مهمة كيري إنجاز يهودية الدولة

بقلم: 

يثير تكثيف كيري زياراته للوطن العربي وخاصة الأرض المحتلة ريبة خاصة سواء من حيث كثرتها أو من حيث فصل الملفات العربية عن بعضها بعضاً، وخاصة الملف الفلسطيني، ضمن سياسة تكريس القُطرية العربية مما يعزل ويحاصر فلسطين عن العمق العربي وخاصة عن الحواضر الرئيسة الثلاث، بغداد ودمشق والقاهرة التي تعاني شللاً محلياً وقومياً . فهل هذا ما يحثه على الضغط لبلورة تسوية ما أو ربما تصفية ما؟ وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فما سبب تعنت الكيان الصهيوني الإشكنازي حيث يتشدد في شروطه؟ وهل يعمل الكيان وواشنطن معاً أو أن بينهما افتراقات معينة؟

لنضع دوماً في الاعتبار أن الكيان رغم كل ما مُنح وما لديه من إمكانات، فإن لسياساته حدودها التي تتحكم فيها واشنطن، مما يوجب البدء من هناك . فالولايات المتحدة كدولة عظمى تبدأ وتنتهي من مصالحها، ولكن حينما تكون في أزمة مالية/ اقتصادية يدفعها تمسكها بمصالحها إلى سياسات أكثر تشدداً وعنفاً، وهذا ما يصل بسياستها وسياسة الكيان حد التطابق، وإن واصلتا التظاهر بفوارق ما بينهما وهذا ما يُغري بعض العرب بعدم رؤية محدودية الكيان ومن ثم اعتقاده بأن “اليهود” يتحكمون في الولايات المتحدة .

يكمن تعثر تحليل كثرة منا في تجاهل أو جهل ارتكاز سياسة الولايات المتحدة على أن وجود الكيان مسألة مقطوع بها، وهذا يترتب عليه الإصرار على أن كامل فلسطين يجب أن تبقى تحت سيطرة الكيان، وهذه مصالح تتجلى في سياسة وتغلف بغلاف الدين السياسي الذي أرساه مارتن لوثر قبل قرون عدة وجددته المحافظية الجديدةNeo-Conservatism  مع بداية هذا القرن والتي لا يختلف معها الحزب الديمقراطي أيضاً .

ولعل واقعة رفض الولايات المتحدة عضوية افتراضية لفلسطين في الأمم المتحدة هي الدلالة التي لا نزاع فيها . فلو كانت واشنطن بصدد دعم “دولة” للفلسطينيين حتى ولو في “غزة-أريحا” وحدهما لما وقفت ضد الدولة الافتراضية . وعليه، فإن أي تحليل سياسي لا يبدأ من هذه الوقائع، لا بد أن يغوص في متاهة حتمية .

إن المعنى الحقيقي لموقف واشنطن هذا هو دفع الفلسطينيين للإقرار بيهودية الدولة، أي يهودية فلسطين بأسرها، بمعنى أن تكون فيها دولة واحدة ، لا دولتان، هي الدولة اليهودية، ارتكازاً على ثلاثة أسس هي روافع موقف الكيان الصهيوني وهي: الإيديولوجيا الصهيونية التي لا تنحصر أساساً في فلسطين، والموقف السياسي لسلطة الكيان التي تصر على تهويد كل فلسطين وترى اتفاق - أوسلو مرحلة انتقالية باتجاه التهويد الكامل، والموقف التوراتي الذي يرفض تقسيم فلسطين . هل نسمي هذا تبعية الكيان لواشنطن، أو العكس؟ لا قيمة كبيرة لمماحكات من هذا النمط .

 

المناخ العربي والفلسطيني

في الجانب الآخر، تتمسك السلطة الفلسطينية باتفاق أوسلو الذي لم ينص على دولة فلسطينية، وتنخرط معظم التنظيمات الفلسطينية في هذا الاتفاق وإن بدرجات، ومن ضمن ذلك المشاركة في انتخابات مجلس الحكم الذاتي في ظل اتفاق أوسلو وبقاء الاحتلال (مباشرة في جزء من المحتل 1967 ولا مباشرة في آخر) ولا تتردد في تسميته برلماناً! . وهذا التمسك بأوسلو يغطي، شاء أم أبى، سياسات الاحتلال العملية من حيث قضم الأراضي، والقمع والإفقار كدوافع للهجرة، والتي لا يعيقها سوى كون العالم باسره في أزمات اقتصادية . وتمسك السلطة بأوسلو يغطي على تهالك الموقف الرسمي العربي الذي يتلطى دوماً خلف الشعار الخطر: “نرضى بما يرضى به الفلسطينيون".

هذا المناخ الذي وصل في السنوات الثلاث الأخيرة، سنوات “الربيع العربي” إلى حالة من الانشغالات القُطرية مما عزل القضية الفلسطينية في زاوية عميقة الإهمال، وهو أمر يبدو “جميلاً” حين نقارنه بقيام مجموعة من وزراء الخارجية العرب بالتبرع نيابة عن الشعب العربي والفلسطيني بتبادل أراض مع الكيان الصهيوني!

قد تثبت صوابية تحليلنا هذا، السياسة التي تتبعها سلطة الحكم الذاتي في رام الله التي وصلت إلى عدم طرح أية شروط للذهاب إلى المفاوضات بما فيها وقف الاستيطان وانتهت إلى القبول بتعهد من الولايات المتحدة، أي تخلت هذه السلطة عن التحرير والعودة، وحتى استدعاء الموقف العربي، لتضع الأوراق كاملة في يد الولايات المتحدة التي موقفها الحقيقي ما أوردناه أعلاه .

وأبعد من هذا، ففي حين تلتقي مواقف الكيان وواشنطن تماماً، نجد أن من يقرر أجندة الفلسطينيين هو شخص رئيس السلطة الفلسطينية وحده، فهناك غياب لمجلس الحكم الذاتي، وغياب لحكومة فاعلة وغياب للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وغياب بالطبع للمصالحة الفلسطينية . وهذه أمور لا نلوم الأنظمة العربية عليها، ولكن هذه الأنظمة كما يبدو، مرتاحة لها . وإلا، فإذا كانت ستنأى بنفسها تماما، فلماذا تبرعت مجموعة من وزراء خارجيتها أمام كيري بتبادل

 

أراضٍ؟

ولعل الأمر أشد خطورة، فإضافة إلى إصرار الكيان على البقاء في الأرض المحتلة ،1967 وقضم الأرض بعد الإلحاق الاقتصادي واللعب بالوقت في ما يخص الذهاب حتى إلى مفاوضات له فيها اليد الطولى، بل وحده الذي لديه يد، فإن الكيان الذي لم يعد يتوسع جغرافياً بعد صمود قوى المقاومة 2000 و2006 و2008-9 و،2012 قد استبدل ذلك بالتوسع الاقتصادي على الصعيد العربي . ولا مجال للحديث عن استثمارات فلسطينية في الكيان فاقت 5 مليارات دولار، وتشكيل مجلس أعمال “إسرائيلي” - فلسطيني منذ ،2007 ووجود استثمارات عربية مع شركات من الكيان، والعمل على تشريك البنية التحتية بين أكثر من قطر عربي والكيان، ناهيك عن المكاتب التجارية والتبادل التجاري . كل هذه الأمور تدفع قيادة الكيان للسؤال: وما الذي يدفعنا أو يغرينا أو يرغمنا على تفاوض جاد مع الفلسطينيين ليأخذوا دولة، أية دولة؟

إن قراءة أوسع قليلاً مما عرضنا، تبين أن الحديث عن مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة هي تقطيع وقت لا أكثر .

وربما يُجيز لنا القول إن التواصل الذي لا ينقطع بين الكيان والسلطة الفلسطينية والأنظمة العربية التي تقيم معه علاقات أو تحاوره من خلف حجاب، هو تواصل وحوار يقوم على موقف صهيوني واحد هو التالي: “داخل الغرف المغلقة يكون للتفاوض أجندة من جملة واحدة: متى سوف تعترفون علانية بيهودية كل فلسطين لدولة اليهود”؟

 صحيح أن هذا ليس موقف الشارع العربي ولا الفلسطيني، ولكن ذلك لا يعني أن القضية ليست في دائرة الخطر، بل هي حقاً هناك .

 قد يرى البعض في هذا مبالغة ما . ولكن لنقرأ آخر قرارات حكومة الكيان الصهيوني الذي قدم ومرر في الكنيست على يد حزبي الليكود والبيت اليهودي مشروع قانون للكنيست “الإسرائيلي” يقضي بتعديل قانون القومية وتحديد اسم “دولة إسرائيل” بدولة الشعب اليهودي، وقدمت عضو “الكنيست” من حزب “البيت اليهودي” أييليت شاكيد بموجب تفاهمات مع “الليكود” مشروع القانون الذي نص على تحويل ما يسمى “وثيقة استقلال إسرائيل” إلى قانون أساس، وترسيخ مبادئها في قرارات القضاء والهوية . أليس هذا مقدمة توضح للفلسطينيين والعرب والعالم أن أجندة المفاوضات هي فقط: اعترفوا بيهودية فلسطين؟

 بقي أن نؤكد، أن أية مفاوضات فلسطينية منفردة مع الكيان الصهيوني الإشكنازي مهما علا سقفها وتعددت شروطها هي في جانب الخسران البحت طالما هي معزولة عن البعد الرسمي العربي . أما ما يجب أن نرتفع ليكون موقفنا فهو، أن وطناً اغتصبه استعمار استيطاني لا موقع للتفاوض فيه . سيكرر كثيرون القول: هذا يتطلب وقتاً، نعم، ولكنه يُجدي وإن بعد حين إذا ما ارتفعنا إلى موقف: الحياة مقاومة لا مفاوضات .

 

 

المصدر: 
الخليج