«مَن التائه؟» لجلعاد عَتسمون.. دراسة في الهوية اليهودية

بقلم: 

يعتبر هذا الكتاب لفنان الجاز العالمي جِلعاد عَتسمون، من أكثر الكتب الجديرة بالاهتمام والانتباه لكل كلمة فيه؛ فعتسمون يكتب من زاوية نظر تقارب تلك الزاوية التي ينظر منها المؤرخون الجدد، ويتجاوز كثيرين منهم بانسلاخه، لا عن صهيونيته فحسب، بل عن هويته الإسرائيلية، ثم عن يهوديته، فيغادر الدولة العبرية ليعيش في لندن، ويظل يتقرب إلى العرب وثقافتهم وفنونهم، وخصوصا الموسيقية، وصولا إلى أن يُعرِّف نفسه على أنه «فلسطيني يتكلم العبرية»، ما يجعله يعيد النظر في قصة «اليهودي التائه» وأسطورته، عبر معاينة سياسة الهوية اليهودية، والأيديولوجيا اليهودية المعاصرة، بالاتكاء على كلٍّ من الثقافة الشعبية والنصوص العلمية، موجها، بذلك، نقدًا علميًا وعاطفيًا للهوية والسياسة اليهوديَّتين، بالتوقف خصوصًا عند السمة «القَبَلية» للهوية اليهودية التي أسهمت في تعزيز «الصفة العنصرية الاستعلائية، وإثنية التمحور» لليهودية. وعنوان الكتاب «من التائه؟» هو رد على أسطورة «اليهودي التائه»، الذي «حُكِم عليه بالتجول الأبدي» بحسب الأسطورة ذاتها.
يفتتح المؤلف كتابه بمقولة إسرائيل شاحاك «لقد جعلني النازيون أخشى أن أكون يهوديًا، وجعلني الإسرائيليون أشعر بالخزي لكوني يهوديًا». وهو ينطلق من شخصية جَدّه الذي يصفه بأنه كان «شخصًا كاريزميًّا شاعريًّا، إرهابيًّا صهيونيًّا مخضرمًا»، كما يصف تأثره هو بهذا الجد في سني نشأته الأولى، ويتوقف عند ما يعتبره تناقضات في شخصية الجد ومواقفه خصوصًا تجاه العرب، فهو، من جهة «احترم العرب، مُظهرًا تقديرًا لثقافتهم وديانتهم»، إلا أنه، من جهة ثانية «آمن أنه لا بد من مواجهة العرب عمومًا، والفلسطينيين خصوصًا، بجسارة وضراوة»، وذلك انطلاقًا من فلسفة جابوتنسكي «الجدار الحديدي»، ونشيده الذي كثيراً ما ردَّده الجَدّ «من حفرة العفن والتراب/ بالدم والعرق/ سوف ينهض لنا عِرق/ فخور وعنيف وكريم».
يُلخِّص عتسمون في مدخل كتابه هذا، مسيرة التحول الدراماتيكي الذي جرى في حياته، فهو ولد في إسرائيل، وخدم في جيشها لبعض الوقت، قبل أن تشهد حياته تحولاً فكريّا دراماتيكيّا، فهاجر إلى أوروبا واستقر في بريطانيا، ليصبح منذ العام 2002 مواطنًا بريطانيًّا، وكرَّس وقته للفن والكتابة، فاضحًا في كتاباته ممارسات إسرائيل، ومحللًا سياسة الهوية اليهودية. وبما أنّ إسرائيل تُعرِّف نفسها علنًا باعتبارها «دولة يهودية»، فإن تساؤلًا أساسيًّا يستتبع هذا التعريف الحصري والإقصائي، هو «ما الذي تمثّله مفاهيم مثل الديانة اليهودية والأيديولوجيا اليهودية والثقافة اليهودية؟». وفي محاولة عتسمون الإجابة عن هذا التساؤل، يحلِّل الخطاب السياسي والثقافي اليهودي العلماني، الصهيوني والمناهض للصهيونية، وما يتخلّله من جوانب قَبَليّة، كاشفًا التناقضات التي تكتنف ما يوصف بالخطاب اليهودي التقدمي.
لكن هذا التحول لم يكن دراماتيكيًّا تمامًا، بل عبر تراكمات صغيرة منذ كان عتسمون فتى يافعًا، حيث كانت له أسئلته حول الكثير من الموضوعات التي لا يجوز التساؤل حولها، ففي سيرته مثلًا، أنه في الرابعة عشرة من عمرهن وأثناء زيارة مدرسية لمتحف الهولوكوست الإسرائيلي، سأل «المرشدة العاطفية» بعد أن شرحت قصة المحرقة ما إذا كان «في إمكانها أن تفسر حقيقة أن كثيرًا من الأوروبيين كانوا يُكنّون قدرًا كبيرًا من البغضاء لليهود في أماكن عدة في الوقت ذاته؟»، فتم فصله من المدرسة لمدة أسبوع». ويضيف حادثة ثانية أدت إلى فصله أسبوعًا من المدرسة، فيقول «يبدو أنني لم أتعلم الدرس اللازم، ذلك أننا حين درسنا «فرية الدم» (تنقل المترجمة تعريف هذا المفهوم من موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ويعني اتهام اليهود بأنهم يقتلون أطفالًا مسيحيين في عيد الفصح سخرية من صلب المسيح..الخ)، تساءلت بصوت مرتفع كيف يمكن للمدرس أن يعلم أن هذه الاتهامات كانت باطلة؟».
وفي دراسته، يستعين المؤلف بالنص اللاهوتي والإحالات التوراتية، في تفكيك الأسطورة وتفنيد إسقاطاتها، علاوة على تجريد العديد من المفاهيم من قداستها المزعومة، وهي قداسة جعلت مجرد مقاربة بعض تلك المفاهيم دخولًا في باب التجديف، الأمر الكفيل في الغالب بوسم المشكِّكين والمتسائلين والباحثين المدقّقين و«النابشين» في عظام التاريخ بتهمة «معاداة السامية» الجاهزة. وبالنسبة إلى عَتسمون، فإنّ خدمته الوجيزة في الجيش الإسرائيلي، إبّان الاجتياح الإسرائيلي للبنان، شكّلت منعطفًا جذريًّا في حياته، فهناك اكتشف، كما يقول، بأنه كان «جزءًا من دولة كولونيالية، تأسست على النهب والسلب والتطهير العرقي للسكان الأصليين»، أي الفلسطينيين.

كما يعاين المؤلف الموقفَ السياسيَّ اليهودي إزاء التاريخ والزمان، ودور الهولوكوست وما يصفها بـ«ديانة الهولوكوست»، والأيديولوجيات المعادية لغير اليهود المتضمّنة في أشكال مختلفة من الخطاب السياسي اليهودي العلماني، بل حتى في اليسار اليهودي، وجماعات الضغط اليهودية والتحشيد الصهيوني، وغيرها من القضايا الجوهرية. ويتساءل صراحةً «ما الذي يجعل اليهود في الشتات يتماهون مع إسرائيل، مؤيدين سياساتها؟ إن «إسرائيل والصهيونية»، من وجهة نظره «ليستا سوى جزأين من المشكلة اليهودية الأكبر، بعدما باتتا المعرِّفيْن الرمزيّيْن لليهودي المعاصر». ولقد قارن الأيديولوجيا اليهودية بالنازية، كما وصف سياسة إسرائيل إزاء الفلسطينيين بالإبادة الجماعية.
وهو يختم كتابه هذا بأسئلة تتعلق بإمكانية «تحرير خطاب الهوية اليهودي من الطغيان اليديولوجي والروحي الذي فرضه على نفسه؟ وما إذا كانت السياسية اليهودية تستطيع أن تنأى بعيدا عن نزعة التفوق؟ وهل يستطيع اليهود إنقاذ أنفسهم؟»، ويجيب بالقول «لكي تجعل الأيديولوجيا اليهودية نفسها عالمية، ولكي يمضي اليهود قدما ويقوموا بإعتاق أنفسهم، يتعين القيام بعملية تأمل ذاتي، صادقة ومفعمة بالحماسة»، ويرى أن هذا القيام بهذا المسعى يظل «مسألة مفتوحة».
وفي كلمة الشكر، يتعرض بالشكر إلى الماركسيين اليهود «الذين سعوا إلى الحط من شأني، والذين ما انفكوا منذ سنوات يتربّصون بي وبموسيقاي ليل نهار، فمن دون هؤلاء لم أكن لأستوعب العمقَ الحقيقيَّ للضراوة القَبَلية. فهؤلاء الذين يطلق عليهم ناشطون إثنيون يهود «مناهضون للصهيونية» هم الذين علموني أكثر من أي صهيوني متطرف المعنى العملي الحقيقي والمدمِّر لسياسة الهوية اليهودية».
يقول البروفيسور ريتشارد فوك، أستاذ القانون الدولي المتقاعد من جامعة برنستون، ومقرر الأمم المتحدة الخاص حول حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إن عتسمون يقدم في كتابه هذا «سردًا شائقًا وآسرًا لرحلته من قومي إسرائيلي متطرف إلى مواطن للإنسانية تجرَّد من الصهيونية، وبات مدافعًا متحمسًا عن العدالة من أجل الشعب الفلسطيني. إنها قصة تحول يرويها بنزاهة مطلقة، بحيث يتعين على أولئك كلهم (خصوصًا اليهود) المهتمين بالسلام، والمعنيين بهويتهم الخاصة، لا أن يقرأوا الكتاب فحسب، بل أن يتأملوه ويناقشوه على نحو واسع».
وأخيرا، فإن ترجمة الروائية الفلسطينية لهذا الكتاب (صدر حديثا في منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت، في 276 صفحة من القطع الكبير، ومدخل وخاتمة وأربعة أبواب واثنين وعشرين فصلاً، وصمم غلافه زهير أبو شايب)، تأتي بحجم المسؤولية التي تتطلبها هذه الترجمة، فتبذل جهدا لغويا متميزا، كما تجهد في وضع المصطلحات السياسية والفكـــــرية المناسبة للمناخات التي يشتغل بها المؤلف، وإلى جانب الهوامش الأصلية، حرصت حزامـــــــــة على تضمين الكتاب بهوامش إضافية، تسلِّط الضوء من خلالها على عدد من المفاهيم والإحــــــالات اللاهوتية، والنظريات الفكرية والفلسفية، وغيرها. إضافة إلى قدر كبير من الهوامش التوضيحية الدقيقة والموسعة، التي تساعد القارئ على التعرف بصورة معمقة على «العوالم» التي يعمل عتسمون في إطارها، وبقدر من الالتزام الموضوعي أطروحات هذا الكاتب الفنان الذي بـــــــــات شديد الإثارة للجدل في إسرائيل، كما في الأوســـــــاط الصهيونية المؤيدة لها.

المصدر: 
السفير