نجاح كيري الوحيد أنه نقل مسرح «الفشل» إلى واشنطن

بقلم: 

لم تحظ أي من المفاوضات التي أجراها جون كيري في جولاته الخمس الماضية لحمل الفلسطينيين والإسرائيليين على استئناف المفاوضات، المتوقفة منذ أكثر من ثلاثة أعوام، بالسرية التي حظيت بها مفاوضات واتصالات هذه الجولة الأخيرة، والمؤكد أن كلا من الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد شجع وزير الخارجية الأميركي على مثل هذا التحفظ ومثل هذه السرية ومثل هذا التكتم، وذلك لأنه في مثل هذه الأوضاع الفلسطينية والعربية وفي مثل هذه الأوضاع الإسرائيلية أيضا من غير الممكن تجنب المزايدات والمماحكات السياسية والتحدث في قضايا حساسة ودقيقة كمثل هذه القضايا من قبيل المناكفة ومن قبيل مجرد المواقف الاستعراضية.

لقد بقي كيري يتنقل بين عمان ورام الله والقدس المحتلة، وبقي يجري مفاوضات مطولة جدا مع محمود عباس (أبو مازن) ومع بنيامين نتنياهو، من دون أن يتحدث بأي شيء يمكن البناء عليه للتكهن بما كان يدور إزاء القضيتين الرئيستين اللتين تشكلان حجر الأساس لاستئناف المفاوضات المتوقفة، وهما إصرار الفلسطينيين على أن تكون حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 هي مرجعية هذه المفاوضات، وإصرار الإسرائيليين على أن يكون الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل دولة إسرائيلية هو هذه المرجعية.

ولعل ما يمكن اعتباره مخرجا من هذه الاشتراطات المتبادلة هو أن كيري، الذي بقي يتبع سياسة ما يسمى «الغموض البناء» خلال كل هذه المفاوضات الشاقة التي تخللت جولته الشرق أوسطية الأخيرة وهي الجولة السادسة، قد أعطى تعهدا للفلسطينيين، وحقيقة لـ«أبو مازن» وحده، وربما بمعرفة كبير مفاوضيه صائب عريقات، بأن حدود الرابع من يونيو عام 1967 ستكون «بصورة عامة» مرجعية هذه المفاوضات، وكذلك وفي المقابل فإنه قد أعطى للإسرائيليين تعهدا بأن الأميركيين سيحققون لهم وإن بطريقة مختلفة وغير مباشرة الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وحقيقة أنه بالإمكان القول إن هذه هي كلمة السر التي جعلت محمود عباس وجعلت بنيامين يعطيان للمبعوث الأميركي ما جعله يشعر بتحقيق المعجزة المستحيلة بعدم العودة هذه المرة إلى بلاده خالي الوفاض كما كان يعود من كل الجولات الخمس الماضية.

وهنا فإن ما تجب الإشارة إليه هو أن طريق «كلمة السر» هذه التي جعلت كيري يعود من جولته الأخيرة «رافعا رأسه» لم تكن سهلة ولم تصبح معبدة إلا بعد ضغوطات عربية فعلية مورست على «أبو مازن»، وإلا بعد المزيد من التهديدات التي وجهها المبعوث الأميركي إلى بنيامين نتنياهو الذي كما هو معروف كان قد تلقى مكالمة هاتفية من الرئيس باراك أوباما هي الأولى من نوعها يقال إنه أسمعه خلالها كلاما قاسيا جدا من ضمنه أن عليه، أي رئيس الوزراء الإسرائيلي، ألا يتحمل مسؤولية تعطيل استئناف المفاوضات المتوقفة منذ أكثر من ثلاثة أعوام.

وحسب ما يقال، وليس كل ما يعرف يقال حتى في مقال صحافي كهذا المقال، فإن كيري، الذي يبدو أنه لم يعد يحتمل فشلا جديدا بعد فشله المتكرر في الجولات الخمس الماضية، «اخترع» فكرة إرسال مبعوثين فلسطينيين وإسرائيليين إلى واشنطن الأسبوع المقبل لـ«استكمال أسس الدعوة» التي ستوجه إلى الطرفين، الطرف الفلسطيني والطرف الإسرائيلي، وذلك حتى يقول وحتى تقول الإدارة الأميركية إذا فشل هؤلاء «لقد فعلنا كل ما من المفروض أن نفعله، حيث جمعنا الطرفين على طاولة واحدة لكنهما فشلا ولم يتمكنا من إحراز الاتفاقات المطلوبة».

وكان كيري، حسب ما يقال، قد خاض مفاوضات صعبة وقاسية إن مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) الذي استغرق أحد لقاءاته به في العاصمة الأردنية عمان ست ساعات متتالية، وإنْ مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي وافق «مبدئيا»، وحسب ما يقال أيضا، على رسالة ضمانات للفلسطينيين في هيئة دعوة يوجهها وزير الخارجية الأميركي للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي يقول فيها «ندعوكم لاستئناف المفاوضات على أساس مرجعية الرابع من يونيو عام 1967، وعلى أساس تبادل بعض الأراضي التي يتم الاتفاق عليها، وبالمِثْل، وبالقيمة نفسها».

وحسب ما يقال أيضا فإن كيري قد قدم للرئيس محمود عباس (أبو مازن) ورقة أميركية أو أطلعه عليها تَعتَبِرُ الاستيطان غير شرعي، وتؤكد على أن القدس (الشرقية) هي عاصمة الدولة الفلسطينية المنشودة، وأنه تم الاتفاق على أن يجري بحث القضايا المعلقة الأخرى كـ«اللاجئين» و«المياه» خلال المفاوضات التي ستتم بين الطرفين الأسبوع المقبل، والتي تقرر «مبدئيا» أن تستمر في واشنطن لفترة تتراوح بين ستة وتسعة شهور، يتم الاتفاق عليها مع بدء هذه المفاوضات، ثم إن هناك من يقول إنه تم الاتفاق على المطلب الذي يعتبره الفلسطينيون مهما وضروريا وهو إطلاق سراح الأسرى الذين كانوا معتقلين قبل اتفاقيات أوسلو الشهيرة في عام 1993 والذين يبلغ عددهم نحو مائة أسيرا، وإنه تم الاتفاق أيضا على أن تقدم الولايات المتحدة إلى السلطة الوطنية الفلسطينية رزمة اقتصادية.

وبهذا فإنه كان بالإمكان الادعاء ولو من قبيل التحايل على حقائق الأمور بأن مهمة كيري هذه المرة قد حققت إن ليس كل النجاح فبعضه، وأن خطوة مهمة قد أحرزت ستترتب عليها سلسلة من الخطوات اللاحقة، لكن ما يجب أخذه بعين الاعتبار أن الإسرائيليين قد بادروا كعادتهم إلى افتعال أزمة داخلية على خلفية تسريب وزيرة العدل الإسرائيلية تسيبي ليفني معلومات عن موافقة بنيامين نتنياهو (المبدئية) على أن تكون حدود الرابع من يونيو عام 1967 مرجعية للمفاوضات التي من المفترض أن تستأنف في واشنطن قريبا بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.

والملاحظ أن بنيامين نتنياهو قد بدأ بعد هذه التسريبات الآنفة الذكر يمهد للتملص من هذه الاتفاقات الآنفة الذكر التي لم تثبت صحتها بأي شكل من الأشكال بالحديث عن أن المفاوضات المرتقبة ستكون في غاية الصعوبة، وبالقول إنه على «شركائنا» في هذه المفاوضات أن يأخذوا في اعتبارهم أن لإسرائيل مطالب واشتراطات أمنية لا بد من تحقيقها، وهو بالإضافة إلى كل هذا قد أكد على أنه سيكون هناك استفتاء للإسرائيليين على أي نتائج سيتوصل إليها المتفاوضون خلال الشهور الستة أو التسعة المقبلة.

وهذا يعني ربما أن الإسرائيليين وافقوا على كل الصيغ التي تقدم بها كيري من قبيل تحاشي أي صدام مع الإدارة الأميركية، وترك عملية إفشال هذه الخطوة إلى المفاوضات المقبلة المرتقبة، وعلى أساس أن لديهم القدرة على تحميل الفلسطينيين مسؤولية الفشل الذي يريدونه والذي سيسعون إليه حتما سواء في المفاوضات التمهيدية أو في المفاوضات الرئيسة التي من المفترض أن تتبع هذه المفاوضات، وهكذا فإنه لا يجب التعويل كثيرا على هذه النجاحات غير المؤكدة التي حققها جون كيري، فالفلسطينيون بدورهم يقولون إن التجارب علمتهم ألا يثقوا في الإسرائيليين الذين بدأوا يرددون ومنذ الآن أنه لا وقف إطلاقا للاستيطان وبخاصة في القدس (الشرقية)، وأنه لا اعتراف بحدود الرابع من يونيو عام 1967 كمرجعية لهذه المفاوضات، وأنه من المستحيل الموافقة على دولة فلسطينية على هذه الحدود، وبالتالي فإنهم، أي الفلسطينيين، لا يتوقعون تغيّر هذه الأحوال القائمة الآن إلى أفضل منها ما لم تكن هناك وقفة أميركية جدية تضع حدا لما بقيت الحكومة الإسرائيلية تفعله على مدى السنوات العشرين الماضية وأكثر

ولذلك وفي النهاية فإنه قد يصح القول إن كل ما فعله كيري في هذه الجولة هو أنه نقل مسرح الفشل إلى واشنطن، حيث إنه «اخترع» هذه المفاوضات التمهيدية لتحاشي ارتباط مثل هذا الفشل به وبالإدارة الأميركية، وللقول إن المسؤولية لا تقع على الولايات المتحدة وإنما على الإسرائيليين والفلسطينيين الذين تم جمعهم حول مائدة التفاوض لكنهم لم يحرزوا أي تقدم ولم يحققوا أي انفراج، وإن المشكلة بالتالي هي مشكلتهم وحدهم وليست مشكلة غيرهم!!

المصدر: 
الشرق الأوسط