القدس في عين العاصفة تنادي ‘القدس أولاً’

بقلم: 

سبق لي أن كتبت عدة مقالات صحافية تحت عنوان ‘القدس في خطر’ وكتبت مجموعة مقالات أخرى تحت عنوان ‘القدس أولاً’، واليوم اعود للقول ‘القدس أولاً ‘لأن المدينة المقدسة في خطر حقيقي اشد من ذي قبل، فالاعتداءات عليها والتهويد ضدها وتهجير المؤسسات منها وتقييد الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فيها، وغيرذلك الكثير من الممارسات الاحتلالية الاستيطانية، كلها تضع القدس في عين العاصفة، ما يتوجب معه وضع هذه المدينة في مقدمة الاهتمامات ومواصلة الحديث عنها في كل لقاء عربي إسلامي أو دولي، أو حتى على الصعيد الوطني تحت عنوان ‘القدس أولاً’ ودائما. ولو ان للقدس فماً ولساناً لاطلقت من اعماق اعماقها نداء موجعاً يتردد صداه في مختلف ارجاء العالم العربي الاسلامي، ولدعت من حشاشة قلبها ابناء هذه الامة، التي كرّمها الله سبحانه وتعالى بالاسلام، الى النفير العام، والذود عن حاضرها المهدد بأخطار ترى بالعين وتلمس باليد، صباح مساء، من جانب احتلال غاشم، يسابق الزمن في سعيه المحموم لاسرلة اولى القبلتين، وتهويد مسرى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولخاطبت الوزير الامريكي في جولاته المكوكية لتقول له بكل وضوح لا تخطئ فالقدس أولاً وهي مفتاح الحل، وهي عنوان التقدم والنجاح، كذلك لو كان للقدس ذراعان طويلان لرفعتهما الى عنان السماء ضراعة لله تعالى، ان يحفظ القدس ومقدساتها وناسها ومؤسساتها الوطنية من شرور ما يتهدد حالها جهاراً نهاراً من مخططات ومن عدوان ممنهج، ومن عسف وجور وتهميش، لم يسبق لها ان واجهت مثله سوى في حقبة الفرنجة قبل نحو الف عام، حين تقاطروا من وراء البحار، ليمحوا فيها كل أثر للاسلام والمسلمين.

وليس المقام مقام استدرار العواطف واستمطار الدعاء وحده للقابضين على جمرات الصمود ومكامن الثبات في بيت المقدس، بل هذه ساعة من ساعات العمل الجاد المثابر لانقاذ القدس من هول ما يحدق بها من مخاطر جسام، يجدر بكل ذي رأي، وبكل صاحب مسؤولية، ان يبادر من دون تردد او تسويف، الى القيام بما يمليه عليه ضميره الشخصي وواجبه الاسلامي نحو أولى قبلة المسلمين، لتكون القدس ولتظل أولاً في الاهتمام والدعم والاولوية في المفاوضات. ومع ان الهجمة الاحتلالية الاستئصالية على القدس لم تتوقف على مدى نحو ستة واربعين عاماً، غاصة بكل الشواهد العيانية والملموسة على مظاهر تهويد المدينة المقدسة وتغيير هويتها الحضارية ومعالمها العربية الاسلامية الخالدة، الا ان ما يتعرض له بيت المقدس، واكناف بيت المقدس في الاعوام القليلة الماضية، هو الآن اشد خطراً واوسع نطاقاً واعمق اثراً مما كان عليه في اي وقت مضى من عمر احتلال جائر يواصل عملاً منهجياً دؤوباً لتغيير وجه القدس وتبديل طابعها التاريخي الموروث. اذ يبدو انه في غمرة انصراف العواصم العربية والاسلامية المعنية، كل منها الى شأنها الخاص، ومع تفاقم ازمات المنطقة وانفجار ازماتها الموضعية في معظم البلدان المجاورة لفلسطين، راحت اسرائيل تمضي بسرعة اكبر، وتسعى بعزم اشد، لاستثمار ما ترى انه فرصة سانحة، حتى لا نقول فرصة تاريخية قد لا تتكرر، كي تنتهي من تنفيذ كل ما خططت له من افعال غير شرعية، وتوظيف ما رصدته من اموال طائلة، لاختطاف القدس من بــــين ايدي اصحابها الشرعيين بصورة كلية أو شبه كلية، وتحويل أرضها ومعالمها وآثارها وهوية سكانها، الى مدينة يهودية كاملة.

ومع ان الهجمة الاستيطانية الشرسة تبدو للمراقب عن بعد كأنها واحدة من الاخطار الاعتيادية الداهمة للقدس والمقدسيين، الا ان صورة الوضع عن كثب، تبين ان المدينة المقدسة مهددة اليوم بسلسلة لا حصر لها من عدوان وافعال منهجية بعيدة المدى، هادفة الى كسر روح القدس ومصادرة هويتها، المتمثلة في مصادرة الاراضي وبناء المستوطنات وهدم المنازل، وسحب الهويات، وفرض الضرائب والرسوم والغرامات، ناهيك عن السجن والاعتقال والابعاد، وتضييق فرص العيش والحياة، وكل ما من شأنه ان يضعف من قدرة ابناء القدس على الصمود ومواصلة التصدي لمخططات الاحتلال.

ولو شئنا ان نقرب الصورة اكثر فاكثر لاخوتنا المسلمين واشقائنا العرب وللمجتمع الدولي في كل مكان، لما اتسع المجال لشرح ما تعانيه المدينة المقدسة، وما يكابد ابناؤها من مشكلات ومصاعب تشمل كل مناحي الحياة، سواء اكان ذلك في مجال التعليم، او على صعيد الصحة، او التجارة والصناعة، والسياحة، والاقتصاد، والشؤون الاجتماعية، وفرص العمل والاعمال المالية والمصرفية، وغير ذلك الكثير مما يتعلق بأسس البقاء، واسباب الانزراع في الارض، ومقومات الصمود والمقاومة، حيث تبدو المعركة غير متكافئة، بين كف يد عارية ومخرز غاصب مدجج بالكراهية والحقد والاطماع والقوة والخرافات. غير انه يحسن بنا في غمرة المشهد المقدسي الراعف من الجراح، ان نلقي بعض الضوء على ما يحيق بالمسجد الاقصى وغيره من المقدسات الاسلامية والمسيحية في مدينة القدس هذه الايام، لا سيما مع تزايد عمليات اقتحام باحات المسجد الاقصى، وتواتر الهجمات من جانب قطعان المستوطنين على ثراه الطهور، تحت سمع قوات الاحتلال وبصرها، بل تحت رعايتها الكاملة وعلى مسمع من العرب والمسلمين والعالم كله، وبفعل تشجيع حكومة الاحتلال وقواتها لهؤلاء الرعاع، لارساء سوابق تمهد لقفزة مخطط لها بعناية، تماماً على نحو ما جري للمسجد الابراهيمي في الخليل. وتتجلى خطورة هذه الافعال الاستفزازية الخبيثة اكثر فاكثر، اذا علمنا انها تتم في سياق منسق مع عمليات حفر وأنفاق وتنقيب مستمرة منذ زمن تحت اساسات المسجد الاقصى من الجهات الاربع لتعريضه للانهيار، وفي كل ركن من اركان البلدة القديمة داخل الاسوار، بحثاً عن كل حجر، او اثر تاريخي ملفق، يمهد لاعادة بناء ما يسمى بهيكل سليمان المزعوم، عندما تتيقن الدولة العبرية ان خطوة هدم المسجد الاقصى، او تقويض اساساته، لن تلقى رد فعل عربي اسلامي مواز لمثل هذه الفعلة الحمقاء.

اذ لم تعد مثل هذه النوايا الاسرائيلية ضرباً من ضروب الخيالات والافتراضات المبالغ بها، من جانب كل من يرى بأم عينيه ويسمع بملء اذنيه ما تقوم به اسرائيل من افعال يومية في المدينة المقدسة وفي حاراتها ومحيطها، وما تواصل ارساءه من حقائق ملموسة على الارض، بما في ذلك التوسع المحموم في ساحة البراق، او ما تسميه حائط المبكى، ناهيك عن مصادرة العديد من المباني في البلدة القديمة، والاستيلاء على ممتلكات المقدسيين الغائبين، خصوصاً في اراضي حي الشيخ جراح وفي أراضي سلوان وفي القصور الاموية، وغيرها من المعالم والآثار المقدسة العربية والاسلامية. واذا ما رغبنا ان نوجز المشهد في عدد قليل من الكلمات، لقلنا ان القدس تتسرب الآن من ايدي أهلها، شيئاً فشيئاُ، على مدار الليل والنهار وعلى مرأى ومسمع من الأمة العربية والاسلامية بل والعالم كله، وان هذه المدينة العربية الاسلامية الخالدة هي اليوم محل نهب ومصادرة واستيلاء لا يتوقف، حتى لا نقول انها محط برنامج يزداد شراسة وتوغلاً يوماً بعد يوم.

وبالتالي فان ترك القدس هـــــكذا نهــــباً لكل الاطــــماع امـــر من شأنه ان يخرج حاضر القدس ومستقبلها من دائرة التداول، ويحسم مصيرها سلفاً على مرأى ومسمع من الناس، كل الناس.

بكلام آخر، فإن مدينة القدس التي كانت على الدوام موضع استهداف مركّز منذ احتلالها، ومحل هجمة اسرائيلية منهجية متعددة الاشكال غداة ضمها بقوة احتلال عسكري غاشم عام 1967، تدخل الآن في غمار مرحلة اشد خطراً على حاضرها ومستقبلها معاً، وتتعرض الى ما هو اشد هولاً مما تعرضت له طوال تاريخها الحديث، ذلك ان مدينة القدس، بكل ما ترمز اليه، وما تتربع عليه من مكانة سامقة في وجدان الفلسطينيين والعرب كافة، باتت الآن في عين عاصفة استيطانية هوجاء، تهب عليها من كل الجهات على مدار الساعة، تود ان تمحو طابعها الحضاري، قبل ان تقتلع سكانها وتهود معالهما وتخرجها من نطاق كل مفاوضات محتملة. ولا اضيف شيئاً ان قلت، ان هذه الساعة هي ساعة عصيبة على القدس المدينة، ان لم اقل ان هذه الساعة هي اشد ازمنة القدس خطورة، ليس فقط على معمار المدينة، ولا على هويتها التاريخية فحسب، وانما كذلك على سكانها العرب الفلسطينيين، الذين يجدون انفسهم الآن وحدهم، مستفردين تماماً، مصادرين كلياً، كأنهم الايتام على مأدبة اللئام في هذا الزمن الرديء، وحقاً، لا يكفي الكلام وحده لتصوير ما يجري للقدس في عهد حكومة المستوطنين، وبيان ما يثقل على صدور ابنائها من ترهيب وترغيب، فقد طفح كأس المقدسيين بالمرارة، جراء ما يستبد بهم اليوم من مشاعر الوحدانية والتخلي والترك، حتى لا اقول الغضب المشوب بالاسى، ازاء من تقع عليه المسؤولية في تلبية النداء، والوفاء بما يمليه عليه واجب النصرة إن عزّ الرجاء.

ذلك ان ما يحدث للمدينة المقدسة وما يتفاقم في محيطها، من تقطيع اوصال وعزل وحصار، وما يتسارع فيها من مصادرات وبناء استيطاني وعمليات تهويد لا سابق لها على مدار سنوات الاحتلال، قد تجاوز في هذه الآونة ما يمكن لنا ان نسميه نقطة اللاعودة، وقوض الأسس التي يمكن ان تجري عليها عملية سلام محتملة. وبجملة واحدة، فإنه يمكن تشخيص حالة القدس في هذه المرحلة، بأنها مدينة تشهد استكمال الحلقة الاخيرة من تلك السلسلة الجهنمية، التي بلغت الذروة القصوى لها مع بناء جدار الفصل العنصري، واقامة ما يشبه بوابات الدخول بين الدول على مشارفها المختلفة، ونعني بذلك تكثيف البناء وتدشين الاحياء الاستيطانية، وتسريع الحفريات في البلدة القديمة، ناهيك عن مصادرة الارض وهدم منازل السكان العرب لصالح اقامة الحدائق التوراتية، واكمال عملية إغلاق المدينة المقدسة وعزلها عن محيطها العربي الفلسطيني.

لا يتسع المقام فعلاً لاستعراض كل ما تتعرض له مدينة القدس من عدوان صارخ، ومن عذابات يومية تثقل على الروح، خصوصاً بعد ان تجلّت لاسرائيل مظاهر ضعف الحالة العربية الفلسطينية، وصرف الربيع العربي الاذهان، كل الاذهان، عن القضية التي كانت حتى الامس القريب قضية العرب المركزية، وحدث كل ما جرى على خشبة المسرح الدولي من اختلالات، وما صاحبها من انشغالات، اقصت قضيتنا عن صدارة الاهتمامات الدولية.

وليس لدي شك في ان كل هذه الحقائق والوقائع المعروفة لنا جميعاً، نراها بأم العين، وتقرع اسماعنا طوال الوقت، الا اننا لا نظهر قبالتها اي استجابة كافية لمواجهة هذه التحديات، ولا نتعامل معها بما تستحقه من عناية واهتمام، حتى لا اقول الاهمال الشديد، والانهماك البالغ في الجري وراء نوافل الموضوعات، والاستغراق في تبادل كرة المسؤولية بين الاقدام، والاستمرار في لعن الظلام، سواء على الصعيد الفلسطيني المتمثل في تعدد المرجعيات بلا صلاحيات، وإدعاء المسؤوليات التي لم تقدم للقدس شيئاً يذكر، أو على الصعيد العربي والاسلامي الذي لم يضع القدس في المكانة التي تستحقها، ولم يقدم لها ولشعبها الصامد الصابر ومؤسساتها المهددة بالترحيل والاغلاق ما يستحق من دعم ومساندة تستحقها القدس ويستحقها شعبها ومؤسساتها الصحية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والاعلامية والاجتماعية. إن هذه مناسبة اخرى لاعلاء الصوت رغم كل هذا الصخب السياسي حول شتى المتغيرات، وهذه ساعة لايقاظ الضمائر من سباتها المديد، ومن ثم تحمل المسؤوليات من دون تأخير، فقد آن لنا ان نكف عن التعاطي مع قضية القدس بتحلل من المسؤولية، وان نقول عنها كل شيء من دون ان نقول شيئاً بعينه، وان نكتفي بالدعاء لها دعاء العجائز في المحنة، ولوم الظروف الموضوعية غير المواتية، ولنا مزيد من الثقة بأن أمتنا العربية والاسلامية ستظل تجد الفرصة المواتية والطريقة المناسبة لدعم مدينة القدس وحماية مؤسساتها من الهجرة والتهجير ودعم صمود أهلها. وستظل القدس البند الاول على اجندة المفاوضات، وهي تستحق الدعم قولا وفعلا قبل اية قضية اخرى، فمن القدس يتحقق السلام ومنها تندلع الحرب. وهذا هو النداء والامل والرجاء

المصدر: 
القدس العربي