حركة "حماس" على مفترق طرق

بقلم: 

إذا أردنا أن نكون أقرب إلى الوضوح والصراحة في توصيف الذي جرى والذي يجري في مصر فهو أن "الإسلام السياسي" كتيار سياسي (فكري وثقافي) قد خسر الحرب كلها دفعة واحدة، أما حركة "الإخوان المسلمين" فأميل إلى الاعتقاد أنها خسرت معركة فاصلة. وهي الحركة الوحيدة في إطار التيار التي بمقدورها أن تعاود قيادته ولملمته بشروط اجتماعية وسياسية وثقافية جديدة. دورة الحياة مليئة بالأمثلة المشابهة.

التيار القومي ـ على سبيل المثال ـ هزم هزيمة ماحقة في المنطقة، وتمزق بين الأنظمة الاستبدادية وبين حركات شوفينية وبين أجنحة حاولت أن تتصالح مع نواقص الحركة القومية لم تكن ديمقراطية من حيث الجوهر، ولم تكن حاسمة ودائماً في مسألة العدالة الاجتماعية.

ميوعة الهُويّة الاجتماعية للحركة الوطنية العربية وكذلك للحركة القومية هي التي أفقدتها القدرة على التحول الديمقراطي وأغلقت عليها أبواب الحداثة الشاملة، وكل الفئات أو الفرق التي تجاوزت هذا المأزق عادت إلى الشارع وعادت بهذا القدر أو ذاك لتلعب أدواراً سياسية متقدمة.

تيار "الإسلام السياسي" برز في مرحلة تاريخية كانت القوى الاستعمارية قد نالت من الحركات القومية ومن أنظمتها ومن قواها الرئيسة، وهو الأمر الذي مهّد الطريق أمام تيار "الإسلام السياسي" لملء الفراغ الناجم عن ضربة الحركة القومية (أو الجزء الأكبر منها) وعن تراجع "المدّ" اليساري بعد أن انتصر الغرب انتصاراً كاسحاً في نهاية "الحرب الباردة".

"السلفيون" انتعشوا في بعض البلدان العربية و"التكفيريون" و"الجهاديون" وجدوا "بيئة مناسبة" في آسيا وعادوا منها "لتحرير" أوطانهم بقوة الأيديولوجيا والتطرف والعنف.

لكن حركة "الإخوان" وهي الحركة الراسخة في الحياة الاجتماعية العربية كانت الجهة المؤهلة للقفز على المسرح السياسي.

لم تفهم حركة "الإخوان" أن المسرح السياسي قد أعدّ على عجل، ولم تمانع في التحالف مع الولايات المتحدة من أجل بقائها هناك. عند هذه النقطة أبدت حركة "الإخوان المسلمين" اعتدالاً دعائياً مزيّفاً (كان في الحقيقة للتصدير وليس للاستهلاك الحقيقي المحلّي) وبهدف تجاوز مرحلة "التمكين" بأقل الخسائر. الآن يتبين أن شعارات الدولة المدنية والمشاركة السياسية والتعايش الوطني لم تكن قابلة للتحول إلى برامج وأنها لم تكن سوى خدعة الوصول إلى السلطة أو الشَرَك الذي نصبه "الإخوان" لمجتمعاتهم بهدف إغواء هذه المجتمعات ليس إلاّ.

الكارثة التي ألمّت بالتيار كله الآن هي افتضاح استخدام الدين في السياسة باعتباره تجارة سياسية رخيصة وضارّة بصحة المجتمع، وانكشاف أسلحة شيطنة المجتمعات والفئات والجماعات الوطنية باعتبارها عملية سياسية وليس دينية، وهو الأمر الذي حوّل تيار "الإسلام السياسي" في الواقع إلى متهم سياسي مطلوب للعدالة الشعبية عموماً، وقد يتحول إلى مطلوب للعدالة القضائية في بعض المناطق والبلدان.

هذا الذنب الأول تتحمله حركة "الإخوان وقبل أية جماعة أخرى.

"السلفية" الدعاوية تستطيع أن تجد لها مكاناً في المستقبل (بحدود أضيق من السابق وبكثير وبما لا يقاس) و"الإسلام الجهادي والتكفيري" ليس أمامه سوى مواجهة الدولة الناشئة (الدولة المدنية الجديدة) ومواجهة قطاعات واسعة جداً من الشعوب وهو الأمر الذي يعني حتمية اندثاره وهزيمته.

لهذا تبقى حركة "الإخوان" هي الكتلة الوحيدة في إطار هذا التيار (على الرغم من مسؤوليتها التاريخية عن هزيمته) القادرة على تدارك الوضع وإعادة تنظيم الصفوف.

المشكلة أن المراجعة والتراجع تبدو مسألة صعبة في المدى المباشر، وإلى أن يتم ذلك ستخسر حركة "الإخوان" أضعاف أضعاف خسارتها للسلطة في مصر.

حركة "حماس" هي جزء من الحالة الوطنية الفلسطينية من الناحية الموضوعية (بغض النظر عن خصومتها وعدائها للوطنية الفلسطينية) مطالبة اليوم وبأسرع وقت ممكن بالتراجع والمراجعة. إذا أصرت حركة "حماس" على التعلق بأوهام استعادة السلطة في مصر فستكون خسارتها كارثية، أما إذا راجعت وتراجعت وأبقت لنفسها مساحة كافية للمناورة فإن الجسد الفلسطيني بل وربما العقل الفلسطيني وأحياناً القلب الفلسطيني جاهز للتسامح والتصالح بل وحتى الاحتضان.

لا أقول ذلك من باب الشماتة ولا من باب التودّد، بل أرى أن الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني ترغب بكل جوارحها ومن صميم قلبها أن تتم المراجعة وأن يتم التراجع والبيت الفلسطيني هو البيت الآمن الوحيد لكي تكون حركة "حماس" في الموقع الذي تتمناه لها في إطار العملية الكفاحية لشعبنا ضد أعدائه وعلى طريق تحرره واستقلاله.

السلطة في القطاع ليست ملاذاً آمناً لأحد، والحقيقة أن كل السلطة الوطنية ليست ملاذاً آمنا لأحد. الملاذ الآمن هو وحدة الشعب الفلسطيني وتوحد كل قواه في مواجهة الاحتلال. والشرعية الفلسطينية هي شرعية وطنية تحررية على الرغم من كل ما يمكن أن يقال حولها وحول أدائها وآليات عملها وغيرها من المآخذ والملاحظات والنواقص والأخطاء.

وإلى أن يتم تحرير أرضنا وحصولنا على حقنا في الحرية والاستقلال فإن الشرعية الوطنية الفلسطينية هي هُويّة الشعب وهي خيمته ومظلّته، وهي حالة وطنية كفاحية بحكم التاريخ والمسيرة وبحكم أطماع إسرائيل وسياساتها وبرامجها ومخططاتها.

وجود حركة "حماس" في إطار هذه الشرعية هو قوة للشرعية ولكنه قوة لحركة "حماس"، أيضاً، وهو أحد أسباب مَنَعَة الشعب في مواجهة التحدّيات وهو أكبر حماية لحركة "حماس".

إن وجود حركة "حماس" الفاعل في إطار الشرعية الوطنية وكجزء أصيل منها يقتضي التخلّي التام عن تنصيب حركة "حماس" لنفسها باعتبارها الحزب الذي "يمثل" الدين الإسلامي، فهذه الحكاية انتهت أيها الأصدقاء، وعلى حركة "حماس" أن تغادر ساحة "الأسلمة" وإلى غير رجعة، ذلك أن مجتمعنا هو مجتمع مسلم قبل أن تؤسّس الحركة وقبل أن تؤسّس حركة "الإخوان" نفسها.

المجتمع الفلسطيني بحاجة إلى الجهد الوطني لحركة "حماس" وليس لجهدها "الديني". وإذا كان من أهمية وضرورة للجهد الديني فإن هذه المسألة هي مسؤولية تربوية ودعوية للمجتمع كله وليس لحزب خاص بهذا الشأن.

ومن أجل أن تكون حركة "حماس" جزءاً أصيلاً وفاعلاً في إطار الشرعية الوطنية عليها تغليب السياسي على الديني، وعليها أن تنخرط في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ببرامجها، وتنافسية هذه البرامج هو مقياس النجاح الوحيد، أما الاختباء وراء المقدس لتحقيق أهداف سياسية (دنيوية) وخاصة، فهذا لم ينفع "الإخوان" حتى ينفع حركة "حماس".

حركة "حماس" على مفترق طرق، والأمل أن ترتفع حركة "حماس" إلى مستوى المسؤولية في حماية دورها أولاً، وتراثها ثانياً، وفي الإسهام المطلوب منها في المعركة الوطنية ثالثاً. فهل تراجع الحركة نفسها وتتراجع خطوات إلى الوراء لكي تخطو الخطوات الواثقة إلى الأمام؟

وهل تكون المصالحة الوطنية العباءة التي من خلاها سنتمكن كشعب فلسطيني من حماية حركة "حماس" من نفسها ومن المتغيرات التي يمكن أن تودي بدورها؟

المصدر: 
الأيام