يهود البلاد العربية

بقلم: 

 

في مصر مثل شعبي شائع مؤداه أن اليهودي عندما يفلس يبحث في دفاتره القديمة، والمعنى أنه قد يجد في تلك الدفاتر مستحقات منسية تعينه على مواجهة حالة الإفلاس التي يعاني منها. وهكذا تتعامل إسرائيل مع قضية اليهود العرب الذين تركوا أوطانهم العربية الأصلية وذهبوا إليها قبل إعلان دولة إسرائيل في عام 1948 وبعده. كان أول من أثار القضية في حدود ما نعلم هو أحد المسؤولين الإسرائيليين في أواسط سبعينيات القرن الماضي، ثم عاود وزير إسرائيلي طرحها في 2007 بقوة أكبر، وفيما بعد تبنى الفكرة مجلس الأمن القومي التابع لمكتب رئيس الحكومة، كما تداولها في ملتقيات الأمن القومي الإسرائيلية وعلى رأسها مؤتمر هرتزليا للأمن القومي. وصرح نائب وزير الخارجية الإسرائيلي السابق الذي ركز على إطلاق حملة دولية دبلوماسية وإعلامية واسعة النطاق أنه بدون حل مشكلة اليهود العرب لن يكون هناك حل نهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، واعتبر أن التغيرات الأخيرة في مصر إيجابية بالنسبة لمسألة حقوق اليهود الذين خرجوا من مصر لإسرائيل بقدر ما ستساعد على إقامة نظام ديمقراطي حقيقي يحترم حقوق الأقليات.

وقد ترتب على هذا الاهتمام الإسرائيلي المتزايد التوصل إلى خريطة معلوماتية عن الموضوع، وانتهت في هذا الصدد إلى أن عددهم يقدر -من وجهة نظر إسرائيل- بثمانمائة ألف مهاجر ذهب منهم 600 ألف لإسرائيل، وتركوا في أوطانهم العربية ممتلكات قدروا قيمتها في حينه بسبعمائة مليون دولار تساوي بأسعار اليوم 6 مليارات دولار، واعتبروا أن معظم هذه القيمة تعود إلى ممتلكات الجالية اليهودية في مصر التي كانت الأغنى قياساً على يهود الدول العربية الأخرى، والهدف هو استعادة هذه الممتلكات وليس فقط التعويض عنها.

ما هي أهداف إسرائيل من إثارة هذا الموضوع؟ ثمة أهداف تعتبرها إسرائيل استراتيجية بينما هي أهداف عادية إن لم تكن أضغاث أحلام، الهدف الأول هو إقامة مماثلة بين قضية اللاجئين الفلسطينيين ويهود البلاد العربية بحيث يتم استخدامها كورقة ضغط في تسوية مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. والحقيقة أن هذه الفكرة بالغة السذاجة، فإسرائيل هي التي فعلت المستحيل من أجل هجرة يهود البلاد العربية إليها حتى تعوض الخلل السكاني بين يهودها وبين الفلسطينيين ناهيك عن بحر العرب السكاني الذي تعيش فيه كمجرد جزيرة صغيرة، بينما قامت هي في الوقت نفسه بعمليات إرهاب وترويع لطرد الفلسطينيين منها تحقيقاً لمزيد من التفوق السكاني اليهودي بحيث لم تبق هناك إلا أقلية صامدة تمثل الآن شوكة في خاصرة الإسرائيليين، وتثير لديهم مجدداً هواجس التفوق السكاني الفلسطيني داخل إسرائيل بسبب معدلات الزيادة الطبيعية للطرفين، والتي تعمل بشدة لصالح السكان الفلسطينيين. ومن ناحية ثانية فإن الفلسطينيين لا ناقة لهم ولا جمل في الموضوع برمته فليسوا هم المسؤولون عن تهجير اليهود أو طردهم. كما أنهم لا يستطيعون المساهمة في عملية تعويضهم، ومن الهراء ما تذكره دوائر إسرائيلية من أن الفلسطينيين يمكن أن يتنازلوا عن حق العودة مقابل تنازل إسرائيل عن قضية تعويض اليهود العرب واسترداد ممتلكاتهم، إذ إن الفلسطينيين ليس بمقدورهم التنازل عن حقهم الوطني الأساسي مقابل تنازل إسرائيلي لا يعنيهم من قريب أو بعيد. أما الهدف الثاني لإسرائيل فهو الحصول على أموال طائلة كتعويضات لليهود العرب وإيجاد مسوغ للتدخل في الدول العربية بحجة متابعة أوضاع ممتلكات اليهود التي سيتم استردادها ولا يتوقع أن تواجه إسرائيل صعوبات تذكر إذا اختزلت قضية حق العودة في تعويضات مالية، فسوف تتسابق حليفاتها الغربيات وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية لكي تحمل عنها هذا العبء. أما الهدف الثالث والأخير فهو تكوين رأي عام عالمي مساند كي يمكن الاعتماد عليه في كسب التأييد لوجهة نظرها في هذه القضية، وخاصة أن إسرائيل تعاني من انحسار الشرعية عنها دولياً سواء على الصعيد الرسمي أو غير الرسمي.

ولكي تبرر إسرائيل الأهداف السابقة فإنها تقدم روايتها المغلوطة عن خروج اليهود من البلاد العربية والمسألة تتلخص باختصار بالنسبة ليهود مصر على سبيل المثال في أن اليهود المصريين قد تم ترحيلهم بأوامر من النظام المصري والجامعة العربية في السنوات من 1948 إلى 1967 وأول ملاحظة هنا أن الجامعة العربية ليست صاحبة قرار بالنسبة للدول العربية، وذلك وفق نظامها الأساسي. والملاحظة الثانية أن النطاق الزمني المحدد في السطور السابقة غير دقيق، إذ بدأ اليهود المصريون يذهبون إلى إسرائيل تحت وطأة الدعاية الصهيونية التي كانت تعتبر قدومهم وقدوم غيرهم إلى إسرائيل عنصراً أساسياً في نشأة الدولة الصهيونية، ومع إعلان هذه الدولة في 15 مايو 1948 بدأت مشكلة من نوع جديد وهي الخوف من ازدواجية الولاء، أي أن يعيش اليهود في أوطانهم العربية ويكون ولاؤهم الأساسي لدولة إسرائيل، وقد حدثت مشاكل أخرى من هذا النوع كما في الاتحاد السوفييتي الذي كان صوته وأصوات الدول المنتمية للمعسكر الاشتراكي مرجحاً لقرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي استندت إليه الحركة الصهيونية كأساس لشرعية دولة إسرائيل، ولذلك فإنه على رغم الجودة التي ميزت العلاقات بين البلدين فإنها سرعان ما توارت إلى الخلف، وظهر بدلاً منها شك عميق في اليهود السوفييت إلى حد اتهام مجموعة من الأطباء اليهود السوفييت بالتواطؤ ضد حياة ستالين مما أدى إلى قطع العلاقات بين البلدين. ومن ناحية أخرى نظرت الأوساط الرسمية السوفييتية بامتعاض إلى طلبات عدد من اليهود السوفييت الهجرة إلى إسرائيل، ويرجع هذا الامتعاض إلى شرعية الاتحاد السوفييتي نفسها، فهو يقدم لكل شعوبه حلولاً يعتبرها مثالية لمشكلاتها نابعة من المذهب الاشتراكي فإذا بيهوده يفضلون على هذا كله حلولًا بورجوازية رأسمالية، ولذلك ظل الاتحاد السوفييتي يرفض هجرة يهوده لإسرائيل حتى وصل جورباتشوف إلى الحكم في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وتغير الموقف جذرياً سواء لمبادئ جورباتشوف نفسه أو للضغوط الأميركية عليه. وفي مصر على سبيل المثال حدث ما يشير إلى ولاء يهودها لإسرائيل أولاً بتواطؤهم لتخريب العلاقات المصرية الأميركية بمحاولة تخريب مصالح أميركية مهمة في مصر، ثم كانت النقطة الفاصلة هي عدوان إسرائيل على مصر في 1956، وشعر اليهود الذين عاشوا طويلاً بين المصريين كإخوة لهم بأن وجودهم أصبح موضع شك عميق، وأنهم لا يمكن أن يحتفظوا بثقة المصريين بعد ذلك فباعوا ممتلكاتهم بأبخس الأثمان، وغادروا مصر على عجل. وإسرائيل إذن هي المسؤولة عن ذلك قبل أي طرف آخر.

ومن المهم للغاية أن تتحسب الدول العربية لاحتمال قيام إسرائيل برفع قضايا أمام محاكم الدول العربية أو محاكم دولية، وذلك بإعداد ملفات دقيقة تبين خطل التفكير الإسرائيلي كي لا نصبح ألعوبة بيد الإسرائيليين.

وإن كان الموضوع بالتأكيد يمثل عقيدة راسخة لدى إسرائيل بدليل أنها حرصت في القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن في نوفمبر 1967 عقب حربها على العرب في تلك السنة على أن يكون مضمونه بالنسبة لموضوع اللاجئين عاماً: «إيجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين» دون تحديد إن كانوا فلسطينيين أو يهوداً، الأمر الذي دفع عبدالناصر عندما قبل القرار باسم مصر أن يقول إنه بالنسبة للفلسطينيين لا يستجيب لحقوقهم، ودعاهم إلى عدم قبوله.

المصدر: 
الاتحاد