فلسطين: الحقائق في مواجهة الأساطير

بقلم: 

عرّفت معاجم اللغة العربية الأسطورة على أنها ‘أحاديث تشبه الباطل’، و’حديث ملفق لا أصل له’. وقد صاحبت القضية الفلسطينية قديماً وحديثاً أساطير عديدة؛ منها ما اختلقه بعض الفلسطينيين، ومنها ما اختلقه أعداؤهم، ومنها ما اختلقه إخوانهم وجيرانهم. آمل أن أتمكن في هذه السلسلة من كشف بعض تلك الأساطير، وتحديد الواقفين خلفها وكشف دوافعهم؛ لا لشيء إلا لأن الحقيقة مثلها مثل فلسطين؛ تستحق أن يُدافع عنها.

الأسطورة الأولى: مربع الحكم ومربع المقاومة

تقول الأسطورة: ‘لا يمكن الجمع بين الحكم والمقاومة’. متى ظهرت هذه الأسطورة؟ إن من يرجع إلى التاريخ الفلسطيني يجد أن هذه الأسطورة ظهرت على استحياء بعد فوز حركة المقاومة الإسلامية ‘حماس′ بانتخابات المجلس التشريعي عام 2006، وتشكيلها للحكومة العاشرة. أما بعد الانقسام الفلسطيني في العام اللاحق، فقد وجدت الأسطورة المناخ الملائم لنموها وانتشارها؛ حتى أصبحت عند البعض قناعة راسخة، وبديهية من بديهيات المشهد الفلسطيني. ومن اللافت أن حركة فتح قد جمعت بين الحكم والمقاومة؛ ففي الفترة بين 1994-2006، كانت هي من تقود السلطة الفلسطينية بشكل منفرد، وفي نفس الوقت كان جناحها العسكري، كتائب شهداء الأقصى يقوم بعمليات متفرقة من حين لآخر، لكن، ويا للعجب، لم تظهر الأسطورة وقتذاك.

وحين مناقشة الأسطورة تبرز عدة أسئلة إلى الواجهة، أسئلة مثل: ما هي الأسس الدينية أو السياسية أو الاجتماعية التي تستند إليها هذه الأسطورة؟ ما هي الأمثلة التاريخية التي تشهد لصحة هذه الأسطورة؟ ومن هو المستفيد منها؟

أما الأسس الدينية؛ فإذا اعتبرنا أن جهاد الدفع والمقاومة مترادفان، وهما كذلك في حالة التزمت المقاومة بخصوصيتها الإسلامية، فإن الشريعة تستنفر الأمة كلها لدفع العدو المحتل وإخراجه من أرض المسلمين، إلا أنها تجعل الواجب الأول في ذلك على ولي أمر المسلمين الذي يلي حكمهم. ثم ان القرآن أمر بجهاد الدفع في قوله تعالى: ‘أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا’، وبين أن ذلك واجب ولي أمر المسلمين: ‘يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم’. الخلاصة إذن إن الفصل بين الحكم والمقاومة لا يستند إلى أي أساس ديني.

أما السياسة؛ ففي أبسط تعريفاتها هي رعاية مصالح الناس، وكما أن حكم الناس هو رعاية لمصالحهم المعتادة، فإن الدفع عنهم هو رعاية لمصالحهم الطارئة، لا فرق ولا تفريق. لذا نجد ابن تيمية يقول للسلطان الناصر محمد بن قلاوون، عندما لمس منه بعض التردد في الخروج لملاقاة التتر، الذين هاجموا الشام وهددوا دمشق: ‘إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه في زمن الخوف، ويستغله في زمن الأمن، ولو قُدّر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله، وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه، وأهله رعاياكم؟’. أما إذا تحدثنا عن الأسس الاجتماعية؛ فمؤسس هذا العلم عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله، بعد أن عرف الخلافة على أنها ‘نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا’ يأخذ في سرد شروط هذا المنصب، ويورد منها أن يكون ‘..قويّا على معاناة السياسة ليصح له بذلك ما جعل إليه من حماية الدين وجهاد العدو وإقامة الأحكام وتدبير المصالح’.

نستنتج مما سبق أنه لا توجد أسس دينية ولا سياسية ولا اجتماعية لتلك الأسطورة، بل على العكس تماماً، فإن الدين والسياسة وعلم الاجتماع ترشدنا إلى تلازم سياسة الناس والدفع عنهم. والتاريخ وأحداثه أيضاً يثبت خطأ الأسطورة، فافتراق الحكم عن المقاومة أدى دوماً إلى فشل الحكم واستضعاف المقاومة؛ حدث ذلك في الخلاف بين الخديوي توفيق الحاكم، وأحمد عرابي المقاوم، فهزمت المقاومة في التل الكبير، وفشل الحاكم لأن الانكليز استعمروامصر في النهاية، وذلك في العام 1882.

وحدث ذلك بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والنظام الملكي الحاكم في الأردن، فحدث التصادم الدموي في أيلول الأسود عام 1970، وخرجت المنظمة من الأردن. وسجل الفشل على الاثنين: المقاومة لأنها أخرجت من بلد هي خزانه البشري الاستراتيجي، وهي صاحبة الحدود الأطول مع الكيان، أما الحكم ففشل في إدارة شؤون المملكة لأنه أرسى نظاماً يجعل الأردني من أصل فلسطيني مواطناً من الدرجة الثانية، كما أنه يجعل مقاومة الكيان من المحرمات، وارتضى أن يؤكد الطبيعة الوظيفية لبلاده.

أما المستفيد من الأسطورة؛ فبلا شك الكيان الصهيوني؛ ذلك أن هذه الأسطورة توفر أرضية خصبة لمن يريد الهجوم على المقاومة والإساءة إليها، وإظهارها بمظهر المرتد على عقبيه يريد متاع الحياة الدنيا، وبهيئة من استبدل البنادق والخنادق بالـسيارات الفارهة والفنادق، وقد سمعناها في القطاع ممن أُشرب قلبه ذلك فقال: ‘ركبوا الكايات ونسوا الغايات’. والكايا أو الكِيا KIA – لمن لا يعلم- نوع من السيارات الحديثة.

وأما المستفيد الثاني، فهو الطرف الفلسطيني والعربي المستغرب الحريص على إفشال أي تجربة حكم إسلامية، بل والحريص على إنهاء المقاومة أيضاً لأنها تكشف عُريه أمام شعبه، وتفضح أكاذيبه بأنه لا يمكن تحرير الأرض، ولا طاقة لأحد بالكيان وجنوده، كما تهدد دوره كحارس للمصالح الغربية في المنطقة. وأما المستفيد الثالث، فهم مقاومون حديثو الأسنان، أو أقل عدداً: فحديثو الأسنان يريدونها مقاومة على عواهنها، ويسوؤهم التبصر الذي يجب أن يتحلى به من يحكم وإن كان مقاوماً، وأما الأقل عدداً فمن باب التنافس على اجتذاب العناصر من جهة، ومن باب الرغبة في تصدر واجهة العمل المقاوم من جهة.

وقد اشتركت الأطراف الثلاثة في صنع هذه الأسطورة، بدرجة أو بأخرى، وفي الترويج لها، غير أن دور الطرف الثاني كان هو الأكثر وضوحاً، ذلك أن التنافس السياسي وقت الانتخابات، ومحاولات إفشال الحكومة العاشرة بعد الانتخابات، ومن ثم احداث الانقسام، كل ذلك كانت تستخدم في أثنائه الأسطورة كسلاح رئيسي للتشهير بحركة حماس وحكومتها وقياداتها. ويسأل سائل مع كل ذلك أما كانت حماس في سعة من أمرها عندما لم تكن في الحكم؟ أما كانت أنبل سمعة وأحسن صيتاً؟ أما كانت انجازاتها في الجهاد والمقاومة أكثر تأثيراً على الكيان؟ وهي أسئلة مشروعة ولكنها ترتكز للأسف على ذاكرة الشعوب الضعيفة، من جهة، وعلى قصور في التحليل والاستنتاج من جهة أخرى؛ وتفصيل ذلك أن حماس لم تكن قط في سعة من أمرها؛ لا في عصر الاحتلال، ولا في عصر السلطة، فالملاحقات والاعتقالات والحصار المادي والإقصاء الوظيفي، بل والاجتماعي كل ذلك كان يحدث في العصرين، وإن كان أشد سوءاً في عصر السلطة، لأنها كانت أدرى بشعاب مكة، من جهة، ومن جهة أخرى لأنها كانت تضفي على كل ذلك غطاءً شرعياً؛ فالملاحقات تتم باسم الحفاظ على الأمن القومي، والاعتقالات تتم بتهمة الإضرار بالمصلحة العليا للشعب الفلسطيني، والحصار المادي يتم باسم تجفيف منابع الإرهاب، والإقصاء الوظيفي والاجتماعي يتم باسم عزل العناصر الخطرة والمشبوهة التي تسعى لإفشال المشروع الوطني الفلسطيني.

فإذا نظرنا إلى نبل السمعة وحسن الصيت نرى أن حماس كانت متهمة دوماً ومنذ انطلاقتها عام 1987 بأنها البديل المدعوم صهيونياً لمنظمة التحرير، وبأنها حركة تابعة لإخوان مصر وليست حركة وطنية، كما اتهمت بالتبعية لإيران. وبعد قيام السلطة اتهمت بأنها حركة عدمية، وبأنها لا تقدم حلولاً عملية للقضية الفلسطينية، ثم اتهمت بمحاولة تخريب اتفاق أوسلو مناكفة في المنظمة وحسداً، ثم أخيراً ومنذ عملية الدولفيناريوم التي نفذها الاستشهادي سعيد الحوتري عام 2001، أدينت عملياتها ووصفت بالإرهابية، فكانت أول مرة في التاريخ الفلسطيني يدين طرف فلسطيني عملاً عسكرياً ضد الصهاينة ويعتبره إرهاباً، فأين نبل السمعة وحسن الصيت إذاً؟

أما من ناحية الانجازات على مستوى المقاومة، فلا بد من الانتباه لنقطة مهمة، وهي أنه لا يمكننا القول ان حماس قد تراجعت عن المقاومة، بل يجب الانتباه إلى أن مقاومة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى هي التي أخرجت الاحتلال الصهيوني من قطاع غزة، فكان من الطبيعي أن يقل مستوى العمليات ضد الكيان انطلاقاً من غزة، لأن نقاط الاحتكاك المباشر قد تقلصت وانحصرت في الشريط الحدودي، أي ما يعرف بالخط الأخضر. أما بالنسبة للضفة الفلسطينية؛ فهناك عدة أسباب لانخفاض عدد العمليات المنطلقة منها: من هذه الأسباب الجدار الفاصل الذي بدأ بناؤه منذ عام 2002، وهناك أيضاً الملاحقة الأمنية الشرسة للحركة بعد الانقسام الفلسطيني عام 2007، وقد صرح آفي مزراحي قائد قوات الاحتلال في الضفة، بأن أجهزة السلطة قامت بإحباط العشرات من العمليات الفدائية التي ينوي مقاومون فلسطينيون تنفيذها في الضفة المحتلة، وذلك في لقاء متلفز له بث على القناة الصهيونية الثانية في العام 2011.

قد يكون هذا صحيحاً بالنسبة للعمليات الاستشهادية، أو الفدائية، ولكن لا يمكن حصر المقاومة في هذا النوع من العمليات، لا يمكن تجاهل انتصار المقاومة في حربين شرستين شنهما الكيان بالطائرات والصواريخ والدبابات والبوارج، لا يمكن تجاهل تطور تقنية صواريخ المقاومة، ووصولها للقدس ولبئر السبع ولتل الربيع،لا يمكن تجاهل عملية أسر شاليط في العام 2006، ونجاح المقاومة في الاحتفاظ به حياً، ومن ثم تحرير ألف من الأسرى في مقابل الإفراج عنه. هذا كله تم والمقاومة في الحكم.

أضف إلى ذلك كله تسيير أمور الناس وتدبير معاشهم في ظل حصار خانق فرضه الشقيق قبل العدو على أهل القطاع، وتحقيق استقلالية القرار الفلسطيني حقاً لا شعاراً، حيث لا تتحكم أموال شرقية أو غربية في هذا القرار، ولاحظ الخروج الكريم لقيادة حركة حماس من سورية؛ حفاظاً على قرارها المستقل وتمشياً مع مبادئها القاضية بحق الشعوب في التحرر من الطغيان. ويجب ألا ننسى أن تجربة حماس في الحكم كشفت الوجه الحقيقي للشعب الفلسطيني على أنه شعب يرفض الاستسلام، وينبذ الهوان، شعب متمسك بدينه ووطنه وثوابته، بعد أن كانت صورة شعبنا قد تلوثت وظهرت بمظهر المتخاذل اللاهث وراء سراب السلام. وإن شئت فأضف إلى ذلك إلهام العالم العربي كله بإمكان التحرر، بإمكان أن تكون عزيزاً في وطن عزيز، فكانت ثورات الربيع العربي وليدة لتجربة جمع الحكم والمقاومة وتحديها للعالم.

لا أقول أن تجربة حماس في الحكم خالية من الشوائب والأخطاء، فهناك الكثير الذي يمكن بذله للسير قدماً وترسيخ مفهوم المقاومة – الحاكمة، من ذلك النهوض بالدور الرقابي للمجلس التشريعي، والعمل على إشراك أطياف أخرى في الحكومة، خاصة حركات المقاومة، وإفساح الصدر للنقد البناء، والفصل بين العمل الحركي والعمل الحكومي، والسعي الجاد والحثيث لتوحيد الأذرع العسكرية للمقاومة لتكون نواة جيش فلسطين العتيد.

هل كان العرض السابق كافياً لدحض الأسطورة ودفنها؟ آمل ذلك فالشعوب لا تسير قدماً إلا على أشلاء أساطيرها، والعقول المكبلة بالأكاذيب لا تجرؤ على الحلم، وحلمنا أصبح قريباً، بل في متناول اليد: الحلم بفلسطين حرةً، الحلم بالأقصى مطهراً.. يرونه بعيداً..ونراه قريباً..والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

 

المصدر: 
القدس العربي