الـفـتـحـاوي الــلافـتـحــاوي

بقلم: 

لم يكن إبراهيم برهوم يحب طقوس الموت وعاداته التي تُمارس لدينا، فظلّ يتهرّب، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، من التردُّد على بيوت العزاء.
ـ ولا الأعراس أيضاً. سأظلّ أتجنّب حضورها!( يضيف بقناعة تبدو راسخة).
حتى عرسه هو، لم يحضره، لأنه لم يُقمْ أصلاً. وكنّا نعيش معاً زمناً نعتقد فيه أن إقامة عُرس هو نوع من أنواع الرذيلة التي ينبغي اجتنابها، فتزوجنا في العام نفسه، وبالأسلوب المتقشِّف الذي عرفته بيروت آنذاك.
ليس للسّبب الأوّل، وانسجاماً مع قناعاته، فاتني حضور مراسم دفنه، أو التردُّد على بيت العزاء خلال أيّامه الثلاثة التي أقامها له أهله رغماً عنه، ولكن لأن إبراهيم لم يشأ أن يخبر أحداً أنه راحل، فغادرنا بصمت وهدوء لا يشبهان إلاّ صمته وهدوئه نفسه، وتركنا، نحن الأصدقاء، نعرف بالأمر بالمصادفات البحتة، فنذهب إلى بيته متأخرين، نتأمّل رفوف الكتب وأصص الورد التي تركها خلفه ومضى، فنشعر بالغصّة أكثر وبحسرة الفقدان. وكانت "ليلى" تستقبلنا، للمرّة الأولى، بكامل حزنها، ومن غير رفيق لم يفارقها من قبل!
وليس بسبب موقفه المبدئي والحازم من الأعراس، استنكف إبراهيم عن حضور حفل زفاف "ريم" ابنته، ولكن لأن المرض كان قد تمكّن منه في ليلة العُرس وأقعده تماماً، فانزوى بعيداً عن الفرح، قابعاً في بيته مع أنفاسه الشحيحة.
حدث ذلك قبل أسبوعين تماماً من رحيله الأبلغ صمتاً، في الخامس عشر من حزيران الموسوم دائماً بالأحزان. وأكاد الآن، أسمع صوت إبراهيم وهو يقرأ بصوته نصّاً حزيرانياً يفيض حُزناً، طالما أحبّه، وهو بضعة سطور من رواية صديقه الحميم تيسير سبول "أنتَ منذ اليوم"، لينتهي إلى جملته الأثيرة: "طاف رجل معظم بلاد العالم ورأى كثيراً من الكوارث ولم ير شعباً بأكمله يغرق في الحزن مثل شعبي"!
علني أتحدّث عن مزاج فنان، وليس عن رجل إعلام وصحافة، كما هو معروف عنه، يكتب بعربيّة سليمة واثقة ويتحدّث بانجليزيّة طليقة.
مزاج فنان، نعم. فقد تعرفتُ إلى ابراهيم برهوم في بيروت قبل عامين من انخراطه في العمل الإعلامي الفلسطيني، وسكنّا معاً بيتين على التوالي، الأوّل مع ثلّة أصدقاء في سوق الغرب، والثاني في شارع جان دارك قرب بوّابة الجامعة الأميركيّة، أعاره لنا جميل هلال، الذي سافر آنذاك في عمل أكاديميّ لإفريقيا.
كان ابراهيم، عندما تعرّفت إليه، يكتب الشِّعر، ولكن دون حماسة شديدة أو قناعات راسخة (هو على أيّ حال، وخارج أسئلة فلسطين، لا يبدو متحمساً لشيء، وقد ظلّ شعاره الأثير يتلخّص في مفردة واحدة تتكرّر على لسانه: يصطفلوا!). وكنّا نشاهد السينما كثيراً ونقرأ الشِّعر والرواية، دون أن يتخلّى عن متابعة "الإيكونوميست".
لم يكن إبراهيم، حتّى ذلك الوقت، قد وجد له مكاناً في مؤسسات فتح يُحقق فيها ذاته ويحسِّن شروط معيشته، رغم أنه من كوادر التنظيم الذين انتظموا مبكِّراً في إحدى الدورات الحركيّة التي أقيمت في ألبانيا، وقد ظلّ يمتلك رقماً مالياً يمنحه مخصصاً يكفيه كفاف يومه. لم يتردد حينذاك عن الكتابة التطوعيّة للصفحة الثقافيّة التي أنشأناها العام 1974 في مجلّة "الحريّة. وعندما تحدّث ياسر عبد ربّه بشأنه لياسر عرفات، أجابه الأخير: "هو مسؤوليتكم. أليس عضواً في الجبهة الديمقراطيّة؟!". "لا إنه عضو في حركة فتح"، قال عبد ربّه، مضيفاً: "وهو يقبض مخصصاً من ماليّة فتح". فردّ عليه أبو عمّار قائلاً: "إنه ليس عضو الجبهة الديمقراطيّة الوحيد الذي يقبض من فتح!"!
مع ذلك، تبنّاه أحمد عبد الرحمن وألحقه في هيئة تحرير "فلسطين الثورة"، ولم يخيِّب ابراهيم أمل رئيس تحرير المجلة المركزيّة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة فيه، وأثبت على صفحاتها، حضوره ومقدرته الكتابيّة، السياسيّة والثقافيّة معاً، وبجدارة.
عام 1987 توجهنا معاً، إبراهيم وأنا، إلى الجزائر لحضور مؤتمر اتحاد الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين هناك، وقد اخترنا أن نسلك طريق زيوريخ.
بدت لنا المدينة عند الوصول باردة، كموظفي البنوك المفرطين في التأنُّق والجلوس في هواء المكيفات التي بالغت في برودتها، أو كركام من الأوراق النقديّة الجديدة غير المستخدمة، المرصوصة خلف الزجاج، مؤكدة أنها لغيرك. كان الثلج يندف بغزارة في ليل المدينة، ما حال دوننا وسهرة تمنيناها ذلك المساء. وقد زاد الأمر إحباطاً حينما هبطت بنا الطائرة الجزائريّة في اليوم التالي، في جنيف، لتتوقف في مطارها عشر ساعات ظلّت تُغرقنا في ملل حاولنا كسره بالسخريّة من أحلامنا السويسريّة المُجهضة.
غير أن نهاية المؤتمر جاءت بما لم تُخطط له سُفن ابراهيم أو تشتهيه، أو تُبحر من أجله، حينما تمّ اختياره عضواً في الأمانة العامّة للاتحاد. كنتُ فرحاً من أجله، لكنه لم يُظهر فرحاً أو حزناً أو أدنى إحساس مختلف يمكن أن تلمسه لديه، ولم يُبدِ أيّ انفعال. فهم الذين زجّوه في مثل هذا الموقع.. (يصطفلوا)!
ثلاثة عقود من الزّمان، أو ما يزيد، عمل فيها إبراهيم برهوم في الإعلام الفلسطيني. لم يحد يوماً عن انتمائه الأكثر إخلاصاً، والأقلّ صخباً وضجيجاً، لحركة فتح.. انتماء صافٍ لا تعكِّره عصبيّة، ودون أن يترك أدنى التباس لانتماء آخر سوى لفلسطين.
مع ذلك، فقد أحزنني أن يخلو الإعلام الفلسطيني من خبر رحيل أحد صنّاعه المبكِّرين. ناهيك عن أن أيّة هيئة تنظيميّة للحركة، لم تكلِّف نفسها إصدار نعي يليق بمثقف فلسطينيّ ابتلى صدره بسموم النيكوتين، حينما منح قضيته قلبه وفكره وأعصابه، ورئتيه اللتين أعطبتا من دخان تبغ لم يكفّ عن الاحتراق، وإنهاك جسد منذورٍ للوهن.
ابراهيم برهوم، هو الفتحاوي الذي لم تعترف به حركة فتح في البداية، ولم تتذكّره في النهاية، رغم عُمر طويل من العطاء فيها، ومن أجلها.. وأجل فلسطين!.
wadi49@hotmail.com
لم يكن إبراهيم برهوم يحب طقوس الموت وعاداته التي تُمارس لدينا، فظلّ يتهرّب، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، من التردُّد على بيوت العزاء.
ـ ولا الأعراس أيضاً. سأظلّ أتجنّب حضورها!( يضيف بقناعة تبدو راسخة).
حتى عرسه هو، لم يحضره، لأنه لم يُقمْ أصلاً. وكنّا نعيش معاً زمناً نعتقد فيه أن إقامة عُرس هو نوع من أنواع الرذيلة التي ينبغي اجتنابها، فتزوجنا في العام نفسه، وبالأسلوب المتقشِّف الذي عرفته بيروت آنذاك.
ليس للسّبب الأوّل، وانسجاماً مع قناعاته، فاتني حضور مراسم دفنه، أو التردُّد على بيت العزاء خلال أيّامه الثلاثة التي أقامها له أهله رغماً عنه، ولكن لأن إبراهيم لم يشأ أن يخبر أحداً أنه راحل، فغادرنا بصمت وهدوء لا يشبهان إلاّ صمته وهدوئه نفسه، وتركنا، نحن الأصدقاء، نعرف بالأمر بالمصادفات البحتة، فنذهب إلى بيته متأخرين، نتأمّل رفوف الكتب وأصص الورد التي تركها خلفه ومضى، فنشعر بالغصّة أكثر وبحسرة الفقدان. وكانت "ليلى" تستقبلنا، للمرّة الأولى، بكامل حزنها، ومن غير رفيق لم يفارقها من قبل!
وليس بسبب موقفه المبدئي والحازم من الأعراس، استنكف إبراهيم عن حضور حفل زفاف "ريم" ابنته، ولكن لأن المرض كان قد تمكّن منه في ليلة العُرس وأقعده تماماً، فانزوى بعيداً عن الفرح، قابعاً في بيته مع أنفاسه الشحيحة.
حدث ذلك قبل أسبوعين تماماً من رحيله الأبلغ صمتاً، في الخامس عشر من حزيران الموسوم دائماً بالأحزان. وأكاد الآن، أسمع صوت إبراهيم وهو يقرأ بصوته نصّاً حزيرانياً يفيض حُزناً، طالما أحبّه، وهو بضعة سطور من رواية صديقه الحميم تيسير سبول "أنتَ منذ اليوم"، لينتهي إلى جملته الأثيرة: "طاف رجل معظم بلاد العالم ورأى كثيراً من الكوارث ولم ير شعباً بأكمله يغرق في الحزن مثل شعبي"!
علني أتحدّث عن مزاج فنان، وليس عن رجل إعلام وصحافة، كما هو معروف عنه، يكتب بعربيّة سليمة واثقة ويتحدّث بانجليزيّة طليقة.
مزاج فنان، نعم. فقد تعرفتُ إلى ابراهيم برهوم في بيروت قبل عامين من انخراطه في العمل الإعلامي الفلسطيني، وسكنّا معاً بيتين على التوالي، الأوّل مع ثلّة أصدقاء في سوق الغرب، والثاني في شارع جان دارك قرب بوّابة الجامعة الأميركيّة، أعاره لنا جميل هلال، الذي سافر آنذاك في عمل أكاديميّ لإفريقيا.
كان ابراهيم، عندما تعرّفت إليه، يكتب الشِّعر، ولكن دون حماسة شديدة أو قناعات راسخة (هو على أيّ حال، وخارج أسئلة فلسطين، لا يبدو متحمساً لشيء، وقد ظلّ شعاره الأثير يتلخّص في مفردة واحدة تتكرّر على لسانه: يصطفلوا!). وكنّا نشاهد السينما كثيراً ونقرأ الشِّعر والرواية، دون أن يتخلّى عن متابعة "الإيكونوميست".
لم يكن إبراهيم، حتّى ذلك الوقت، قد وجد له مكاناً في مؤسسات فتح يُحقق فيها ذاته ويحسِّن شروط معيشته، رغم أنه من كوادر التنظيم الذين انتظموا مبكِّراً في إحدى الدورات الحركيّة التي أقيمت في ألبانيا، وقد ظلّ يمتلك رقماً مالياً يمنحه مخصصاً يكفيه كفاف يومه. لم يتردد حينذاك عن الكتابة التطوعيّة للصفحة الثقافيّة التي أنشأناها العام 1974 في مجلّة "الحريّة. وعندما تحدّث ياسر عبد ربّه بشأنه لياسر عرفات، أجابه الأخير: "هو مسؤوليتكم. أليس عضواً في الجبهة الديمقراطيّة؟!". "لا إنه عضو في حركة فتح"، قال عبد ربّه، مضيفاً: "وهو يقبض مخصصاً من ماليّة فتح". فردّ عليه أبو عمّار قائلاً: "إنه ليس عضو الجبهة الديمقراطيّة الوحيد الذي يقبض من فتح!"!
مع ذلك، تبنّاه أحمد عبد الرحمن وألحقه في هيئة تحرير "فلسطين الثورة"، ولم يخيِّب ابراهيم أمل رئيس تحرير المجلة المركزيّة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة فيه، وأثبت على صفحاتها، حضوره ومقدرته الكتابيّة، السياسيّة والثقافيّة معاً، وبجدارة.
عام 1987 توجهنا معاً، إبراهيم وأنا، إلى الجزائر لحضور مؤتمر اتحاد الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين هناك، وقد اخترنا أن نسلك طريق زيوريخ.
بدت لنا المدينة عند الوصول باردة، كموظفي البنوك المفرطين في التأنُّق والجلوس في هواء المكيفات التي بالغت في برودتها، أو كركام من الأوراق النقديّة الجديدة غير المستخدمة، المرصوصة خلف الزجاج، مؤكدة أنها لغيرك. كان الثلج يندف بغزارة في ليل المدينة، ما حال دوننا وسهرة تمنيناها ذلك المساء. وقد زاد الأمر إحباطاً حينما هبطت بنا الطائرة الجزائريّة في اليوم التالي، في جنيف، لتتوقف في مطارها عشر ساعات ظلّت تُغرقنا في ملل حاولنا كسره بالسخريّة من أحلامنا السويسريّة المُجهضة.
غير أن نهاية المؤتمر جاءت بما لم تُخطط له سُفن ابراهيم أو تشتهيه، أو تُبحر من أجله، حينما تمّ اختياره عضواً في الأمانة العامّة للاتحاد. كنتُ فرحاً من أجله، لكنه لم يُظهر فرحاً أو حزناً أو أدنى إحساس مختلف يمكن أن تلمسه لديه، ولم يُبدِ أيّ انفعال. فهم الذين زجّوه في مثل هذا الموقع.. (يصطفلوا)!
ثلاثة عقود من الزّمان، أو ما يزيد، عمل فيها إبراهيم برهوم في الإعلام الفلسطيني. لم يحد يوماً عن انتمائه الأكثر إخلاصاً، والأقلّ صخباً وضجيجاً، لحركة فتح.. انتماء صافٍ لا تعكِّره عصبيّة، ودون أن يترك أدنى التباس لانتماء آخر سوى لفلسطين.
مع ذلك، فقد أحزنني أن يخلو الإعلام الفلسطيني من خبر رحيل أحد صنّاعه المبكِّرين. ناهيك عن أن أيّة هيئة تنظيميّة للحركة، لم تكلِّف نفسها إصدار نعي يليق بمثقف فلسطينيّ ابتلى صدره بسموم النيكوتين، حينما منح قضيته قلبه وفكره وأعصابه، ورئتيه اللتين أعطبتا من دخان تبغ لم يكفّ عن الاحتراق، وإنهاك جسد منذورٍ للوهن.
ابراهيم برهوم، هو الفتحاوي الذي لم تعترف به حركة فتح في البداية، ولم تتذكّره في النهاية، رغم عُمر طويل من العطاء فيها، ومن أجلها.. وأجل فلسطين!.
wadi49@hotmail.com

المصدر: 
الأيام