسطينيين تعويضاً لهم عن خسارتهم (الإقليمية) تلك؛ فإذا جاءت صفقة "تبادل الأراضي" مُرْضِيَةً له (أو إذا رضي بها على مضض) انتهى النشاط الاستيطاني الإسرائيلي بصفة كونه نشاطاً غير مقبول فلسطينياً، ويمثِّل عقبة كبرى في طريق التفاوض للتوصُّل إلى حلول نهائية لسائر المشكلات الكبرى الأخرى،

حتى هذا الاقتراح (الفلسطيني الذي فيه كثير من التفريط في حقِّ الفلسطينيين في أنْ يشمل إقليم دولتهم كل أراضيهم التي احتلتها إسرائيل في حرب (1967) لم تقبله حكومة نتنياهو بما يسمح باستئناف التفاوض مع الفلسطينيين؛ فهي تريد أنْ يشمل "الضَّم" ما لا يمكنه أنْ ينال موافقة "المفاوِض الفلسطيني"؛ كما أنَّها لا تريد تعويض الفلسطينيين (إقليمياً) بما يَحْملهم على قبول صفقة "تبادل الأراضي".

وإلى هذه العقبة أضافت حكومة نتنياهو عقبة أخرى هي اشتراطها أنْ تُحَلَّ أوَّلاً، في سياق المفاوضات المستأنَفَة، مشكلة "الأمن الإسرائيلي"؛ وليس من حلٍّ لهذه المشكلة، يُرضي إسرائيل، إلاَّ الحل الذي فيه تُلبَّى "حاجات إسرائيل الأمنية" بما يَذْهب بكثيرٍ من مقوِّمات "السيادة الفلسطينية"؛ فإنَّ جَعْل "السيادة الفلسطينية"، أيْ سيادة "الدولة الفلسطينية"، "شكلاً فقير المحتوى والمضمون"، هو الحل الذي فيه، وبه، تلبِّي إسرائيل "حاجاتها الأمنية".

ومن هذا الحل الذي تريده إسرائيل لمشكلتي "الحدود" و"الأمن"، يأتي "حلُّ الدولتين"؛ فَتَقْبَل الدولة اليهودية قيام دولة فلسطينية؛ لكنها لن تَقْبَل قبولاً نهائياً قبل أنْ يُعْلِن الفلسطينيون في "اتفاقية الحلِّ النهائي" أنَّ نزاعهم مع إسرائيل، وبكل أوجهه وجوانبه وأبعاده، قد انتهى؛ وهذا "الانتهاء" إنَّما يعني، إذا ما أبدى الإسرائيليون "مرونة"، قبول الفلسطينيين حلاًّ نهائياً لمشكلة "اللاجئين" في خارج حدود وإقليم دولة إسرائيل؛ أمَّا إذا ما ظلَّ الإسرائيليون على تشدُّدهم التفاوضي والسياسي، فإنَّه يعني أنْ يعترف الفلسطينيون بإسرائيل على أنَّها "دولة يهودية (لا مكان فيها، ولا سيادة، إلاَّ لـ "الشعب اليهودي")".

إنَّ الوسيط كيري لم ينجح، على كثرة وعِظَم ما بذله من جهود ومساعٍ، في التأسيس لحلول نهائية للمشكلات الكبرى؛ لكنَّه يَتَوقَّع أنْ ينجح في التأسيس لحلٍّ فيه من معاني "الاحتيال" أكثر كثيراً ممَّا فيه من معاني "الحل"؛ وأحسبُ أنَّه يحاوِل شقَّ الطريق إلى "حلِّ الدولتين" من طريق "حلِّ المشكلات التي يمكن حلها الآن"، وتَرْك "المشكلات التي يستعصي حلها الآن" للمستقبل، ولـ "الواقع" الذي يمكن أنْ يأتي بما يَجْعَل "الأمر الواقع" حلاًّ لها؛ إنَّه "حلٌّ (للمشكلات)" بـ "الاحتيال (عليها)"!

 

 

المصدر: 
الأيام