مستقبل حل الدولتين في حالة حل السلطة الوطنية أو انهيارها (1ـ2)

بقلم: 

مقدمة : طلب مني المركز الفلسطيني للبحوث السياسية المسحية كتابة الورقة الرئيسية لندوة ‘مستقبل التسوية السياسية في حالة حل السلطة الوطنية الفلسطينية أو انهيارها، وتساءل في مثل هذه الحالة هل ستستمر منظمة التحرير الفلسطينية تناضل من أجل حل الدولتين، أم أنها ستبني استراتيجية جديدة للحل، مثل حل الدولة الواحدة، وهل هناك بدائل وخيارات أخرى؟

إن الارضية التي يقوم عليها السؤال المطروح مليئة بالقلق المشروع والتحسبات التي لها ما يبررها، خصوصاً في حالة الانسداد السياسي المتفاقمة، وتلبد الاجواء الاقليمية بالغيوم، وتراجع مركز القضية الفلسطينية على جدول الاهتمامات الاقليمية والدولية، ناهيك عن ازدياد مظاهر التطرف في اسرائيل، المتمثلة بشعور التفوق، والاطمئنان الى صحة خياراتها، وهي ترى وكأن النتائج الراهنة لما بات ما يسمى بـ’الربيع العربي’ تصب في صالح سياساتها المنفلتة.

ولعل نظرة سريعة الى الوراء، والعودة بالذاكرة الى الفصول الاولى من كتاب عملية السلام التي بدأت في مؤتمر مدريد وأوسلو عام 1991، تؤكد لنا ان خيار الدولة الفلسطينية على الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، كانت خياراً ذاتياً، بل وقراراً وطنياً مستقلاً تبناه المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988، كثمرة من ثمرات انتفاضة الحجارة عام 1987، وتحولاً نوعياً في مسار الكفاح الوطني المسلح.

وبقليل من التحليل الموضوعي الرصين، فانه يمكن اعتبار مكسبنا السياسي المتواضع في مؤتمر مدريد، بمثابة حماية للثورة الفلسطينية وخطوة على الطريق إلى اتفاق إعلان المبادئ، الذي أسس لبناء أول كيان فلسطيني على الارض، وحقق لنا عدداً من المكاسب السياسية التي قد نختلف على درجة اهميتها، الا اننا لا نختلف على انها قد ارست حقائق على الارض، اتاحت لنا في ما اتاحته من ممكنات، الامساك بزمام مصيرنا بانفسنا، وفتح أساليب جديدة للكفاح وضمان استمراره.

وهكذا، يداهمنا سؤال مبرر الى ابعد الحدود، ماذا اذا تم حل السلطة الوطنية، او انتهت لأي سبب من الاسباب الموجبة، او ماتت بفعل ارادة ذاتية، او غير ذلك من الموجبات الحقيقية والعوامل المفتعلة؟ ثم ماذا عنا نحن في اليوم التالي اذا ما وقعت الواقعة؟ أليس من باب المسؤولية الوطنية الاستعداد سلفاً، والتحوط من قبل، والتفكير بروية منذ الآن، حول ماهية الوضع الفلسطيني في اليوم التالي على حدوث مثل هذه الزلزلة السياسية.

وفي اطار هذا العصف الفكري وفي مواجهة سؤال اليوم التالي الافتراضي لانهيار السلطة أو حلها أو فشل حل الدولتين، فانه ينبغي علينا في بداية الامر التفريق بشكل جيد بين حدوث ذلك، او بعضه، نتيجة تطورات موضوعية لا قبل لنا على درئها، وبين حدوثه بقرار ذاتي أملته اعتبارات قوية لا يمكن دحضها، او التعايش معها، خصوصاً اذا بدت خسائر الاستمرار في المراوحة، والتقلب على جمراتها الحارقة، اشد وطأة من الخروج عليها، وبالتالي ضرورة نفض الايدي والتخلي عنها.

ومع اننا سنناقش السيناريوهات المحتملة بالاستفاضة المطلوبة بدون اطالة، فانني أرى ان من الواجب علينا، كأناس ذوي مسؤولية، ان نستبعد من نقاشنا هذا، خيار اقدام السلطة الوطنية على حل نفسها بنفسها.

وقبل ان نمضي معاً في مناقشة اي من السيناريوهات المحتملة هذه، فانه ينبغي التحذير بصوت مرتفع، من إن نهاية السلطة الوطنية، لاي سبب كان، هو بمثابة نهاية مأساوية لهذا الجيل من السياسيين والمفكرين والمناضلين الفلسطينيين، الذين عليهم الاعتراف بالفشل بدون مكابرة، والتواري بدون تردد، وذلك لافساح المجال لجيل جديد، اكثر صلابة من جيل الآباء، وأكثر قدرة لاعادة انتاج حالة كفاحية فلسطينية قادرة على الاستمرار وتحدي كل الصعاب المتوقعة على طول هذا الطريق.

كما انه ينبغي التذكير سلفاً، ان السلطة الوطنية هذه لم تكن منحة مجانية لنا، ولا هي نبت شيطاني وجدناه صدفة، وانما هي ثمرة من ثمار نضال شعب فرض نفسه على اللاعبين الآخرين بمقاومته الباسلة، وصموده البطولي وتضحياته الثمينة، وجدد حضوره السياسي، الامر الذي أهله لاقامة رأس الجسر هذا على اول ارض فلسطينية متاحة، وبناء كيانه السياسي واعمار وطنه، الامر الذي بدت فيه هذه السلطة كحلقة اولى، او قل حجر اساس لاستكمال مقومات تأسيس دولته الحرة السيدة المستقلة.

لذلك كله، فانني اود لهذه الندوة ان تقتصر مناقشتها على فرضية فشل حل الدولتين، بعد ان قاربت هذه الخطة على الوصول الى حائط مسدود، وليس على خيار حل السلطة الوطنية، التي هي منجز وطني حققناه بكلفة باهظة.

وعليه، فانني اقترح ونحن نتداول في ما بيننا فرضية فشل حل الدولتين، ونسعى الى الاجابة على سؤال: ماذا بعد؟ وماذا في اليوم التالي على اعلان مثل هذا الفشل الذي لم يكن من صنع ايدينا، ان نقارب خيار حل الدولة الواحدة كبديل تلقائي بالضرورة الموضوعية، لخيار بلغ نهايته، بفعل ما واصلت اسرائيل القيام به جهاراً نهاراً لقبر هذا الحل في مهده.

وبالعودة الى السياق العام المطروح علينا في هذه الندوة، وفي معرض الاجابة على سؤال ماذا بعد حل السلطة او نفض اليد من حل الدولتين، فإنني اود في نهاية هذه المقدمة أن أبادر الى عرض وجهة نظري المتصلة بهذا النقاش، على اساس يقوم على التحفظ على ما اراه تغميساً خارج الصحن، خصوصاً في هذه الآونة الباعثة على الترقب والانتظار بأعلى درجة من درجات التنبه والحذر.

لذلك كله، ارجو ان تسمحوا لي ان ابدأ مستدركاً على ما سوف يلي من مراجعات للافكار اللاحقة ووجهات النظر المتصلة بجوهر ما نحن بصدده في هذا الحوار.

 

استدراك:

نحن على اليابسة بعد، مزروعون في ترابها كأشجار الزيتون، اي لسنا على ظهر مركب ولا حتى على رصيف ميناء بحري، ونحن ايضاً شعب يمتلئ بالحيوية ويفور بالوعي، امتلك زمام امره، وقدم كل الاستحقاقات لنيل حريته واستقلاله، بعد ان اقام له رأس جسر سياسي على ارض وطنه التاريخي، وبلور له كياناً وهوية غير قابلة للتآكل او الامحاء، رغم كل المحاولات الاسرائيلية للهروب من الوفاء بالتزاماتها.

بداية ينبغي التأكيد على ان السلطة الوطنية هي مشروعنا الوطني الممهد لعملية انتقال تدريجي نحو حقنا في تقرير المصير، وان هذا المنجز الكياني الملموس هو واحد من اهم المكاسب المهمة التي تحققت بالتضحيات الجسام والفعل النضالي الموصول على مدى عشرات الاعوام، وان هذه السلطة حقيقة قائمة وقابلة للاستمرار والتحول إلى الدولة الموعودة.

وعليه، فانه ليس من المطلوب منا، ولا من الجائز لنا، أن نطلق الرصاص على اقدامنا، او ان نقوّض وضعنا بملء ارادتنا ونحن بعد في مضمار السباق. ففي السياسة هناك دائما منطقة رمادية واسعة، الامر الذي ينبغي معه الحذر من استعجال النهايات غير المؤكدة، وكسر القواعد الكلاسيكية لهذه اللعبة، ان لم نقل تجنب اللعب في ملاعب الغير، والانجرار للاحتكام الى قوانينه الخاصة. ومن جانب آخر فإننا نقف أمام احتمال موضوعي ينطوي على فشل مشروع حل الدولتين، الذي مضى على طرحه نحو عقد من الزمان، بدون أن يتمكن من ترجمة نفسه على الارض في صورة عمل منهجي ملموس، حتى لا نقول انه قد اخذ يفقد قدرته على التحقق، وفق ما تشي به السياسات الاسرائيلية الماضية بوتيرة متسارعة نحو إلغاء الاساس الموضوعي لهذا الحل، ونعني به الاستيلاء على الارض محل الصراع، عبر الاستيطان والمصادرة وخلق الوقائع التي تحول دون تطبيق هذا الحل.

على انه ينبغي علينا، ونحن نقارب هذه المعضلة، ملاحظة اكثر من حقيقة واحدة متصلة بسيناريو فشل حل الدولتين، خصوصاً اذا جاء الاعلان عن مثل هذا الفشل من الجانب الفلسطيني، وجرى نفض اليد منه رسمياً بصورة نهائية، لأن فشل حل الدولتين يضرب في صميم المشروع الوطني الاستقلالي الفلسطيني، ويعد نقطة انعطاف سلبية كبيرة، كما أن الاعلان عن مثل هذا الفشل بصورة رسمية فلسطينية، ومن ثم التفكير بحل السلطة الوطنية يعتبر هدية مجانية لاسرائيل، التي لن تتوانى عن الاستثمار السياسي فيه، والبناء عليه للتحرر من كل التزام أو تعهد.

كما ان المجازفة بقبول خيار فشل حل الدولتين على نحو طوعي ومن جانب واحد، امر يضع السلطة في مأزق وجودي بصورة تلقائية، ويعرضها لجبل من الاخطار، ويصور القائمين عليها بصورة جهة عديمة المسؤولية ومتهورة، حين تبدو كمن يلعب بأوراقه باستخفاف، ويقامر على مجهول، وأن نفض اليد الفلسطينية من مشروع الحل الوحيد المتوافق عليه دولياً على اوسع نطاق، من شأنه ان يرتد مباشرة على قوام السلطة الوطنية، التي باتت رب عمل كبير لمئات الآلاف من الافراد، ومصدر التمويل الوحيد للبيرقراطية الادارية والامنية.

ولأن الطبيعة تكره الفراغ، ولأن انقصاف فرع يابس من الشجرة الباسقة لا يحول دون نمو فرع اخضر جـــديد، فإن نفض اليد من خيار حل الدولتين، من شأنه ان يرتب تبعات سياســية وضرورات لا قِبل للسلطة على تحملها في المديين: المتوسط والقصير، ومن ذلك:

أولاً: ضرورة اعتراف القيادة الفلسطينية التي تقود النضال المديد بالفشل الذريع، ومن ثم الاعتذار للشعب الفلسطيني عن سوء ادارتها لشأنه العام، وتركه هكذا نهباً لحالة من اليأس والاحباط الشديدين، وبالتالي فإن عليها التنحي جانباً والانصراف.

ثانياً: اعتماد الخطة ‘ب’ سلفاً، هذه الخطة التي ينبغي لها ان تكون جاهزة من قبل، ومتوافقا عليها على اوسع نطاق شعبي، وهو امر من غير المرجح ابداً ان يتم التوصل اليه في ظل حالة انقسام متفاقمة، يتنازع فيها الجانبان على الصواب وعلى الشرعية، وتتقابل فيها المرجعيتان: الوطنية والدينية باحتدام لا يقر له قرار.

ثالثاً: التحسب ازاء حالة من الاضطراب السياسي والامني والاجتماعي المحتمل على كل صعيد، والتحوط مبكراً ضد خروج الوضع عن السيطرة، وهو تحوط اذا كان من الممكن تحقيقه في ظل وجود سلطة قادرة على الوفاء بقسط كبير من التزاماتها الآن، فان من غير الممكن تحقيقه، عندما تعلن هذه السلطة وصولها الى الحائط المسدود، وتأخذ في الذواء التدريجي.

رابعاً: الانتباه مسبقاً الى تداعيات فشل حل الدولتين، ليس فقط على مقومات السلطة الوطنية التي تقع عليها اوزار هذا الفشل اياً كانت اوزار سائر الاطراف، وانما كذلك على مكانتها التمثيلية، وصورتها الخارجية، وعلاقاتها الدولية، ومكتسباتها السياسية.

خامساً: إن المجازفات غير المحسوبة بدقة بالغة، مثل تعريض السلطة الوطنية لمخاطر التآكل او الانهيار، امر يدخل في باب الارتجال والمغامرة غير المحسوبة.

ان مسؤولية القائد السياسي لا تقل أهمية عن نظيره في الجبهة، ان لم تكن أعلى بكثير من كل من يتلقون الاوامر ويصدعون للقرار، الامر الذي يملي على المستوى المسؤول عن اتخاذ القرارات الكبرى، ان يتحلى بالشجاعة وبعد النظر وسعة الافق، ان لم يكن ذلك من اجل الفوز في المعركة، فعلى الاقل مضاءلة الخسائر واحتواء الآثار المترتبة ومنع الانهيار.

على هذه الخلفية فإنه يمكن عرض الفكرتين المتعلقتين بفشل حل الدولتين، وحل السلطة الوطنية، باعتبار كل واحدة منهما مشروع قرار محتمل، من وزن استراتيجي بعيد المدى وبالغ التداعيات السلبية، ليس فقط على السلطة بحد ذاتها، وانما ايضاً على مسار الكفاح الوطني الفلسطيني المتواصل منذ نحو نصف قرن، الامر الذي يوضح مدى وطأة ذلك على الوجدان العام، ويبين من الوهلة الاولى فداحة عرضهما على الرأي العام. لذلك فان من المنطقي، مناقشة مثل هذه الافكار مع عدد من المسؤولين والباحثين والمفكرين، وراء ابواب مغلقة، لتبادل الآراء وغربلة الافكار، واستعراض السيناريوهات، ووضع البدائل، ودراسة الخيارات، بدون ان يتخذ مثل هذا النقاش طابعاً رسمياً قابلاً للتأويل والتخمين وإثارة التساؤلات المسكونة بالارتيابات.

 

ضرورات بقاء السلطة

يرتبط بقاء السلطة الوطنية واستمرارها بتحقيق شرطين متداخلين:

الاول، قدرتها على ادارة الشأن الفلسطيني العام، بتوفير الخدمات الاجتماعية، وتحقيق الامن والنظام العام والقضاء، وتحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي، وعدم تعارض وجودها مع تحقيق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.

الثاني، اهليتها لتحقيق تقدم على المسار السياسي، أي استكمال المشروع الوطني الاستقلالي. ولعل مبرر قيام السلطة ذاته كامن في حيثيات هذا المسار الذي ان تم اغلاقه، لهذا السبب او ذاك، تكون السلطة الممسكة حتى الآن بخيار الدولتين، قد فقدت مسوّغ وجودها من الاساس.

وعليه، يبدو خيار حل السلطة او انهائها، خياراً عبثياً لا يجوز الحديث عنه فلسطينياً كخيار، لا سيما ان عواقب الحل هذا تنال من جدارة النخبة الفلسطينية التي قادت النضال الوطني الطويل الشاق، وتقوض المكسب الفلسطيني الذي تحقق بفضل دماء آلاف الشهداء وتضحيات الاسرى والجرحى وصمود الشعب، والعذابات التي تحملتها اجيال فلسطينية متلاحقة، ظلت تقبض بكلتا اليدين على خيار الحرية والعودة والاستقلال، ذلك ان السلطة الوطنية التي ان لم تكن محطة وصول فهي محطة عبور لادامة الصراع بوسائل نضالية ملائمة لتحقيق الحرية والاستقلال لشعبنا، وهي التعبير السياسي الاكثر مشروعية في هذه المرحلة من مراحل الكفاح الوطني المديد، وهكذا فإن السيناريوهات المتعلقة بخيار فشل حل الدولتين، هي بمثابة فشل مضاعف للسلطة الوطنية، قبل ان نبلغ مرحلة الدولة الوطنية المستقلة.

سيناريوهات ممكنة لحل السطة:

ان هناك ثلاثة سيناريوهات قد يؤدي احدها، او ثلاثتهم، الى خلق وضع قد لا تتمكن فيه السلطة الوطنية من الاستمرار للقيام بدورها، ومن ثم تعذر النهوض بمسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه:

الاول: ان تقوم اسرائيل والولايات المتحدة، ومن ورائهما المانحون الدوليون بفرض عقوبات سياسية ومالية، جنباً الى جنب مع تدابير واجراءات احتلالية صارمة، تضع السلطة الوطنية في مواجهة تحديات صعبة جداً، دون أن يكون لها مصدات عربية، وبدائل تمويلية، وروافع اقليمية قادرة على الحيلولة دون حدوث الانهيار.

الثاني: ان تتوصل القيادة الفلسطينية الممثلة اساساً بمنظمة التحرير الفلسطينية، الى استنتاج مفاده ان حل الدولتين لم يعد متاحاً ولا ممكناً في واقع سياسي غير مواتٍ، وبالتالي فإن الواجب الملحّ يملي ضرورة البحث عن وسائل كفاحية اخرى، قد تودي بالسلطة الوطنية التي لم تعد، والحالة هذه، تمتلك مبررات وجودها من الاساس.

الثالث: ان تحدث هبّة شعبية، حتى لا نقول انتفاضة وطنية جديدة، تكون موجهة ضد السلطة الوطنية هذه المرة، الامر الذي من شأنه ان يسلب هذه السلطة جزءاً كبيراً من شرعيتها التمثيلية، بل ومن مشروعية وجودها، وان يفتح عليها سيلاً من التحديات الداخلية، بما في ذلك الخروج المسلح عليها، وذلك كله اذا عجزت السلطة هذه عن القيام بواجباتها الاساسية، وفقدت القسط الاعظم من قدراتها الوظيفية، على صعيد الامن والنظام العام.

آخذين بالاعتبار أن هناك مستويين من التحديات المباشرة التي تواجه خيار حل السلطة الوطنية، وان هناك جملة طويلة من الارتدادات المحتملة، التي تلي الاعلان عن مثل هذا الفشل، سواء أكان هذا الاعلان بقرار ذاتي املته ظروف ترقى الى مستوى الاستحالات الكبيرة جداً، او كان ذلك بفعل فاعل لديه الرغبة والاستطاعة، وعنده الحول والقوة لطي صفحة الحل الأكثر موضوعية المتداول في السوق السياسي منذ نحو عشرة اعوام.

المستوى الاول،وهو من طبيعة داخلية مستقلة عن غيره من التحديات المحيطة، اساسه هذا العدد الكبير من الموظفين والاسر والافراد، الذين يمثل لهم بقاء السلطة واستمرارها حبل نجاة لمواصلة الحياة اليومية بالحد الادنى من الانتظام، وتلبية الاحتياجات، الامر الذي قد يخلق حالة رفض عام يجب ان يحسب لها الحساب سلفاً.

المستوى الثاني،وهو ذو سمات موضوعية ليس في مقدور السلطة السيطرة عليه او التحكم به، ونعني به حالة الانقسام السياسي الداخلي، المرجح لطرف منه ان يعمد الى رفض خيار اعلان حل السلطة، وان يعمل الى السيطرة على هذه الفرصة السانحة لتشديد منافسته الضارية على اخذ زمام الموقف، وانتزاع الشرعية من بين ايدي اصحابها، الذين سيتم وصفهم بالمتخاذلين، وغير الجديرين بقيادة النضال الفلسطيني، قائلين: ألم نقل لكم ذلك من قبل أيها الفلسطينيون في كل مكان.

في اطار مثل هذا يجدر بنا تمحيص كل من السيناريوهات الثلاثة المفضية الى حل السلطة الوطنية، لتبيان مدى وجاهة الفكرة، والتعرف على جديّة مبرراتها، والكشف عن مغزاها وعن مدى القدرة الذاتية على انفادها، وذلك كله قبل التطرق الى التداعيات الفورية والمضاعفات البعيدة المدى على اقرارها.

الأول، سيناريو قيام اسرائيل والولايات المتحدة الامريكية بفرض عقوبات مالية وسياسية.

وفي مناقشة واقعية هذا السيناريو، يجب التذكير بعدد من الملاحظات التمهيدية المسبقة، وهي:

ان بقاء السلطة الوطنية واستمرارها قائمة وقادرة على ادارة الشأن الداخلي لملايين الفلسطينيين، لا تعبر عن حاجة فلسطينية فقط، وانما تمثل في التحليل الاخير حاجة دولية وإقليمية واسرائيلية.

ان السلطة الوطنية هي مشروع دولي، انخرطت فيه الولايات المتحدة وروسيا والصين ودول الاتحاد الاوروبي والدول العربية والاسلامية وآخرون، لتخفيف حدة الصراع التاريخي في المنطقة، وفتح آفاق سياسية لحلها، بدليل كل تلك التقديمات والمساهمات المالية، المعبرة عن استثمار دولي كبير لبقاء السلطة وإدامة هيكلها بالحدود الدنيا اللازمة للوفاء بالمتطلبات المبررة لاستمرار هذا الكيان التمثيلي المعترف به على اوسع نطاق.

ان السلطة التي تقوم بواجباتها وفي حفظ النظام العام، وتؤدي التزاماتها التعاقدية وفق الاتقاقات المبرمة تقدم البديل الامثل، لخيار منع العنف والفوضى.

ازاء ذلك كله، فإن من الواقعي استبعاد هذا السيناريو المكلف جداً، ليس للفلسطينيين فحسب وانما لكل من الاسرائيليين والامركيين على حد سواء، وبالتالي فإن على المتحاورين حول هذه الفكرة الصادمة، اسقاط هذا السيناريو من الحساب السياسي، والانتقال من ثم الى تركيز البحث على السيناريوهين المتبقيين.

الثاني، سيناريو ان تتوصل القيادة الفلسطينية الى استنتاج مفاده انعدام فرصة حل الدولتين وعبثية ادامة سلطة بلا سلطة، وهو ما يعني بالضرورة الموضوعية العودة الى البحث عن خيارات كفاحية بديلة، لاستئناف المواجهة بكل انواعها المتاحة مع الاحتلال الاسرائيلي.

واحسب ان هذا السيناريو من مخرجات لا تلقى لها رواجاً سواء على الصعيد الرسمي او على الصعيد الشعبي، وإن وصول النخب السياسية والفكرية الفلسطينية الى مثل هذا الاستنتاج، قد يتحقق في حالتين اثنتين هما: عندما تجد السلطة الوطنية نفسها غير قادرة على تمويل الانفاق العام، وانها محاصرة من اربع جهات الأرض، عاجزة عن لمّ شعثها، ومفتقرة الى احد اهم مسوغات وجودها، وهي حالة مستبعدة في الواقع القائم، كما انها تبدو منظورة في الافق القريب، بل وبعيدة عن التحقق في المدى المتوسط. وعندما تجد السلطة الوطنية نفسها امام حائط صد سياسي غير قابل للاختراق، تتلاشى فيه الفرص لتحقيق اي تقدم، وتتكاثر فيه مصاعب لا تستطيع السلطة مواصلة حملها على كتفين انهكهما طول السير، ونعني بذلك نفض المجتمع الدولي يديه كلياً من خيار الحل التفاوضي، ومن ثم نبذ السلطة سياسياً، وسحب الاعتراف منها كجهة مؤهلة.

واذا كان من المنطقي التعامل مع هذين المتغيرين على اساس فكري تأملي مجرد، فإن من غير المنطقي ابداً استعجال تحقق اي من هاتين الحالتين، او استباقهما على هذا النحو المجرد من ادنى درجات الحس بالمسؤولية الوطنية الكبرى، الامر الذي ينبغي معه عدم التعاطي مع مدخلات هذا السيناريو، الا في اضيق الحلقات الفكرية المغلقة، وبالتالي النأي بأوساط السلطة الوطنية عن الانخراط في هذا الجدال النظري، القابل للتأويلات السلبية الفائضة عن الحاجة الفلسطينية الراهنة بكل تأكيد.

الثالث، سيناريو حدوث انتفاضة شعبية قد تبدأ ضد الاحتلال، ثم تتحول الى تمرد ضد السلطة الوطنية.

قد يكون هذا السيناريو اكثر الافتراضات واقعية، واقربها الى التحقق، واعمقها دعوة الى التعاطي معه، وفوق ذلك اشدها خطراً على المشروع الوطني الفلسطيني، باعتباره فعلاً ذاتياً مستقلاً، قد تشجع البيئة السياسية المحيطة على تحقيقه، وفي هذا السياق ينبغي فحص واختبار كل المعطيات الذاتية القابلة للتحول من شرارة صغيرة الى حريق كبير، وبالتالي طرح عدد من الاسئلة الافتراضية، والتساؤلات المسكونة بالقلق المشروع، ومنها:

هل هناك تحت سطح الحالة السياسية الراهنة في الضفة الغربية، قوة مستترة في حالة بيات، لديها الرغبة والقدرة معاً على احداث انتفاضة ضد السلطة الوطنية، وتوظيف حالة الاضطراب هذه لصالح مشروعها الخاص؟

هل لدى بعض القوى الحزبية والفصائل الوطنية المشاركة في تحالف منظمة التحرير، قدرة موضوعية، قبل ان نتحدث عن مصلحة حقيقية في اثارة نزاع داخلي، ومن ثم استثمار مظاهره المتفرقة، لتقويض البرنامج الوطني الاستقلالي، الذي تقوده حركة فتح؟وتوظيفه في خدمة اجندات صغيرة؟

هل بلغت الحركة (حركة فتح) التي قادت الكفاح الوطني على مدى نحو نصف قرن مرحلة الشيخوخة، وباتت غير مؤهلة لمواصلة الامساك بزمام الموقف السياسي، ومن ثم التقدم لملء الفراغ؟

ومع انه يمكن طرح مزيد من الاسئلة الاستفهامية في اطار مثل هذا السيناريو المثير لاوسع الخيالات، فان اجراء محاكمة لمداخلاته، تقود الى الاستنتاج ان الشروط الموضوعية اللازمة لاحداث مثل هذه الفوضى، وتوظيفها لصالح اعداء المشروع الوطني، غير متحققة الآن بقدر كافٍ لاحتسابها ضمن المخاطر الداهمة في المدى القريب.

ذلك ان قوى العمل الوطني الفلسطيني على اختلاف اوزانها غير قادرة، حتى وان كانت راغبة في تولي دفّة السلطة الوطنية الفلسطينية، على القيام بعملية التبديل والاحلال، كما ان الفرصة امام قوى الاسلام السياسي، تبدو فرصة محدودة جداً وفوق ما ينطق به واقع الجال القائم اليوم، وما تمليه حقائق احتلال ذي قبضة يد ثقيلة على الاوضاع.

وعليه، وبالعودة الى سائر الحيثيات المتعلقة بالسيناريوهات الثلاث الواردة في صدر هذا النقاش، فإنها تبدو كسيناريوهات افتراضية الى ابعد الحدود، معلقة في سماء عالية، وغير قابلة للتحقق في المديين: القريب والمتوسط، بل وربما البعيد، الامر الذي يقتضي منا، ونحن في صدد فحص وتمحيص هذه الافتراضات، ان لا نبني على ارضية من الرمال الرخوة، وان لا نمضي طويلاً في التطيّر ازاء ما لا اساس له، الا في عالم من الاوهام والتخيلات.

هل هناك بديل لحل الدولتين؟

إن حالة الاستعصاءات التي تواجه خيار حل الدولتين، تقتضي على سبيل المثال التفكير بمدى واقعية وفرص حل الدولة الواحدة أو غيرها. كما ان المصاعب الجمة التي تقف على طريق تحويل الكيان السياسي الفلسطيني من وضعية حكم انتقالي الى وضع دولة مستقلة، تقتضي بدورها دراسة المخاطر الكامنة في فرضية حل السلطة، وما اذا كان هذا الحل يشكل نقطة انطلاق كفاحية اقوى، ويخلق واقعاً جديداً يعزز من فرص تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني بصورة اجدى.

اذ ليس لدي شك في انه اذا كان الطريق التفاوضي لحل القضية الفلسطينية، الذي بدأناه من مدريد واوسلو قبل اكثر من عقدين، قد وصل الى نهايته، وادى قسطاً مما كان معلقاً في فضاءه من آمال وطنية، واخفق في الكثير مما كان يعد به، لا سيما ما تعلق منها بانهاء الاحتلال واقامة الدولة المستقلة، فان ذلك كله يجب ان لا يدفع بنا الى الهروب من هذا الطريق الحافل بالاخفاقات، الا اذا كان لدينا طريق آخر بديل، يمكن السير عليه بثقة اعمق وبفعالية أكثر، لاستكمال ما فشلنا في تحقيقه حتى الآن.

ووفق مثل هذا السياق من التفكير البعيد على الارتجال، فانه يمكن كذلك تمحيص جدوى الانتقال من اطار السعي نحو انجاز حل الدولتين، الذي لا يزال بمثابة البضاعة الوحيدة في السوق السياسي، الى متاهة حل الدولة الواحدة أو غيرها من الخيارات الاخرى التي لا يجد له اذناً صاغية، ليس لدى الجانب الاسرائيلي المخاطب اساساً بمثل هذا الحل المثير لاشد الارتيابات الوجودية الاسرائيلية، وانما كذلك لانه لا يوجد ايضاً من يصغي له على مسرح السياسة الاقليمية والدولية، او من لديه ادنى استعداد للتعاطي معه.

وعليه، ولما كان الواقع الفلسطيني المثقل بالاكراهات، غاص بالقوى الجبرية القاهرة، ومفتقر في الوقت ذاته الى الخيارات المريحة، والبدائل السياسية المواتية، فان علينا والحالة هذه ان نواصل العض بالنواجذ على ما بين ايدينا من اوراق، وهي قليلة، وان نستمر في مواجهة التحديات المحدقة، وهي صعبة وعديدة، وذلك الى ان نتمكن من تغيير الواقع بالاشتباك معه، لا بالترفع عنه واستمطار اللعنات عليه، والتضرع الى الله سبحانه بتبديل الحال الذي يُعدّ بقاءه هكذا من المحال قطعاً.

أفضل الخيارات:

واحسب ان افضل الخيارات المتبقية لنا، اذا ما تواصل الانسداد السياسي، وضعفت فرص التقدم على طريق الحل التفاوضي وفق الشروط الكفيلة بانجاحه، هو الخيار الذي سبق ان اشبعناه نقاشاً، واثخناه بالحوارات المستفيضة في اطار فكري مماثل، ونعني بذلك العمل على اساس منهجي مدروس بعناية، لتمكين الشعب الفلسطيني من مواصلة صموده وتثبيت وجوده وانزراعه في تراب آبائه واجداده، مع السعي حثيثاً لتوفير مقومات صموده والعمل لتحسين مدخلاته التعلميمية والصحية، وتنمية قدراته الاقتصادية، وبالتالي رفع سوية كفاحه الوطني على نحو اكثر فاعلية.

وقبل ذلك فقد سبق لنا ان دعونا الى اعادة بناء موقف فلسطيني هجومي، يستلهم التغيرات المحتملة في الواقع السياسي المتحرك، ويدرء المخاطر الداهمة، والتكيّف مع المتغيرات المتوقعة، وفق مجموعة من المبادئ الرصينة، والقواعد العملية الملائمة، للارتقاء بمستوى الاداء الوطني العام. ومن ذلك:

التمسك بالثابت الاول بين سائر الثوابت الفلسطينية، الا وهو انهاء الاحتلال الاسرائيلي ، وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشريف، مع ضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

تفعيل وتطوير مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وتنظيم إجتماعاتها كمرجعية ومصدر للقرار الوطني الفلسطيني، والعمل على إحتضان الكل الفلسطيني في إطارها.

تجديد العمل على دفع مبادرة السلام العربية شوطاً آخر نحو مركز اهتمام المجتمع الدولي والاسرائيلي والتمسك بها كجهد عربي مشترك وموحد، دون أي تعديل في بنودها.

السعي دون كلل او ملل لانهاء حالة الانقسام الفلسطيني، هذه الحالة التي تحولت الى دجاجة تبيض ذهباً في الحضن الاسرائيلي، وفقدت كل مسوغ لديها، خصوصاً بعد ان تقلصت الفروق الجوهرية بين الخطابين السياسيين لكل من فتح وحماس، حيال الدولة الفلسطينية.

استنهاض الحالة الوطنية العامة، وتعزيز روح المقاومة الشعبية بكل اشكالها المتاحة والمشروعة، من خلال مبادرات منسقة على نحو مركزي، بما في ذلك عقد مؤتمرات شعبية وطنية، عامة وجزئية، تؤمّن اوسع المشاركات الجماهيرية في صنع القرار ووضعه موضع التنفيذ العملي.

عدم اغلاق الابواب، ورفض الخيارات اليائسة، ومنع الاستدراج الى اللعب مع اسرائيل في ملعب القوة الذي تحسن اللعب فيه، والامتناع عن الخوض في بدائل تجريبية محبطة، ورفض الاستسلام للطروحات الاسرائيلية الرامية الى خفض سقف التوقعات لدينا، وفوق ذلك التعويل على الصمود الاسطوري لشعبنا، والبناء على هذه الروح الوطنية التي لم تنكسر تحت اشد الضربات.

التمسك بمبادئ الشرعية الدولية، والقانون الدولي، ومبادرة السلام العربية، فضلاً عن الاتفاقيات والتفاهمات السابقة مع الجانب الاسرائيلي، كأساس لتحقيق تسوية سلمية عادلة وشاملة، يمكن قبولها والدفاع عنها.

تجنب الخوض في المخاضات الآسنة للتسويات الجزئية، والمبادرات غير المتوازنة، بما في ذلك مشروع الدولة مؤقتة الحدود، وذلك من خلال جهد دبلوماسي استباقي هجومي، لتفادي وقوعنا في اشكالية الرفض والقبول، ومن ثم تحميلنا اوزار تفويت الفرص السانحة،والمبادرات السياسية الملتبسة، والعروض الاسرائيلية ‘السخية’.

التوصيات:

على ضوء كل ما تقدم من عرض وتحليل، وما جرى تقديمه من مرافعات ضد فكرة الاعلان من جانب واحد عن فشل حل الدولتين، او حل السلطة الوطنية بإرادة ذاتية فلسطينية، وما توصلنا اليه في هذه الورقة من استخلاصات عديدة، فإنني أوصي:

أولاً: التوصية بضرورة العمل على انتقال العقل الجمعي الفلسطيني من حيّز الشك بالمستقبل، والخوف عليه من تداعيات التغيرات الاقليمية والدولية المحتملة، الى آفاق التمسك بالثوابت، والعض على الحقوق والنواجذ، والشروع بخطة تستلهم العمل على تمتين مقومات السلطة الوطنية، بإعتماد استراتيجية هجومية شاملة، تقوم على الدفاع عن هذا المنجز الكياني، وتعزيز بنيته الراهنة، من خلال السعي لانهاء الانقسام الداخلي، ورفع وائر المقاومة الشعبية، ناهيك عن تجديد دماء المؤسسات الشرعية، وكل ما من شأنه ان يؤدي الى تمكين الوجود الفلسطيني ورفع سويته الكفاحية.

ثانياً: التوصية بانتهاج سياسة الاعتماد على الذات، وتحسين اداء منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية، وزيادة مساحة المشاركة في صنع القرار السياسي، وتوسيع اطر مساهمات المجتمع المدني في عملية تجويد البنية الديمقراطية، فضلاً عن بذل مزيد من الجهد المخطط لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، وتقديم الخدمات النوعية على صعيد التعليم والصحة، وغير ذلك من مخرجات المرافق الاجتماعية المؤدية الى زيادة الكفاءة والنوعية الفلسطينية.

ثالثاً: زيادة وتيرة الاشتباك السياسي مع اسرائيل، وتوسيع سبل الاتصال والتعاطي مع الوسائل الاعلامية والقوى والاحزاب والشخصيات الاسرائيلية، لكبح مظاهر ميول التطرف، والحد من الانجراف نحو اليمين من جهة اولى، وتشجيع قوى الاعتدال والسلام وكل من يناهض السياسة العنصرية من جهة اخرى، وذلك كله بمساعدة كيّسة ومبادرات رشيقة ومشاورات حثيثة من جانب قادة المجتمع العربي الفلسطيني وراء الخط الاخضر.

على أي حال، وأياً كان المشهد قاتماً، وكانت الخيارات المتاحة في هذه الآونة قليلة، فإننا نمتلك في مطلق الظروف وشتى الاحوال اوراقاً غير قابلة للتهميش او الضياع، في خضم هذه المواجهة الطويلة، التي لا تزال رغم كل المصاعب تعد بتطوير الكيان الفلسطيني من سلطة انتقالية الى دولة مستقلة، مهما طال السفر، وتعرجت الدروب،ومن هذه الاوراق الصلبة:

أولاً: لدينا حقيقة وجودية اصيلة تشكّل الرافعة الكبرى لصمودنا وكفاحنا المديدين، ونعني بذلك الحقيقة الديمغرافية التي تتعاظم مع مرور الزمن، حيث يعيش هنا على هذه الارض في الضفة الغربية وقطاع غزة حوالي أربعة ملايين ونصف المليون مواطن وأكثر من مليون وستمائة ألف في اسرائيل يشكلون نحو نصف المجتمع الفلسطيني، لم تنجح كل المخططات الاجلائية من تذويبهم أو اقتلاعهم من جذورهم، ان لم نقل انهم ازدادوا ثباتاً وحضوراً نوعياً عما كانوا عليه قبل عدة عقود مضت.

ثانياً: اننا الطرف الوحيد الذي يمتلك بصفة احتكارية وحصرية، ليس حق تمثيل الشعب الفلسطيني والتحدث باسمه فقط، وانما ايضاً حق المصادقة دون غيره من الاطراف، على أي خطة او مشروع او صفقة او تسوية يمكن التوصل اليها في أي وقت مقبل، أي أن لنا تفويض يرقى الى درجة حق الفيتو المستخدم في مجلس الامن الدولي على هذا الصعيد، الامر الذي يحول دون ان يجري من وراء ظهر هذا الشعب، او بمعزل عن قيادته الوطنية، تمرير حل لا يلبي احتياجات شعبنا، او اعتماد أي يسويه لا تستجيب لتطلعاته المشروعة.

ثالثاُ: اننا نمتلك عدالة قضية شعب لم ينل حقه في الحرية والاستقلال شأن شعوب الكرة الارضية بعد الحرب العالمية الثانية، وهو امر بات يثقل على الضمير الدولي ويؤرق مؤسساته الكبرى، ويضغط على الرأي العام الغربي بصورة عامة، بما في ذلك بعض قطاعات الرأي العام الاسرائيلي، الامر الذي يتجلى اليوم في خضم هذه الجهود الدولية الدؤوبة، وفي بعض المبادرات الدبلوماسية الرامية الى معالجة هذه المعضلة التاريخية، التي باتت توصف على نطاق واسع بأنها ام المشاكل في الشرق الاوسط.

رابعاً: ان في حوزتنا ورقة الاعترفات الدولية المتراكمة، وكل هذه القرارات الدولية بأهليتنا التمثيلية وشرعيتنا القانونية، بما في ذلك القرارات الصادرة عن مؤسسات الامم المتحدة، وآخرها ترفيع وضعيتنا في الجمعية العامة الى مرتبة دولة عضو مراقب، بتأييد اكثر من ثلثي اعضاء هذه الجمعية، وهو ما يؤسس الارضية الملائمة للبناء على هذه القرارات، ويشكل الاساس القانوني لكل تسوية سياسية ممكنة.

خامساً: ولا يفوتني القول أن الموقف العربي والاسلامي الرسمي والشعبي لا زال يعتبر أن القضية الفلسطينية هي قضيتهم، وإن تغيرت الأولويات لبعض الوقت، وأن مستقبل الاستقرار في المنطقة يظل معلقاً على المدى الاستراتيجي لتأمين الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.

المصدر: 
القدس العربي