المفاوضات: "لعم" متعثرة

بقلم: 

العودة للمفاوضات لم تكن متوقعة إذ ان جهود الوزير الاميركي تعثرت أكثر من مرة. لكن منذ البداية كان واضحاً أن جهود كيري كانت تهدف للضغط على الطرف الفلسطيني من اجل أن يوافق على العودة للمفاوضات دون تقديم وعود جدية بمآلات هذه المفاوضات. كان الفلسطينيون وحدهم المقصودين بجهود كيري، أن يجلبهم إلى طاولة المفاوضات التي اشترطوا العودة لها بعد وقف الاستيطان. وبغض النظر عن التخريجة الدبلوماسية التي قدم فيها كيري مقترحاته إلا أن المؤكد ان الاستيطان لم يقف كما أنه ليس من المؤكد ان اسرائيل ستلتزم بغايات عملية السلام بالوصول إلى دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران. المنتصر في كل ذلك هو كيري الذي قدم إدارة أوباما لأول مرة كصاحبة إنجاز بعد عثراتها في المنطقة بعد الربيع العربي ومواقفها غير الموفقة.
ثمة قناعة متزايدة لدى الكل الفلسطيني أن هذه المفاوضات لن تقود إلى نتيجة واضحة، وأن إسرائيل لا ترغب حتى في أقل السلام الممكن، الذي قبل به الفلسطينيون بإقامة دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة بما في ذلك القدس. هذا السلام الذي لا يعيد حقاً ولا يحقق عدلاً، لم تقبل به إسرائيل، بل قبلت التفاوض حوله، وخلال ذلك حولت المفاوضات إلى عملية معقدة من المساومات التي تعكس عدم الإقرار بفكرة إنجازه. هذه القناعة باتت راسخة لدى جميع ألوان الطيف السياسي الفلسطيني ولم يعد الحديث حول ممكنات السلام وفرصه بالأغنية التي قد تطرب المستمعين؛ بقدر إثارتها لسخطهم.
إن تحقيق مكتسبات من خلال التفاوض لا يبدو ممكناً ضمن الظروف الحالية. ففي الوقت الذي لم يكن تحقيق هذه المنجزات في ذروة الخصوبة في بداية عملية السلام ممكناً فإن تحقيقها الآن يبدو عسيراً، فالامر استغرق كيري شهوراً وعشرات اللقاءات حتى يأخذ وعداً من نتنياهو بأن العودة للمفاوضات ممكنة ولم ينجح في انتزاع اقرار مبدئي منه بحدود الرابع من حزيران. إن ذات المراوغة التي تم فيها إخراج "توليفة" الموقف الإسرائيلي - حيث أعلن كيري عبر تعهد خطي بقبولهم فيما نفى مكتب نتنياهو وتضاربت ألحان أوركسترا المواقف في عملية مقصودة - إنه ذات سيناريو الإخراج الذي سيغلف فيه عملية المفاوضات التي لن يقصد منها إلا أن يستمر السلام دون أن تلد العملية شيئاً.
إن واحدة من غايات إسرائيل خلال الفترة الاخيرة كانت ان تحول اللوم في تعطيل الجهود الميتة لإحياء السلام وتنقله للفلسطينيين. لقد نجحت الدبلوماسية الفلسطينية في وضع إسرائيل في الزاوية، ولم يكن النقاش حول محاولات "عزل" إسرائيل التي أثارت ذعر النخب الإسرائيلية إلا تعبيراً عن هذا. جزء من سياسات ضغط كيري على الرئيس محمود عباس من وجهة نظر إسرائيل كان ان يرفض الرجل وبالتالي يظهر في نظر العالم بوصفه المعطل وليس نتنياهو. خاصة أن العالم تقدم كثيراً باتجاه الفلسطينيين (وإن لم يكن كل هذا التقدم ليعيد ديناً ويرفع ظلماً) من المواقف في الأمم المتحدة انتهاء بموقف الاتحاد الأوروبي الأخير. وعليه فإن التعامل مع الموقف من باب عدم الرفض دون القبول قد يساعد في الخروج من المأزق، خاصة اننا بحاجة للمزيد من الدعم الدولي لاسيما في أوروبا لفرض المزيد من القيود على إسرائيل متعلقة بتعاونها معها في برامج مختلفة كثيرة تساهم في كف يد إسرائيل عن الضفة الغربية. وعليه لم يكن من فائدة من قول "لا"، كما أنه ليس من فائدة من قول "نعم".
إن الذهاب للمفاوضات واثقين بأننا قد نحصل على شيء سيعني خسارتنا مرة أخرى. إنه لا يبدو في المنظور من حياتنا أن إسرائيل يمكن لها ان تنخرط في عملية سياسية تعيد الحقوق الفلسطينية، وانه ما لم تتغير موازين القوى في الإقليم فإن إسرائيل ستواصل التهامها للأرض والمقدرات. إن غياب الرادع منذ النكبة حتى اليوم هو ما شكل الدافع الإسرائيلي بالمزيد من الهجوم والاستغوال. وإن قراءة أخرى ليس هنا مقامها لابد أن تقترح ان غياب السلاح النووي العربي يقع في رأس أسباب تراجع الدور العربي عالمياً بجانب أشياء كثيرة. وعليه فإن الإيمان المطلق بمقولات كيري ووعوده سواء الخطية او الشفوية ليس إلا إعادة انتاج لسنوات طويلة من المفاوضات غير المنتجة.
المؤكد ان هذه المفاوضات ستتعثر لجملة كبيرة من الأسباب ليس أولها تبادراً للأذهان ان سقف المعروض سيكون ادنى بكثير من قاع المأمول. وعليه فإن النظر إليها بوصفها طريقاً صحيحاً سيكون سوء تقدير للنهايات، وحكمة السياسة في النهايات وفي طريقة إخراجها، إنها الغاية التي أشار لها ميكيافيلي في اطروحته ذائعة الصيت. وعليه فإن الفوز ببعض المكتسبات الصغيرة ولكن المهمة مثل إطلاق سراح قدامى الأسرى سيكون كسباً مهماً على الأقل في ظل تعطل منظور المنجزات الكبرى، وسيكون له مردود إيجابي ونفع على الاقل على فئة مهمة ومناضلة، دون ان يكون لذلك أي مقابل سياسي. لأن أحد أهم أخطاء التعامل مع الملف السياسي كان دائماً اعتبار عملية المفاوضات فرصة لتحسين شروط الحياة اليومية للسكان في الضفة وغزة. ورغم أن على القيادة السياسية أن تتعاطى مع هذا الواقع اليومي لأنه يمس السكان الذين تحكمهم بطريقة مباشرة، لكنها في النهاية تمثل الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده والأهم أنها مؤتمنة على حقوق هذا الشعب السياسي، بالتالي فمهمتها إنجاز هذه الحقوق وليس انجاز تحسينات على شروط حياة سكان غزة والضفة.
على الفلسطينيين أن يتعلموا من عشرين عاماً من المفاوضات متى يقولون نعم ومتى يقولون لا ومتى يتلعثمون عمداً في نطق أي واحدة منهما، ومتى يجمعون بينهما على طريقة "تشاؤل" إميل حبيبي. وأظن أن "اللعم" الآن تبدو أكثر نفعاً من أي شيء خاصة في ظل عدم اليقين من ممكنات تحقيق أي اختراق حقيقي في عملية السلام للوصول للحد الادنى من الحقوق. كما أن على الصراخ الكثير أن يخفت، وبدلاً عن ذلك نبحث عن آليات تعزيز الحوار الوطني الميت للأسف دون أن نعرف لماذا. لأن الحال الفلسطينية يرثى لها خاصة مع الأزمة المصرية والأزمة الاقتصادية التي تواجهها غزة تدريجياً، وإصرار البعض على التمسك بالانقسام كأنه منجز وطني. المحقق أن ما يحدث كله ليس لصالح الخير العام فلا التمسك بالانقسام ولا الزج بغزة في أزمة مصر ولا قبول المفاوضات ولا الصراخ ضدها. الصالح العام في توليفة على الفلسطينيين ان يجتمعوا لابتداعها.

المصدر: 
الأيام