«الحمدالله»: صلاحيات لا تكفي لانتحار «الضمير»!

بقلم: 

خلال كتابة هذه السطور زوال أمس الأحد، أفادت وكالات الأنباء بأن محمود عباس، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، قرر أخيراً قبول استقالة رئيس وزرائه المكلف، «رامي الحمدالله»، مُنهياً بذلك محاولاته طوال الأيام الماضية لإقناع «الحمدالله» بالعدول عن التنحي من منصبه الذي أدى اليمين الدستورية فيه منذ وقت وجيز. وبعد اجتماعين عُقدا في مقر الرئاسة، سبقتهما وأعقبتهما اتصالات هاتفية بين الرجلين، علاوة على وساطة لغسان الكشحة، بقي «الحمدالله» مصراً على قرار استقالته، نافياً ما تردد يوم السبت من أنه تراجع عن القرار وقبِل العودة لمنصبه الجديد.

ولعله من المفهوم أن يعترض عباس على استقالة رئيس وزرائه بهذه السرعة، وذلك منعاً للإضرار المعنوي بصورته داخلياً وخارجياً، وحتى لا يعطي الفرصة لخصومه في «حماس»، وداخل «فتح» أيضاً، كي يصفوه بالعجز عن اختيار الشخص المناسب لهذا المنصب الحساس، أو ينعتوه بالسلطوية التي تجعل كل من يترأسون الحكومة يضيقون ذرعاً من استحواذه على السلطات والصلاحيات. فقد تمحور الخلاف الذي نشب مبكراً بين عباس ورئيس وزرائه المعين، حول قسمة الصلاحيات وسلطة القرار، حيث أراد رئيس السلطة منح الحمدالله سلطات أقل مما كان لسلفه سلام فياض الذي استقال في أبريل الماضي محتجاً على التدخل المتواصل في صلاحياته وتقليصها تدريجياً من جانب عباس.

ومع ذلك فالحمدالله كان يعلم أنه يأتي إلى رئاسة الحكومة بصلاحيات أقل من مما كان لفياض. وهي حكومة كانت ستأتي امتداداً للحكومة السابقة، إذ يحتفظ معظم الوزراء بحقائبهم الوزارية ويقتصر التغيير على وزارتي التربية والشؤون الاجتماعية. كما أنها حكومة تسيير أعمال مؤقتة ولحين قيام حكومة الوحدة الوطنية منتصف أغسطس القادم، برئاسة عباس، وفقاً لاتفاق القاهرة الموقع في يونيو الماضي بين حركتي «فتح» و«حماس».

ولم يكن إعلان تعيين الحمدالله يوم الثاني من يونيو الجاري، مفاجئاً لمتابعي الشأن الفلسطيني، فقد حصر أبومازن المنصب منذ قبوله استقالة فياض، بينه وبين محمد مصطفى، رئيس صندوق الاستثمار. لكن الحمدالله اعتذر بدايةً، فاختار أبو مازن مصطفى، لكنه عاد وأقنع الحمدالله بقبول المهمة لاحقاً.

وفي أجواء المواقف المرحبة والإشادات الدولية بتعيين الحمدالله، توالت التصريحات المحلية حول قدرات رئيس الوزراء الجديد وخلفياته المهنية والسياسية. فرغم أنه ليس معروفاً إلى حد كبير في الخارج، فهو أكاديمي فلسطيني مستقل، يوصف بأنه براجماتي مقرب من حركة «فتح»، ويرأس جامعة النجاح الوطنية في نابلس، أكبر جامعة فلسطينية، حيث تنسب له نجاحات في تطويرها وتوسيعها.

وقد ولد رامي الحمد الله عام 1958 في قرية عنبتا بمحافظة طولكرم شمال الضفة الغربية، لعائلة ثرية، لكنها مناضلة ولها تاريخها في العمل الثوري. فقد شغل عمه مركز رئيس بلدية عنبتا، وكان كلٌ من جده وخاله عضوين في البرلمان الأردني قبل عام 1967، كما كان جده حافظ الحمدالله أحد أشهر الشخصيات الوطنية في الضفة أبّان الانتداب البريطاني على فلسطين. أما الدكتور رامي الحمدالله نفسه، فهو أستاذ اللغة الإنجليزية واللسانيات التطبيقية بجامعة النجاح، والتي تخرّج منها ليصبح مدرساً بقسم اللغة، قبل أن يسافر لنيل شهادة الدكتوراه في بريطانيا عن أطروحة حول الأسماء الفلسطينية، والتي ذكر منها اثني عشر صنفاً، بينها أسماء حيوانات، وأطعمة، وأدوات، ومهن، وظواهر طبيعية، وصفات شخصية.

وعمل الحمدالله 30 عاماً بجامعة النجاح، حيث بدأ مسيرته مدرساً، ثم رئيساً لقسم اللغة الإنجليزية، فعميداً لكلية الآداب، ثم نائباً لرئيس الجامعة، فرئيساً لها. وخلال 15 عاماً أمضاها رئيساً لجامعة النجاح، استطاع إضافة نجاحات ملموسة؛ إذ وضعها في المركز الأول كأفضل وأكبر جامعة فلسطينية، وفي المركز السادس عربياً، كما تزايد عدد طلبتها ثلاثة أضعاف ليصل 20 ألف طالب موزعين على تسع كليات، أربع منها أضيفت في عهده، وهي الطب، والهندسة، والتمريض، والبصريات، علاوة على إذاعة خاصة للجامعة، ومركز استطلاع للرأي، ثم المستشفى الجامعي الذي افتتح مؤخراً ويحتوي على أربعمائة سرير.

واستطاع الحمدالله استقطاب التبرعات من الفلسطينيين المغتربين بما يتجاوز ثلاثمائة مليون دولار، ليقوم بتشييد وتجهيز الحرم الجامعي الجديد لجامعة النجاح، وهو بناء حديث ومتطور من الحجر الأبيض، قائم على إحدى تلال نابلس ويبعد ثلاثين ميلاً عن تل أبيب. ويفسر بعض مقربي الحمدالله نجاحه في جامعة النجاح بمقولة ينقلونها عنه، وهي أن «للفلسطينيين مجال واحد يجب أن يستثمروا فيه، ولا أحد يستطيع انتزاعه منهم، ألا وهو التعليم».

ويتمتع الحمدالله بعضويات أكاديمية وإدارية وسياسية، محلية وعربية وعالمية عديدة، فهو عضو اللجنة التوجيهية لصندوق إقراض الطلبة في مؤسسات التعليم العالي الفلسطينية، واللجنة التوجيهية لإدارة برنامج دعم الجامعات والمؤسسات التعليمية في فلسطين لدى الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، ومجلس إدارة اتحاد الجامعات الأوروبية العربية، والمجلس التنفيذي لاتحاد الجامعات العربية، والمجلس العربي لتدريب طلاب الجامعات العربية، والمجلس الأكاديمي العالمي، ومجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات، ومجلس أمناء جائزة فلسطين الدولية للتميّز والإبداع، ومجلس أمناء معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني، واللجنة التنفيذية لبرنامج التعاون الأوروبي الفلسطيني في مجال التربية. كما أنه نائب رئيس الأكاديمية العلمية الفلسطينية، ورئيس برنامج التعاون الأوروبي الأميركي الفلسطيني في المجالات الأكاديمية، ورئيس مجلس إدارة بورصة فلسطين، كما يترأس لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية منذ عام 2002.

وقد واجه الحمدالله، ولقبه «أبو الوليد»، امتحاناً شخصياً وعائلياً قاسياً في عام 2002، حين فقد ثلاثة من أبنائه في حادث سير مروع، بينما بقيت زوجته فاقدة الوعي لعدة أشهر. أما لقب «الضمير» فأطلقه عليه قبل عدة أعوام رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري، والذي قال في مقابلة صحفية أوائل الشهر الجاري: «لقد منحته هذا اللقب لأنه قلق على بلده وشعبه، قلق على جامعته. نحتاج شخصاً ينجز العمل بشكل سليم».

ويبدو أن قرار اختيار الحمدالله رئيساً للحكومة كان مريحاً لعباس؛ فهو يحظى بقبول داخلي وخارجي يضاهي ما كان لفياض، ابن محافظته طولكرم. وكونه من خارج حركة «فتح»، فذلك يقلل الصراعات والخلافات بين أعضائها، كما يمنح عباس مساحة كافية لخوض مناورات قادمة فيما يخص المصالحة مع «حماس».

لكن تكليف الحمدالله كان أشبه بدفعه نحو «مهمة انتحارية» في ظل حالة الانقسام السياسي، وأوضاع الركود التي يعانيها الاقتصاد الفلسطيني، ووجود حزمة ثقيلة من المشاكل الاجتماعية، بالإضافة إلى الضغوط الإسرائيلية اليومية، وسياسات الاستيطان المتواصلة في الضفة والقدس، وغياب أي أفق للتسوية السلمية.

وربما لذلك لم يشأ الحمدالله خوض تجربة «انتحارية» بصلاحيات ناقصة، فالقسمة التي أراحت عباس، لم يرتح لها ضمير «الضمير»!

المصدر: 
الاتحاد