من خروج أبو عمار إلى مجيء عباس

بقلم: 

العام 1974 ذهب الرئيس سليمان فرنجية إلى الأمم المتحدة متحدثاً باسم العرب في القضية الفلسطينية. ولما عاد إلى بيروت لعلع رصاص الترحيب. وبعد ذلك بقليل سافر ياسر عرفات من بيروت إلى نيويورك، مخترقاً المتوسط والأطلسي وحاجز تلك المدينة التي تعتبر أكبر وأغنى مجمَّع يهودي، بما في ذلك إسرائيل. ولما عاد، اشتعلت بيروت. مدافع وراجمات وأراغن ستالين. وظلّت تشتعل وترعد إلى الصبح.
كانت الرسالة، بطولها واستفاضتها، شديدة الوضوح: دولة لبنان، المتمتعة بالقوة والنفوذ والسلاح، ليست في بعبدا. كان ثلاثة أرباع لبنان يومها في "ظل المقاومة الفلسطينية" وجناحها العسكري "الكفاح المسلح". وكانت للمقاومة مشافيها ومصارفها ومدارسها. وكانت لها، خصوصاً، خاصرتها. كلما حاول أحد توسُّل شيء من الهدوء أو القانون، قيل له، يجب حماية خاصرة المقاومة.
لم تكن الفكرة جديدة. من أجل الهند استعمر البريطانيون عدن بخمسة آلاف جنيه، لكي تكون محطة لتزوّد الفحم الحجري. وكانوا يسايرون المسلمين في العراق، خوفاً من تمرّد مسلمي الهند. وحصلت أميركا على هاواي وانتشرت أساطيلها في المحيطات وقواعدها في الجهات الأربع، وظلّت تذهب إلى فيتنام أو أفغانستان، من أجل خاصرتها الأمنية.
مآل الدول الصغيرة أنها تقع في استراتيجيات القوى، عند الخاصرة، أي فوق الزنار وحواليه وتحته، وفقاً لأدبيات السهل الممنوع. أفُل العهد الفلسطيني ودانت للعهد السوري فبرزت الخاصرة أولاً. خائن من يعرّضها للخطر.
من 1968 إلى 1982، كان لبنان تحت خاصرة المقاومة الفلسطينية. أو فلنقُل طوال 15 عاماً، وهي الفترة التي قال أبو عمار إنه حكم خلالها لبنان، من غير أن يحدّد التواريخ وانتهاء الصلاحية.
خرجت المقاومة الفلسطينية يتقدّمها أبو عمار العام 1982 بعدما استباحت إسرائيل أول عاصمة عربية منذ 1948. لكن إسرائيل لم تهزم ياسر عرفات. كان في إمكانه البقاء فترة أطول. جمهوره، وفي طليعته صائب سلام، قال له، لقد دفع لبنان ثمناً لا يتحمله أحد سواه. رجاء.
فجأة تغيّر كل شيء. "الأبوَات" الذين كانوا يحكمون بيروت ويمنحون اهل الجنوب أذوناً خاصة بزيارة حقولهم، تفرّقوا، وصولاً إلى تونس. القادة الذين كنت تحتاج إلى وساطة لمقابلتهم، صرت تلتقيهم في العواصم العربية عند الأصدقاء المشتركين. جميعهم لم يكونوا يخفون الندم "على أيام بيروت"، وخصوصاً أبو عمار، وعلى الأخصّ، أبو اياد صاحب الجملة الشهيرة "طريق فلسطين تمرّ في جونيه". الجملة التي أدَّت إلى انكسار "الحركة الوطنية" وانعكاس الاتجاه.
بعد أربعة عقود على 1974 جاء الرئيس محمود عباس في زيارة رسمية إلى لبنان. ومن بيروت أعلن أن الفلسطينيين في حماية الدولة والشعب. طبعاً هذا الرجل البالغ اللياقة يعرف أن الشعب والدولة عاجزان عن حماية لبنان من أي عصف داخلي أو عاصفة خارجية. لكن هذه لغة رجال الدولة، ولو أن فلسطين لم تصبح دولة بعد.
الثابت الوحيد في السياسات هو متغيّراتها وتقلّباتها. من كان يخيّل اليه أن المقاومة الفلسطينية سترحل عن لبنان، كان يتهم في وعيه، وأيضاً في ضميره الوطني. ومن كان يتخيل أنه سيأتي يوم يقول فيه آخر مؤسسي "فتح" إن الفلسطينيين في حماية لبنان، كان به مسّ.
جاءنا الرئيس عباس ونحن في ظلّ لغة مشابهة بل منسوخة عن اللغة السائدة 1974. الحكومة لا تُشكَّل، خوفاً على خاصرة المقاومة. و"حزب الله" يذهب إلى القتال في سوريا استباقاً لوصول التكفيريين إلى المقاومة، أو تعرّض محور الممانعة للخطر. وسلاح المقاومة أقوى بكثير من السلاح الفلسطيني آنذاك، أو من سلاح الدولة التي "ركَّبت" أنابيب إضافية للمروحيات في كاراجات مصالح الجيش، أيام نهر البارد ونضال شاكر العبسي. لكن المقاومة التي تجعل خاصرتها الآن مرة في كفرشوبا، ومرة في القدس، ومرة في القصير، هي مقاومة من لبنان ولن تُبحر إلى أثينا. وسوف يكون الصراع حول دورها طويلاً.
هذا هو الشرق الأوسط. تحوّلاته أكثر من ثوابته وأكثر دواماً. ظلّت مصر في ظلّ الفرعون آلاف السنين ثم في أقل من سنتين انتفضت على فرعونين، متجذّر، وهاو متدرّب. مصر الغلابة والعمدة والفلاحين وواخد بال سيادتك، خرجت من بيوتها تهتف "ارحل"! امتلأت ساحات العرب الساكنين السكون الأبدي بصرخة ارحل، بدل النشيد السادي المازوشي: بالروح، بالدم! تغير في أميركا نحو سبعة رؤساء وسقط ديغول في فرنسا وتاتشر في بريطانيا وأنديرا غاندي في الهند وانهار الاتحاد السوفياتي وانتهى حكم الرجل الأبيض في أفريقيا، والأخ قائد ثورة الفاتح يدفع الهتّافين إلى شوارع ليبيا: بالروح، بالدم!
جاء محمد مرسي العياط بعد ثورة أطاحت التأبيد والتوريث وإعادة عصر الباشاوات وتحويل البلد إلى عِزبة. اسمحوا لنا ألاَّ نكفّ عن تكرار ابن خلدون: أول ما يفعله المغلوب، تقليد سيّده. قيل للرئيس مرسي إن الملايين في الخارج تطالب برحيله، قال: "ما يتعدّوش المية وستين ألفاً". أراد أن يثبت أنه رئيس لكل مصر لا للإخوان: فعيَّن قبطياً مستشاراً لشؤون ماذا؟ لشؤون الديموقراطية. الممثل الكوميدي سمير صالح تضبطه زوجته في السرير مع امرأة أخرى فيبادرها سريعاً: ما تفهمينيش غلط!
رفض مرسي أن يرى ما رفض مبارك أن يراه: الشعب يهتف ضد الفرعون وليس له. ورفض أن يسمع ما تريده الناس، حياةً لا خطباً، حرية لا صدوراً منقبضة مثل عذاب القبور. رفض أن يسمع تركيا تنتفض على رغم ما حققته من اقتصاد، والبرازيل تشتعل بسبب زيادة 9 بنسات على سعر تذكرة الباص، واليونان تشتعل بسبب التقشف، وحتى استوكهولم، بحيرة البجع والهدوء، تحترق على رغم كونها المدينة الفاضلة. أو أفضل.
لم تبلغ مخيّلة أفلاطون أو الفارابي ما بلغته دولة أسوج من الرقيّ البشري، لأن الإنسان مصدر الحكم، لا الحزب، ولا الرئيس، ولا الجماهير. العقل لا الهياج. البقر مقدّس في الهند لكنه لا يُعطى وزارة الزراعة. ولا يكفي المصري أن يكون إخوانياً كي يقود طائرة أو يصمّم طريقاً جديداً في الدلتا.
العالم ينتفض في اتجاهات كثيرة. تعلّمت الجماهير أن تخرج من أجل حريتها لا من أجل المستبدّ بها. لم تعد تطيق أن يُكذّب عليها وملّت الكَذِب عليه من أجل رغيف يشبه الخبز الأسود في عهد الإقطاع. ليس معقولاً أن الأتراك خرجوا في 30 مدينة من أجل حديقة. لم يعد التركي يقبل أن يكون مواطناً كاملاً في ألمانيا، وفي تركيا في حاجة إلى مرشد. ولا عاد يقبل أن يقتسم رجل واحد مفتاح الوطن ومفتاح الجنة. توقّفت المسيحية عن بيع الأراضي هناك منذ القرون الوسطى. الآن يحلم بعض المصريين "بخلوّ رجل" في مدافن القاهرة. هؤلاء هم الذين خذلهم مرسي عندما اكتشفوا أن الإخوان لا يملكون مصباح علاء الدين، الذي طالما وعدوا به. يملكون خبرة طويلة في المعارضة لا في الإدارة. منظَّمون في السر لكن الدول ليست جمعية سرية.
تقوم الدول على قاعدة واحدة: العدالة والقانون. روسيا القيصرية انهارت بفقدانهما وروسيا السوفياتية كذلك. اديروا بالسبّابة مجسّم الكرة الأرضية وتأمّلوا دولها وشعوبها. لا حزازير في الأمر ولا فلسفات ولا ما يقوله هيغل: الدول الهانئة في ظلّ القانون، والشعوب البائسة خارجه. لا تجرّبوا استخدام الكلمات الطنانة والتعابير المنحوتة من مخدرات الفراغ. القاعدة لا تخطئ ولا تتبدل: عندما تضع قدمك على الأرض، تتحرّك طوعاً إلى الأمام. لذلك سمّي التقدّم. في الإنكليزية لا تسمّى عودة السيارة إلى الخلف "سرعة الوراء". تسمّى "العكس". عكس التقدّم. عكس الطريق. عكس الصراط. عكس العقل.
قال لي صديق يقيم في الخليج قبل سنوات: لقد اتخذت خياري. الإجازة في كيرالا. الطبابة في كيرالا. شراء التقنيات من كيرالا! أليست كيرالا هذه في الهند؟ نعم. أليست أبعد عن دبي من بيروت؟ تماماً. إذا، لماذا "ليس زؤان بلادك ولا القمح الصليبي؟" قال: لأنني شبعت زؤاناً. انتفخنا زؤاناً. لا شيء سوى الزؤان. لا حصاد سوى الزؤان. لا وعد ولا أمل إلا بالزؤان. هذا مثل ردّده أجدادنا أيام المجاعة، وكانت أرحم من مجاعة اليوم. لم يكن الجراد يلتهم سوى القمح. جراد اليوم لا يبقي شيئاً ولا يوفّر شيئاً.
أتمنى أن تصبح مصر يوماً مثل الهند. قبل ربع قرن صدرت رواية بعنوان "مدينة الفرح" عن فقر كالكوتا الرهيب. ومنذ الستينات لم أعد أذهب إلى الهند خوفاً من مشاهد الفقر في العراء. اذهبوا إلى مومباي الآن. أو إلى كالكوتا. أو إلى كيرالا. لا يزال الفقر عارياً في الطرق والبقر مقدساً. لكن الهند تقدّمت على نفسها مئات السنين. وحاكمها الحقيقي هو العلم. وصناعيوها الذين كانوا خدماً عند "الإنكليز" تملَّكوا أفخر صناعة السيارات في كانتربوري.
أكثر المشاهد تعبيراً من مصر، صورة وردت في تقرير للزميلة ديما صادق من القاهرة: "ولِّية" خرساء تتحدث بلغة الصمّ عما فعلته سنة من حكم مرسي لمصر. كرّرت السيدة الإشارة إلى فمها للنفي، بتأكيد النفي: "لا طعام"! اذاً يا مولانا، لا شرعية أيضاً. الشرعية لا تكسو ولا تُشبع. نزل الإخوان إلى الشوارع بأكفانهم. هل هذا هو العرض الوحيد على مصر؟ هل تجربة عام من مرسي شيء يُحسب على الديموقراطية؟ هل الديموقراطية ازدياد الجريمة 130% والسرقة 320% وعجز الموازنة 12% في عام واحد؟

المصدر: 
النهار