جولة أخرى من المفاوضات.. رزمة أخرى من التنازلات

بقلم: 

جولة المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية المتوقع انطلاقها قريباً، والتي يأمل وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أن تتحول إلى أهم انجاز له في منصبه الحالي، لا تنبئ بالخير للشعب الفلسطيني بوجه خاص وللأمة العربية بوجه عام، سواء من حيث التوقيت أو المضمون أو النتائج المتوقعة.

المعلومات التي رشحت بشكل غير رسمي حول تلك المفاوضات والتي نشرتها صحيفة ‘القدس العربي’ يوم الاثنين تشير إلى أنها ستكون مبنية على أساس تفاهمات ومبادئ توافقية تم التوصل إليها في محادثات كيري الأخيرة مع كل من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو مع غياب أية شروط أو أسس أخرى. ويبدو أنه بموجب هذه التفاهمات فإن الجدار الإسرائيلي الفاصل الذي يبتلع حوالي 10 بالمئة من مساحة الضفة الغربية المحتلة سيشكل الحدود الأمنية لإسرائيل والحدود ‘المؤقتة’ للدولة الفلسطينية مع تبادل بعض الأراضي الواقعة وراء الجدار. وإذا صحّت هذه المعلومات فهذا يعني أن السلطة الفلسطينية ستمنح مشروعية لذلك الجدار، متنازلة عن الأراضي الفلسطينية التي ابتلعها بالرغم من أن محكمة العدل الدولية اعتبرت الجدار غير قانوني. ثم ان اعتبار الجدار جزءاً من حدود إسرائيل (مع إهمال كلمة ‘الأمنية’ إذ أن إسرائيل تتذرع بضرورة الحفاظ على أمنها في كل صغيرة وكبيرة رغم أن أمنها غير مهدد أبداً) يعني أن الدولة الفلسطينية المزمع إعلانها لن تشتمل على كامل أراضي الضفة الغربية المحتلة بالرغم من أن قبول الطرف الفلسطيني للتعايش سلمياً مع إسرائيل عند بدء المفاوضات المباشرة في مدريد عام 1992 اشترط انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 ليتسنى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة واللتين بمجملهما لا تشكلان أكثر من 23 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية.

لكن الدولة المزمع إقامتها لن تكون مستقلة وهذا ما يفسر اعتبار الجدار الإسرائيلي حدوداً ‘مؤقتة’ لها. فإدخال موضوع إقامة كونفدرالية فلسطينية-أردنية إلى المفاوضات يرجح احتمال دمج الدولة الفلسطينية في كونفدرالية مع الأردن بمجرد إعلانها، وهذا ما يفسر إشراك الأردن في جلسات المفاوضات المتعلقة باللاجئين والقدس والحدود حيثما اقتضت الحاجة. فإسرائيل لا يمكن أبداً أن تقبل بدولة فلسطينية تتمتع بكافة مظاهر السيادة والاستقلال حتى لو كانت دولة مسخا، لأن المشروع الصهيوني برمته يقوم على إلغاء حق الشعب الفلسطيني في السيادة وتقرير مصيره فوق أي جزء من أرض فلسطين، ولأن الإقرار بذلك بهذا الحق يعرض الأيديولوجية الصهيونية بالكامل للمساءلة.

وفي الحقيقة وعلى اغلب الاحتمالات، واذا كان لهذه المفاوضات المخطط اجراؤها في فترة زمنية سقفها 9 أشهر ان تكون مختلفة عما سبقها فإنها لن تؤدي في احسن الاحوال إلى قيام ما هو أكثر من دولة فلسطينية مسخ غير قابلة للتواجد بمفردها، وسيكون من الضروري إلحاقها بالأردن على شكل كونفدرالية. لأن اسرائيل تصر على أن تجميد الاستيطان في الضفة الغربية أثناء المفاوضات لن يتم في المستوطنات القائمة والتجمعات الاستيطانية الكبرى الواقعة في محيط القدس وغور الأردن وكذلك المستوطنات ذات الكثافة السكانية العالية، مما يعني أن إسرائيل لا تنوي ترك هذه المستوطنات أو القبول بإدخالها في حدود الدولة الفلسطينية المفترضة، بل تسعى لضم تلك المستوطنات إلى إسرائيل رسمياً ونهائياً تحت غطاء موافقة فلسطينية، كجزء من اتفاقية سلام تتمخض عن المفاوضات المرتقبة. يعيش أكثر من نصف مليون إسرائيلي في أكثر من 120 مستوطنة بنيت بموافقة حكومية إسرائيلية وتتواجد في معظم أنحاء الضفة الغربية، بحيث تقطع أوصالها وتجعل من شبه المستحيل إنشاء كيان فلسطيني جغرافي متكامل ذو سيادة وقابل للتواجد كدولة مستقلة في الضفة الغربية، ناهيك عن أن تتضمن تلك الدولة قطاع غزه أيضاً.

وتقول مجلة (إيكونوميست) الأسبوعية البريطانية في عدد لها في شهر أيار (مايو) إن إسرائيل تقوم بطرد الفلسطينيين من المناطق الريفية وتزجهم في المدن الفلسطينية من المنطقة ‘ج’ التي تسيطر عليها والتي تشكل 60 بالمئة من مساحة الضفة الغربية. وتضيف ان 350 الف مستوطن إسرائيلي يقطنون أكثر من 200 مستوطنة وبؤرة استيطانية في منطقة ‘ج’ وأن أحد الوزراء في حكومة نتانياهو يطالب بضم المنطقة ‘ج’ إلى إسرائيل بالكامل. وتضيف (إيكونوميست) أن إسرائيل منذ احتلالها للضفة الغربية عام 1967 قد صادرت 70 بالمئة من الأراضي التي كانت تعتبر حكومية قبل الاحتلال وأعادت توزيعها على المستوطنين أو الوكالة الصهيونية العالمية.

لقد حان الوقت في نظر إسرائيل لضم الأجزاء التي تريدها من الضفة الغربية والتي تقع فيها أكبر مستوطناتها وأكثرها استراتيجية. ولكنها لا تريد ضم المدن الفلسطينية ذات الكثافة السكانية العالية، لأنها ستضطر لاعتبارهم مواطنين، ولأنهم مع فلسطينيي الداخل الإسرائيلي سيرجحون الكفة الديموغرافية العربية الفلسطينية داخل إسرائيل على المدى الطويل، ناهيك عن أن معاملة إسرائيل السيئة لهم وحرمانهم من المساواة مع مواطني إسرائيل اليهود سيعرض إسرائيل لإتهامات بالعنصرية ولضغوط دولية على المدى الطويل. لذلك فهي تسعى لحل يخلصها من خرق القانون الدولي إذا ما ضمت الأجزاء التي تريدها من الضفة الغربية، وبموافقة فلسطينية أولاً تتبعها موافقة عربية وتطبيع اقتصادي كامل مع بقية الدول العربية بما يترتب على ذلك من فوائد اقتصادية. وكذلك ستتمكن من التخلص من عدد كبير من فلسطينيي الضفة الغربية الذين سيصبحون مواطنين في كونفدرالية أردنية فلسطينية.

التوقيت مناسب لإسرائيل أيضاً بسبب الأحداث التي تعصف بدول كانت تعتبر مركزية في مساندة القضية الفلسطينية. سورية تمزقها الحرب الأهلية التي تهدد بالانتقال إلى لبنان، والعراق غارق بمشاكل العنف الطائفي وعدم الاستقرار السياسي، ومصر ما بعد مبارك تتعرض لأزمة سياسية واقتصادية خانقة وتواجه مستقبلا سياسياً غامضاً، بينما دول الخليج النفطية الغنية منشغلة بمحاولة التعامل مع التداعيات الإقليمية لكل ذلك ودرء إحتمال انتقال أية مخاطر سياسية داخلية إلى دول الخليج ومراقبة نوايا إيران. فإسرائيل إذن تعتقد أن قضية فلسطين لم تعد من أولويات المحيط العربي الأوسع مما يضعف الوضع التفاوضي للسلطة الفلسطينية.

وبالرغم من أن العملية التفاوضية المقبلة برعاية الولايات المتحدة تبدو في صالح إسرائيل وتحقق لها كل ما تريد، فقد قرر كيري تطمينها بانها لن تتعرض لأي ضغط امريكي لتقديم أي تنازلات للفلسطينيين وذلك بتعيين مارتن إيندك كوسيط أمريكي بين الطرفين. المشكلة في ذلك ليست أنه يهودي بقدر ما هي في كونه من مؤيدي اسرائيل المتحمسين في الولايات المتحدة، وهو الذي عمل متطوعاً في كيبوتس إسرائيلي إبان حرب 1973، كما أنه عمل نائباً لرئيس قسم الأبحاث في أيباك وهي أهم مؤسسة لتنسيق أعمال اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. ولنا أن نتصور ماهية رد فعل ذلك اللوبي لو أن كيري قد عين أمريكياً من أصل عربي كوسيط حتى ولو لم يكن قد مارس أية نشاطات مساندة للقضية الفلسطينية أو لقضايا عربية.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو ما إذا كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس مستعداً لتقديم كل التنازلات التي ستفرضها عليه العملية التفاوضية المقبلة، خصوصاً وأن مدته الرئاسية منتهية منذ العام 2009. وحتى لو قرر عباس أخذ موافقة جزء من الشعب الفلسطيني على هكذا تنازلات عن طريق إجراء استفتاء شعبي في الضفة الغربية، فكيف سيحصل على موافقة فلسطينيي غزة والشتات للتنازل باسمهم عن حق العودة مثلا؟

بدون الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بما في ذلك المستوطنات الإسرائيلية، فإن الحل السلمي المعروف بحل الدولتين دولة فلسطينية مستقلة وإسرائيل غير ممكن، وتطبيقه سيتحول إلى تصفية للقضية الفلسطينية. الأجدى بالسلطة الفلسطينية الإحجام عن تقديم هكذا تنازلات والتركيز على ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي. عندها ستضطر إسرائيل إلى التعامل مع مأزقها بمفردها ليأتي اليوم الذي يساوي فيه عدد الفلسطينيين في مجمل أرض فلسطين التاريخية عدد اليهود أو يزيد عليهم، وعندها سيتحول النضال إلى جهود فلسطينية بدعم عربي وحتى دولي لإزالة التمييز العنصري عن هؤلاء الفلسطينيين أسوة بما حدث في أنهاء الحكم العنصري في جنوب إفريقيا. أهلاً بالعودة إلى فكرة الدولة الديموقراطية العلمانية على كامل أرض فلسطين التاريخية.